ذ.غسان الاستانبولي
كاتب وباحث سياسي سوري
منذ بداية الحرب على سورية عام 2011، كان واضحاً أن المشروع الصهيوأميركي، هو إسقاط الدولة السورية، وتقسيمها إلى كيانات لا يُشكّل أيّ منها خطراً على “إسرائيل”، ولكن بعد الفشل الأميركي بخطته التي عمل عليها لتحقيق هذا المشروع، والتي تخطّت مرحلة تقديم الدعم المادي والمعنوي، لكلّ من يقاتل الدولة السورية، لتصل إلى مرحلة الدخول المباشر في الأعمال العسكرية، لدرجة أن يُقدم طيران ما يُسمى بالتحالف الدولي، الذي تقوده واشنطن، على قصف مدينة دمشق عام 2018.
دوافع الاهتمام الأميركي بشرق، وشمال شرق سورية
عندما تأكد الأميركي أن خطّته هذه وصلت إلى طريقٍ مسدود، تحوّل إلى خطّة بديلة تقضي بتقسيم الجغرافيا السورية على مراحل، وبناءً عليه، أولى اهتمامه المُباشر بمنطقة شمال شرق سورية، كمرحلة أولى، ولذلك صنع تنظيم “داعش” في تلك المنطقة، ثم صنع ميليشا “قسد”، بذريعة محاربة “داعش”، لتكون تلك المنطقة زاوية الإرتكاز للمباشرة بتنفيذ الخطّة البديلة، ومن هذه الزاوية دفعت واشنطن بأدواتها، في محاولةٍ للتمدّد باتجاهين، أولهما اتجاه الغرب، وذلك لوصل الشمال الشرقي بالبحر الأبيض المتوسط، مروراً بشمال مدينتي حلب واللاذقية، لعلّهم يؤمّنوا منفذاً بحرياً للكيان الكردي المُرتقب، ولكن هذه المحاولة فشلت بسبب التصدي التركي لها، باعتبار أن وجود كيانٍ كرديٍ على حدود تركيا، سيُمثّل تهديداً خطيراً لها، وخاصّة إذا اندمج هذا الكيان مع إقليم كردستان العراق، أمّا الاتجاه الثاني لهذا التمدّد فكان جنوباً، نحو مدينتيّ الرقة، ودير الزور، بحيث يُحقّق ثلاثة أهداف:
الهدف الأول هو السيطرة على منابع النفط السورية، وحرمان الدولة السورية من النفط، وبنفس الوقت لتمكين ميليشا “قسد” من دفع رواتب مُسلحيها، ولشراء العتاد، والسلاح، والذمم.
الهدف الثاني هو قطع التواصل البري بين العراق وسورية، وبالتالي قطع الشريان الأساسي الذي يصل طهران ببيروت، مروراً ببغداد ودمشق.
الهدف الثالث وهو الأخطر، والأهمّ، فكان وصل تلك المنطقة مع الحدود السورية الفلسطينية، مروراً بمنطقة التنف، ثم درعا، وصولاً إلى القنيطرة، وبذلك يكون الأميركي قد أتمّ بناء كيانٍ مجاورٍ وحليفٍ للكيان الإسرائيلي.
نعم نجح التحرك الأميركي بحرمان الدولة السورية من مُقدّراتها النفطية، وهذا هو السبب الأساسي للضائقة المعيشية للشعب السوري، ولكنّه فشل بالتمدّد غربا،ً وذلك بفضل تصدي سورية وحلفائها له، ومن ثم قطع هذا التمدّد في أكثر من مكان، وخاصّة في منطقتيّ البوكمال، وجنوب درعا.
ماذا يحدث في الشرق السوري الآن؟
من المعروف أن اشتباكاتٍ مسلّحة اندلعت منذ عدّة أيام، بين مُعظم العشائر العربية من جهة، وميلشيا “قسد” من جهةٍ ثانية، وذلك في منطقة شرق سورية، وتحديداً في ريف محافظة دير الزور، وسط عجزٍ أميركيٍ واضحٍ على إنهاء هذه الإشتباكات.
ومن الطبيعي بمثل هذه الأحوال أن يسود الأوساط الشعبية السورية الكثير من التحليلات، والكثير من الآراء، وسنحاول هنا أن نأخذ الرأي الأقرب للواقعية.
الرأي الأقرب للواقعية
عندما تأكّدت الولايات المتحدة الأميركية، أن المعركة مع سورية وحلفائها ستطول، وستكون قاسية، وحافلةً بالمطبّات، كان لا بُدّ من توسيع دائرة السيطرة، سواءٌ كانت هذه السيطرة جغرافية أو بشرية، فالسيطرة الجغرافية مَكّنت “قسد” من التمدّد جنوبا،ً باتجاه محافظتيّ الرقة، ودير الزور، أمّا البشرية، وذلك حين اشترت أشخاصاً من المحافظات الشرقية، وأطلقت عليهم لقب ” شيوخ عشائر”، ورؤساء مجالس عسكرية، ومدنية، ليحلّوا مكان شيوخ العشائر التاريخيين، المشهود لهم بحكمتهم وبثقلهم، وبوطنيتهم، واشترت لهؤلاء الشيوخ أتباعا،ً ليكونوا ضمن مليشيا “قسد”، وبهذا الشكل كَبّرت حجم “قسد” العسكري، ونَحّت جانباً أيّ تأثيرٍ للشيوخ الأساسيين.
يبدو أن الأميركي أخطأ خطأً فادحاً عندما حاول اللعب بالجنوب السوري، بأمل وصله مع الشمال الشرقي، وهذا برأي سورية ومن معها، خطٌ أحمر دونه حربٌ إقليمية، كما هو قطع طريق بغداد دمشق، كذلك يبدو أن شيوخ العشائر التاريخيين، وجدوا أن هذا الخطأ هو فرصةٌ للتخلّص من هيمنة “قسد”، ولنفض العار الذي لحق بهم من خلال ممارسات “شيوخ المال” و “مجالس الذلّ” التي أطلق عليها الأميركي مصطلح مجالس عسكرية.
ما من شكّ، أن الدولة السورية، ومن خلال أجهزتها الأمنية، وغير الأمنية، متواجدة ميدانياً في كلّ تفاصيل منطقة النفوذ الأميركي، وما من شكّ، أنّ غالبية السوريين في تلك المنطقة يتوقون لعودة السيطرة السورية عليها، والشيء الطبيعي أن يتعاون بعض السوريين، بمن فيهم الشيوخ الوطنيين للعشائر العربية، مع أجهزة الدولة السورية، والشيء الطبيعي أيضاً، أن يكون لهؤلاء دورٌ في أيّ حراكٍ يهدف إلى طرد المُحتل وأعوانه.
دور الأطراف الفاعلة في شرق سورية
بالتأكيد الخيوط المتشابكة كثيرة في الشرق السوري، خاصّةً في هذه الأيام، وذلك بسبب انسداد أفق الحلول، وبسبب تعدّد الأطراف الفاعلة هناك:
الأميركي مُتواجدٌ بقوّة، ومُمسكٌ بالكثير من الخيوط ،ولن يترك المنطقة إلّا بالقوّة، لأن الجغرافيا السورية هي مكمن قوةٍ لمن يتواجد بها، ولسوء الحظ السوري، أن هذه الجغرافيا موضع تنافس، بين أقطابٍ تُناصب بعضها العداء، ولذلك فإن خسارة الأميركي لها، ستكون ربحاً مُضاعفاً لكلٍّ من روسيا وإيران، ولكن الواضح، أن الأميركي بدأ يفقد السيطرة على الكثير من هذه الخيوط.
الدولة السورية موجودةٌ بقوةٍ بمنطقة الشرق، ويتعزّز وجودها بشكلٍ سريعٍ ومُستمر، ولو دقّقنا بكلام وزير الخارجية السوري، أثناء زيارته الأخيرة لإيران، حين قال “على قوات الإحتلال الأمريكي الخروج من الأراضي السورية، قبل إجبارها على ذلك”، ولو ربطنا هذا الكلام بعامليّ زمان ومكان قوله، لتأكدنا أنّ هذا القول، ما هو إلا رسالة تهديدٍ عالية النبرة، وبطبيعة الحال، عندما نتكلم عن الحضور السوري في الشرق، فهذا يعني أننا نتكلم عن حضور كامل الأطراف الحليفة والصديقة.
المملكة السعودية مُتواجدةٌ، من خلال تمويلها ل” شيوخ المال”، وبالتالي دورها في صناعة هؤلاء، وهذا التمويل عمره من عمر الأزمة السورية، ولكن الإعتقاد الغالب هو أن هذا الدور، يكبر، أو يصغر، أو ينحرف، وذلك بحسب التقارب السعودي السوري، ومُلاحظٌ أنّه قَلّ كثيرا،ً إن لم يكن قد انتهى، وذلك بعد الحضور السوري للقمة العربية الماضية، وقد يكون التمويل السعودي تحوّل إلى أمكنة أخرى أو بعبارةٍ أدقّ، قد يكون عاد إلى عهده التاريخي قبل الحرب على سورية.
• وهناك أطرافٌ تتمنى التدخّل، مثل تركيا، التي حاولت التدخّل فيما يجري الآن بذريعة تقديم الدعم للعشائر العربية، ولكنها قوبلت بردٍّ ناريٍ روسي، و”إسرائيل”، التي تحلم بالتدخل، لكنها ممنوعةٌ أميركياً، لأنّ تدخلها قد يكون كارثياً على القواعد الأميركية المتواجدة في كامل المنطقة.
ختاماً
بكلّ الأحوال، إنّ ما يجري الآن، هو ليس إلا الشرارة لما سيحدث غدا،ً ويبدو أن سورية نجحت في إشعالها، كما يبدو أنّ البرنامج السوري جاهزٌ للسير، في تطوير هذه الشرارة، لتكون أكثر اشتعالا،ً وأعظم تأثيراً، ومن يقرأ تاريخ السوريين منذ طرد الإحتلال العثماني عام 1918، وحتى اليوم، يعرف أنّهم أفضل من يستطيع بناء حركات التحرير، وأمهر من يسير بها لتحقّق كامل أهدافها.