ذ.عبد الحافظ الصاوي
خبير اقتصادي مصري
لم يكن حادث الطائرة المصرية التي حطت في زامبيا ليمر مرور الكرام، في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات، بالإضافة إلى الأجواء السياسية والاقتصادية المأزومة في مصر. فالحادث أصبح مجال متابعة ليس للمصريين فحسب، وإنما لكل المعنيين بالشأن المصري.
وتأتي أهمية الحدث في كون الطائرة تحمل ملايين الدولار وكميات من سبائك الذهب الخام وأسلحة وأشياء أخرى، ومن المعلوم أن مصر تعاني من أزمة في النقد الأجنبي، تمس جانبًا مهمًا من النشاط الاقتصادي.
فعدم توفير النقد الأجنبي أثر بشكل مباشر على معاملات مصر الخارجية، وبخاصة استيراد العدد والآلات ومستلزمات الإنتاج، فبيانات ميزان المدفوعات عن الفترة (يوليو/تموز 2022 – مارس/آذار 2023) تفيد بتراجع الواردات السلعية بنحو 13 مليار دولار، حيث بلغت خلال الفترة 44 مليار دولار، مقابل 57 مليار دولار في الفترة المقابلة من العام الماضي.
كما أن واحدة من كبرى الشركات المعنية بالصناعات الغذائية طالبت الحكومة مؤخراً بتدبير 34 مليون دولار لاستيراد مستلزمات إنتاج، حتى لا تتوقف عن الإنتاج، ويعد هذا حال العديد من المشروعات بأحجام وأنشطة المختلفة، فالجميع يعاني من شح في النقد الأجنبي، ويلجؤون للسوق السوداء لتدبير العملة.
أما الذهب، فهو حديث مثار منذ سنوات، عن كيفية التصرف في الذهب المنتج في منجم السكري، فتحيط به شائعات، ويحتاج الأمر إلى شفافية من قبل الحكومة، وبخاصة أن المنجم يعمل منذ سنوات، وعندما أرادت مصر أن يكون الذهب مكوناً معتبراً في احتياطياتها من النقد الأجنبي، لجأت لاستيراد الذهب وشرائه من السوق الدولية، وبقي السؤال لدى المصريين، أين ذهب منجم السكري؟
ليست الحادثة الوحيدة
الفساد في المنافذ الجمركية بمصر له تاريخ طويل، وتأتي ممارسات الفساد داخل مرفق الجمارك في صور مختلفة، بدءًا من الإكراميات وانتهاءً بتمرير سلع ممنوعة، أو تقاضي رشى نظير التغاضي عن القيم الحقيقية للواردات، أو السماح بتمرير صادرات ممنوعة، مثل الآثار، أو النقد الأجنبي أو المحلي، أو الذهب وخلافه.
والبنك الدولي في تعريفه للفساد، قسمه إلى قسمين، الأول: الفساد الكبير، وهو استخدام الموظف الحكومي لسلطته الوظيفية للحصول على مزايا أو منافع شخصية. والثاني هو الفساد الصغير، وتعريفه بأنه الإكراميات التي يحصل عليها صغار الموظفين.
وبلا شك، فإنّ تمرير الصفقات الكبرى عبر المنافذ الجمركية، بخاصة إذا ما كانت تحمل ممنوعات، من نقد أجنبي وذهب خام ومخدرات، يتطلب دفع رشى كبيرة، قد تطاول مسؤولين كبارا، كما هو محتمل في حادثة الطائرة المصرية، التي حطت رحالها في زامبيا.
وحينما نقول إنها ليست الحادثة الوحيدة، فإننا نرجع لمثال من الصفقات الكبرى، التي مرت من منفذ جمركي مصري، لكن هذه المرة، عبر منفذ بحري، وأيضاً اكتشِفت في دولة أجنبية، وهي إيطاليا.
ففي عام 2018 اكتشفت السلطات الإيطالية في أحد موانئها، حاوية دبلوماسية قادمة من مصر، ومحملة بعشرات القطع الأثرية، وكذلك 21.6 ألف عملة معدنية، ليكتشف بأنها تخص بطرس رؤوف غالي، شقيق وزير المالية في عهد مبارك يوسف بطرس غالي، والذي استمرت محاكمته عدة سنوات، وعوقب من محكمة النقض، بخمس سنوات سجناً ومليون جنيه غرامة، كانت تعادل 33 ألف دولار في تاريخ الحكم عليه في فبراير/شباط 2023.
والجدير بالذكر أنّ مرفق الجمارك، يعلن كل فترة عن قيام رجاله في المنافذ المختلفة بضبط بعض السلع التي يقوم أصحابها بتهريبها، وهي عادة غير ذات بال، وتثير سخرية المواطنين، خاصة المتابعين للإعلام، والسوشيال ميديا على وجه الخصوص.
تنامي الفساد
لم يكن الفساد في الحياة المصرية مقتصراً على مرفق الجمارك فقط، ولكنه يشمل مجالات عدة، خاصة النشاط الاقتصادي، أو الجهاز الحكومي، وأيضاً المحليات، ومرفقي الجمارك والضرائب، فضلاً عما يثار من الحصول على الوظائف عبر المحسوبية، والرشى بشكل أساسي.
ويلاحظ من خلال متابعة حالة مصر على مؤشر مدركات الفساد، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، أن وضع مصر متراجع بشكل واضح منذ عام 2014 وحتى عام 2022.
ففي عام 2014 كانت مصر تحصل على 37 درجة من درجات المؤشر المائة، بينما حصلت في عام 2022 على 30 درجة فقط، وهو ما يعني ترعرع الفساد خلال هذه الفترة. وعلى جانب ترتيب مصر بين الدول التي يشملها المؤشر وجد أنه في عام 2014، كان ترتيبها 96، بينما في عام 2022 تراجع الترتيب إلى 130.
لا يحتاج الأمر إلى مزيد من التحليل، لأن لدينا قرينة واضحة، وهي أن الإدارة العليا للبلاد وكذلك معظم المؤسسات الكبرى في الدولة، أصبحت تدار بواسطة عسكريين سابقين، أو حاليين، وهو ما يجعلنا نذهب إلى أن ذلك أدى إلى غياب المساءلة والحوكمة. ولا يتوقف الأمر على غلبة العسكريين في إدارة البلاد، لكن أين هو دور الهيئات والمؤسسات الرقابية، والتي تكلف ميزانية الدولة ملايين الجنيهات كل عام؟
أين رقابة السلطة التشريعية؟ فإذا كان هذا هو ترتيب مصر المتراجع على مؤشر الفساد، في ظل وجود هيئات ومؤسسات رقابية، فكيف سيكون الحال لواقع الفساد في مصر، إذا استغنينا عن هذه المؤسسات؟
بلا شك هذه الهيئات والمؤسسات الرقابية لها دورها المقدر، ولكن للأسف الشديد لا تمارس دورها على الوجه المطلوب. وفي هذا الإطار إذا كنا نتحدث عن دور الهيئات والمؤسسات الرقابية، فإنّ جانباً مهماً مغيباً في ممارسة الرقابة في مصر، وهو دور المجتمع المدني، بسبب الواقع السياسي المتراجع.
حديث الاقتصاد الأسود
المثالان اللذان أشير إليهما في هذا المقال، انما يعكسان سؤالاً مشروعاً ومهماً، هل باتت مصر سوقاً رائجاً للاقتصاد الأسود؟ فقد كنا نلاحظ بعض الإشارات في وسائل الإعلام المصرية، أو تقرير الأمم المتحدة الخاص بالجريمة، أن هناك ممارسات للاتجار بالبشر تتم في مصر، عبر الهجرة غير الشرعية، أو تجارة الأعضاء، ولكن أن تصبح كذلك ملاذاً لدخول نشاط الاقتصاد الأسود، إلى مجالات النقد الأجنبي، وكذلك الذهب والمخدرات، فنحن أمام تطور خطير، فما أعلن عنه من محتويات الطائرة المصرية، من نقد أجنبي وسبائك خام الذهب، لم يكن ليخرج بهذه الطريقة، إلا إذا كان نتيجة ممارسات أنشطة محرمة، أو مجرمة، وبذلك يكون الأمر فساداً مركباً، من ممارسة أنشطة مجرمة، وكذلك تهريبها لخارج البلاد عبر وسيلة غير مشروعة.
فمصر على الرغم من أزمتها في النقد الأجنبي على مدار السنوات القليلة الماضية، إلّا أنها سمحت بخروج أموال المستثمرين الأجانب بشكل منتظم، سواء كانوا يمارسون نشاطهم في استثمارات مباشرة أو غير مباشرة، ويدلل على ذلك بيانات ميزان المدفوعات لعام 2021- 2022، حين خرجت مدفوعات للاستثمار قدرت بنحو 16.8 مليار دولار.
ختاماً: إذا كانت حادثة الطائرة، قد كشفت عن حالة فساد، فإنها تلفت الأنظار إلى أن نتوقع أن الممارسة قد تكون أكبر من ذلك، فهناك حالات تم تمريرها، ووصلت إلى محطاتها النهائية بسلام. ونتمنى أن تدفع هذه الحادثة لأن يسعى القائمون على أمر البلاد، إلى بذل جهود أكبر لمكافحة الفساد، حتى ترتقي مصر بين دول العالم على مؤشر مدركات الفساد، وحتى يساعد ذلك بشكل أكثر أهمية في تنمية الاقتصاد.