محمد الأمين بحري
ناقد وأكاديمي ـ الجزائر
«سويت أمريكا» هي الرواية الأولى لزينب الأعوج، وهي النسخة المعدلة من طبعتها السابقة «مسلم فريلاند» التي نشرتها قبل هذه الطبعة بسنة واحدة، تحت اسم مستعار للكاتبة، وهو زينا ماريا، الصادرة عن منشورات بغدادي2021.
خطابات التفكيك الذاتي من المناص إلى النص
نتحدث هنا عن غلاف الطبعة الأولى من الرواية، الصادرة عن دار الوطن اليوم، حيث نجد فيه عدة خطابات، لكن الملاحظ أن كل هذه الخطابات مباشرة وصريحة ومعلنة. فالعنوان في الأعلى مكتوب باللغتين: العربية والإنكليزية، سويت أمريكا – Sweet America ، وقد فضلت الكاتبة أن تنقله بالمنطوق والمكتوب الأمريكي، لكن بحروف عربية فقط، ما يجعل هذا العنوان العربي ليس ترجمة للعبارة الإنكليزية، وإنما كتابة لها بحروف عربية، أي أنها اختارت العنوان الهجين على العنوان العربي، وهو خطاب يجتث العنوان من هويته العربية التي تقتضيها الترجمة (أمريكا الحلوة) ويمنحها هوية هجينة كتلك التي تكتب بها الرسائل العربية على هواتف من لا يحسنون لا اللغة العربية ولا غيرها، تماماً كما لو أن شخصاً عربياً أراد أن يحيي الآخر بلغته، دون أن يحسنها، فينقل له العبارة الإنكليزية بحروف عربية هجينة مثل: (هاي.. نايس توميت يو..). والهجنة هنا خيار سردي واضح على حساب أصالة اللغة التي يخاطب بها الكاتب قراءه، واشتغال على الهوية كاجتثاث واستغراب لا كمكون حضاري ينتمي إليه الكاتب ويكتب به نصوصه. وهنا تظهر الهوة الفارقة بين المستوى الهجين للعنوان والمستوى الأصيل الفصيح الذي كتب به النص. والغاية من توظيف هذه المستوى الهجين للغة العنوان وخطابه، لا تحمل للنص أي سمة جمالية أو فنيه، كونها تتعداه إلى سياقات خارجية. أما على مستوى اللوحات الانطباعية على غلاف الرواية، فنجد أسفله صورتين: على اليسار علم أمريكا مرفرفاً وكبيراً بألوانه البيضاء والزرقاء والحمراء، يحتل ربع مساحة الغلاف. ما يعطيه أهمية خاصة في هندسة التصميم، كما في التلقي التسويقي. وعلى اليمين منه، صورة كبيرة أيضاً لمارتن لوثر كينغ. واضعاً أصابع يده اليسرى على خده، وأمامه للأسفل عبارته الشهيرة بالإنكليزية (I have a Dream) التي تمت مضاعفة دلالتها، بدمجها مرة أخرى في عنوان آخر فصل من فصول الرواية (رأيت حلماً). ثم تضاعف هذه الدلالة مرة أخرى بجعل إحدى الشخصيات السوداء في الرواية تحمل اسم «لوثر» وتخاطبه بقية الشخصيات بأنه يشترك مع مارتن لوثر في التسمية والدلالة على جدلية التسامح والعنصرية، ما خلق حشواً فكك كل رمزية محتملة لموضوع التسامح ولهذه الشخصية الرمز التي تم تبئيرها في النص بكل الوسائل الخطابية حد التفكيك وفقدان إشعاعها الدلالي باعتبارها رمزية.
العنوان وخطابات المحتوى
إن أخذنا العنوان باعتباره العتبة الأولى للنص وأول خطاباته المباشرة، الذي يصرح علناً ودون أي رمزية، أو إحالة، بمدح أو بالأحرى تغزل مباشر بكل ما هو أمريكي (سويت أمريكا) عنوان لم يحدث أن خاطب به أي روائي عربي في بلده أو مدينته أو قريته. لاعتقاد شائع أنه لا قيمة له إلا إن كان صادراً من هناك ومتجهاً إلى هناك. وهناك دوما شغف للتقدير والاحتفاء المأمول لدى هذا النمط من الروائيين الاستغرابيين، معتقدين بأن العالمية ستأتي فقط من هناك.. فأمريكا في هذه الرواية حلوة حتى في سلوكها العنصري، وفي التطرف الذي تتبنى الرواية كشفه ونبذه كعلامة على الدمقرطة والروح الأمريكية، التي يشغف بها النص حد التماهي. مثل ما نقرأه على لسان شخصية آري: وهو ابن مسيو باسكال صاحب مقهى- بار لايت كافي (مقر الحركات المتطرفة ضد الأجانب) حين قال: «إن الوافد الجديد، مسلم خطير، لحيته تخفي إرهابيا سرياً». تماثلاً مع العنوان تمتلئ الرواية بهذه التوجيهات والمكاشفات السردية المعلنة في خطابها الموجه، دون أي صبغة إيحائية أو تخييلية، كأنما لا تحفل بما تقدمه للقارئ، بقدر ما تطرح أمامه مثل هذه التوجيهات الخطابية الصريحة المعروفة المصدر والغاية حد الابتذال، والتي يمتلئ بها النص، ما يجعل من الرواية نفسها جملة من الأنساق الغربية المستهلكة حتى لدى الأمريكيين أنفسهم، حتى ليشعر القارئ العربي أنه خارج معادلة المقصدية الروائية، التي لا تتجه إليه ولا تعنيه بخطابها، إلا أن الحوارية بين الأنا والآخر تبقى نقطة قوة جوهرية في هذا النص، الذي حافظت الكاتبة على قدر كبير من توازنه الفكري والفني، بنسج توليفة من العلاقات السردية والثقافية بين الأنا والآخر، التي منحت النص بعداً فكرياً وثقافياً، رغم جفاف خطاب الحوار وتقريريته.
الموضوع الطرح الفكري
تتناول الرواية موضوعاً واحداً هو العنصرية في أمريكا، من خلال عينة مدينة «ويست فريلاند» التي تهيمن عليها جمعيات متطرفة من العنصريين المتطرفين، زرعت الروائية بينهم عائلة مسلمة، وهي عائلة بطل الرواية: «جيل خوري» أو جلال (كما يزعم متطرفو المدينة) مسيحي من الشام، اعتقدت الجماعات المتطرفة ـ بسبب ملامحه العربية، ولحيته المنسدلة – أنه مسلم إرهابي، جاء إلى مدينتهم، التي تنبذ الأغراب، ومن هنا تبدو العقدة واضحة للقارئ، وتطرح سؤالاً قاسياً منذ بدايتها: كيف ستعيش عائلة ذات أصول عربية، في وسط مدينة عنصرية تنبذ الأغراب وتعتنق الإسلاموفوبيا والعربوفوبيا شعاراً لساكنتها؟ تنسج الرواية إشكاليتها هذه، وفق طرح معزوف على إيقاع المنظور الأمريكي في العنصرية والتسامح، مشتغلة على طروحات مثل: الإرهاب الإسلامي، في مواجهة الإرهاب العنصري، شأن غيرها من الروائيين الجزائريين ذوي الميولات الاستغرابية، الذين بنوا مفاهيمهم للسرد على وجهة النظر الأمريكية – وإثارة مواضيع رائجة في وسائل الإعلام الغربية مثل: التسامح القائم على الاعتراف بالهولوكوست واحتضان السامية ـ بداية من معاداة النازية، وتبدو هذه النزوعات جلية في روايات واسيني الأعرج «أصابع لوليتا، مملكة الفراشة، سوناتا لأشباح القدس» ياسمينة خضرة «الصدمة، سنونوات كابول، سيرينيات بغداد» كمال داود، بوعلام صنصال، وغيرهم ممن جعلوا من تلك الثيمات ذات الرواج الواسع في الإعلام الغربي، إعلاناً لحسن النوايا المتبنية لجميع وجهات نظر تلك القطبيات الترويجية والخطوط الافتتاحية لمراكزها الغربية. علناً ودون نقاش ولا تحوير، أو إضمار تخييلي.
بناء الشخصيات من تفكيك الهوية إلى نمطية التهجين
لعل أولى الملاحظات التي يسجلها القارئ لهذا النص، أن الشخصية البطلة فيه عربية الأصل والاسم الأصلي (جلال) وأجنبية الكنية (جيل) يعني أنها شخصية مزدوجة التسمية (أصل الاسم عربي وكنيته غربية) وهذه الظاهرة نجدها تتكرر بشكل متكرر ولافت في جل الروايات الأخيرة لواسيني الأعرج، وبالخصوص في |أصابع لوليتا ومملكة الفراشة». كما تفتقد الشخصيات العربية ذات الأسماء الهجينة في رواية «سويت أمريكا» (تماماً كما في روايات واسيني) لعنصر الهوية، التي تبدو فاقدة لها، كونها مُجتثة من أصولها ومغروسة بشكل هجين في ثقافة وحضارة يبدو انسجامها معها مصطنعاً وزائفاً إلى بعد الحدود، وهذا في حد ذاته اشتغال من منظور تفكيكي على الهوية، أو ما يمكن أن نسميه: أزمة هوية تفتقدها الشخصيات باطنياً، وتشتغل عليها النصوص ظاهرياً، باعتبارها مصدر التأزم، ومثار الوعي الشقي لدى تلك الشخصيات الهجينة في بنائها وأزمتها، أي أن الاشتغال الروائي على الهوية كان باعتبارها اجتثاثاُ وليس تأصيلاً وتجذراً. فالشخصية البطلة في رواية «سويت أمريكا» جيل (جلال) عربي الأصل مسيحي الديانة، من أصول شامية، مختص في ترميم المعابد والكنائس القديمة. زوجته «كايا» من أصول يهودية هندية، وابنتاه بالتبني (يامي من أصول أفغانية مسلمة) و(نويمي من أصول يمنية يهودية) والاثنتان تم إنقاذهما من حربي أفغانستان واليمن وتبنيهما من طرف الزوجين جيل وكايا. ليتشكل لنا الهيكل التسامحي لهذه الأسرة والمتمثل في أسرة من أربعة أشخاص، من أربعة أصول عرقية (شامية/ هندية/ أفغانية/يمنية) وأصول دينية ثلاثة: (مسيحي، ومسلمة ويهوديتان). لكن الأصل في جميع العلاقات ليست الهويات المرجعية العرقية أو الدينية، بقدر ما هو الاجتثاث منها، لتصب كلها في بوتقة واحدة هي التسامح المسيحي، وجنسية واحدة جامعة هي الجنسية الأمريكية؛ حيث يصرح جيل في الرواية بأنه ليس عربياً بل هو أمريكي، وأن اسمه جيل وليس جلال (2018) وأنه مسيحي وليس مسلماً، كما تدفن الطفلة ذات الأصول الإسلامية «يامي» في مقبرة مسيحية، ويقام لها قداس مسيحي، وتقرأ أناشيد القداس اختها «نويمي» ذات الأصول اليهودية، لتصبح مسيحية بدورها، وتنتهي الرواية باحتفالات إعادة ترميم كنيسة المدينة من طرف جيل، وسط قداس أعظم يحتضن الجميع. وهو ما يجعل من النص بأسره احتفالاً سردياً بالروح المسيحية، وتعاليمها السمحة، من بدايته إلى نهايته، ومن بناء شخصياته إلى حبكة أحداثه، وما الأصول الإسلامية للبطل (جيل) سوى وهم، يكذب تسميته بـ»مسلم فريلاند» كما يدعوه المتطرفون العنصريون. ليثبت أنه مسيحي المنشأ والمآل، وما الأصول الإسلامية واليهودية لابنتيه، سوى غشاء رفيع سرعان ما يتلاشى على إيقاع المبادئ المسيحية التي تحتوي الجميع في نهاية الرواية. وتبدو النهاية القداسية لهذا النص متماثلة تماماً مع نهاية رواية كتاب «الأمير» التي انتهت بقداس ملائكي للمونسنيور ديبوش، حيث احتفلت مثلها بمبادئ التسامح المسيحي، مع اختلاف بسيط، هو أن الأولى تغرس تلك المبادئ في سكان الجزائر وهم يشيعون القس الفرنسي (ديبوش) بالورود والدموع ويتبعون القداس الملائكي المهيب (وهو ما لم يحدث تاريخياً، بل فقط في المخيال الروائي للكاتب) والثانية تفعل الشيء نفسه مع تشييع الفتاة (يامي) شهيدة التطرف والعنصرية، وبقداس ثانِ أضخم، وهو الأخير عند افتتاح الكنيسة التي بدأت الرواية بترميمها من طرف البطل جيل وانتهت بتدشينها في قداس رسمي مهيب. وهذا هو شاطئ الأمان الذي انتهت إليه الرواية. وحلت به عقدتها العنصرية.
ملاحظات ختامية:
على مستوى التشخيص، يبدو أن الكاتبة اختارت لشخصيات روايتها أسماء قد أشكلت عليها هي نفسها، حيث تسمي ابنتي البطل جيل، يامي ونويمي.. لكن بمرور الصفحات والأحداث تنساهما، فتصيح يامي (مايا) ص176، وتصبح نويمي (ناومي) ص244، وظاهرة نسيان أسماء الشخصيات واختلاطها على كاتبها، دلالة أخرى على تأثيرات كثرة الكولاج، وعدم التحكم فيه، والنشاز في الأسماء الملصقة للشخصيات على غير نماذجها البشرية المناسبة، وكذا على هجنة النص بين يدي كاتبه، وعدم ألفته ومعرفته للبيئة الغيرية التي يقتحمها، ومأزق وقوعه في نسيان وخلط الأسماء بين شخصياته عامل من عوامل الهجنة والغربة التي يعانيها النص تجاه فضائه السردي، وهو يقتحم فضاءً غربياً يؤكد المستوى المعرفي للكتابة غربته عنه. ومن بين مؤشرات الهجنة النصية في أسلوب الكتابة، نجد خليطاً من اللهجات المغاربية والمشرقية في خطاب الشخصية الواحدة. على الرغم من أن الرواية بعيدة كل البعد عن البيئة الجزائرية. فنسمع البطل جيل يخاطب ابنته يامي بلهجة جزائرية: [مالاكنش]، وهي كلمة تعني: دون لكن.
ونسمع «كايا» زوجته وأم ابنيته بالتبني تقول: (إذا ما في إزعاج) وهي لهجة شامية. بينما تتكلم ابنتهما يامي (ذات الأصول الأفغانية) باللهجة المصرية، فتقول: (عجلات السيارة خربانة). ثم نجد (يامي) تتحدث باللهجة المغاربية، وتحديداً الجزائرية حين تقول لأبيها (فهمت يا بابا معليهش). وتارة أخرى يستعمل البطل جيل قاموساً فرنسياً بحتا، حين يقول (والكنيسة تحولت إلى SDF) والأغرب من ذلك أن الكاتبة نفسها تترجم هذا الاختصار في الهامش بالفرنسية وليس بالإنكليزية، فتكتب شارحة هذا المصطلح بالفرنسية (Sans Domicile Fix بلا مأوى). فكيف تتحدث الفتاة الأمريكية ذات الأصول الأفغانية باللهجة المصرية ثم اللهجة الجزائرية؟ وأبوها بالتبني يرد بالفرنسية وزوجته اليهودية الهندية تتكلم بالشامية في خليط لهجي لا يتوافق مع أي منطق للفهم.
وما زاد الأمر نشازاً وهجنة، هو أن جميع الشخصيات تعيش في فضاء مدينة ويست فريلاند الأمريكية.. فلا يدري القارئ، أي علاقة لهذا الخليط من اللهجات المغاربية والمشرقية والفرنسية التي تتحدث بها شخصيات تنتمي إلى أسرة واحدة في الرواية، ما يطرح أكثر من سؤال حول أزمة النص الاستغرابي الهجين في الرواية العربية؟
والملاحظة الأخيرة التي نسجلها على النص، هي المثالية المفرطة والتصنع المبالغ فيه في علاقات شخصيات الأسرة الواحدة، وهي مثالية عمّقت من هجنة النص وزادته بعداً عن الإيهام بالواقع والتخييل معاً. إذ تقدم لنا الرواية أسرة كاملة ومثالية في انسجامها وتلاحمها، فلا تقع بينها أي مشكلة داخلية، بل إن ما يقع لها من مشاكل تأتيها فقط من الخارج، كأنما هي عائلات ملائكة لا تعرف المشاكل والصراعات العائلية إليها سبيلا، بل إنها هي المصدر الدائم لإشعاع السلام والأمان نحو المدينة، وأن كل ما تحياه هذه العائلة من أزمات ومشاكل في النص يأتيها كاعتداء من الخارج فقط، كفعل إرهابي أو عدواني أو استهداف من قوى الشر الخارجية. أما علاقاتها الداخلية فلا تعرف سوى المدح والغزل والتعاطف المثالي، كأسرة منزهة ومتسامية على المشاكل الداخلية للأسر البشرية، وقد تسببت هذه المثالية والعصمة المطلقة من الصراع العائلي البشري، إلى ابتعاد شخصيات الرواية عن إيهامها بالبعد الواقعي والتخييلي معاً، خالقة هوة سحيقة بينها ما تحاكيه من وقائع. وهذا العنصر تحديداً هو الذي تسبب في قتل بنية الصراع الدرامي المفترض في النص.
ونلخص جميع هذه الملاحظات، في أن البحث الواضح من طرف الكاتبة على التماهي والانسجام مع الهواجس الغربية والأمريكية خاصة، أفقد نصها الكثير من الانسجام في منطقه السردي الذي فككت رمزيته، وتفك بناء شخصياته داخلياً وخارجياً. وتبقى هندسة النص الدورانية التي جعلت لفيف الأحداث يشتد ونسقها يتصاعد كلما ازدادت دورانا حول محورها الموضوعاتي الوحيد. هي أهم سمة فنية تميز هذا النص.