*ذ.يحيى عالم
باحث سياسي مغربي في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة
شهدت مرحلة تدبير كارثة الزلزال بمنطقة الحوز في المغرب بوادر ومؤشرات زلزال آخر على مستوى العلاقات بين المغرب وفرنسا، وهي العلاقات التي كانت تعرف نوعا من البرود خلال السنوات الأخيرة بفعل عدة أسباب، لكن رد فعل الإعلام والنخب السياسية الفرنسية، وفي مقدمتها الرئيس إيمانويل ماكرون، كشف عن هوة حادة في العلاقات، كما خلق شروط أزمة جديدة تضاف تبعاتها إلى الأزمة القديمة.
ويرجع هذا في جانب منه إلى العقل الكولونيالي الفرنسي، الذي لم يتخلص بعد من الرؤية التقليدية التي ظلت تحكم سلوكه مع المغرب وغيره من الدول الأفريقية في شمالها وغربها، مما يجعله أسير أزمات متتالية في كامل أفريقيا، ولعل ما جرى مع المغرب يكشف تجليات تلك الأزمة التي لم تكن منتظرة.
تجليات وتناقضات الموقف الفرنسي
أسفر الزلزال في أرض المغرب عن موجة من ردود الفعل الدولية المتعددة بخصوص تقديم الدعم والمساندة للسلطات المغربية من أجل تجاوز مخلفات الكارثة الطبيعية، ومن ضمن تلك الدول كانت فرنسا التي تربطها علاقات متعددة الأوجه مع المغرب، يتداخل فيها التاريخي الاستعماري بالاقتصاد والسياسة والثقافة، غير أن طريقة التدبير التي انتهجتها السلطات المغربية للزلزال، وتحديدها لنوعية المساعدة المطلوبة وطريقتها وقبول دول بعينها، هي إسبانيا وبريطانيا وقطر والإمارات، دفع الموقف الفرنسي على المستوى الإعلامي والسياسي إلى نزوع أكثر حدة تجاه المغرب، كانت له تجليات متعددة وتناقضات في الآن نفسه، يمكن رصده كالآتي:
أولا: هجوم الإعلام الفرنسي على المغرب
كان الهجوم الإعلامي من خلال الصحف والبرامج المرئية مركزا بشكل أساسي على نقطتين اثنتين، عاهل البلاد الذي يعيش بلده -المغرب- وضعا أشبه بنكبة، بينما لم تقبل السلطات المغربية استقبال الدعم من دول صرحت بذلك، ومنها فرنسا.
ثانيا: ممارسة ضغط ضمني على المغرب
كان هذا الضغط من قبل ممثلي الدبلوماسية الفرنسية، ونقصد هنا الخروج المتكرر لوزيرة الخارجية الفرنسية والسفير الفرنسي في الرباط. هذا الحديث للإعلام من ساسة فرنسا باعتماد التأويل أو التوقعات يعكس انسداد قنوات التواصل المباشر بين الرباط وباريس بخصوص الزلزال، وقد صرحت وزيرة الخارجية بأن الرئيس الفرنسي كان قد اتصل بالعاهل المغربي، لكن ملك المغرب لم يجب، لوجوده في لقاء خاص بالخلية التي تدبر شؤون الزلزال. وإذا كان الأمر كما ورد في تبرير وزيرة الخارجية الفرنسية، فقد كان من الممكن أن يتجدد التواصل لاحقا، لكن هذا لم يحصل، مما يعني أن العاهل المغربي رفض استقبال الاتصال من ماكرون، وهذه ليست المرة الأولى، ذلك أن هذا الرفض للتواصل يعد امتدادا لأزمة سابقة سنتحدث عنها لاحقا.
ثالثا: توجه ماكرون بالحديث مباشرة إلى الشعب المغربي
مخاطبة الرئيس الفرنسي للمغاربة عبر كلمة مباشرة، بمقدار ما تعبر عن إخلال بالأعراف الدبلوماسية والسياسية، فإنها تعكس حالة توتر يعيشها العقل السياسي الفرنسي ناجمة عن أزمته مع المغرب، ذلك أن قبول الدعم من دول بعينها، واستبعاد فرنسا، يعتبر مؤشرا دالا على طبيعة الشراكات المتعددة التي ينهجها المغرب، والتي ستؤدي حتما إلى التخلص من الهيمنة الفرنسية.
رابعا: حديث وزيرة الخارجية الفرنسية
حديث وزيرة الخارجية الفرنسية عن زيارة مبرمجة للرئيس ماكرون إلى المغرب، مقابل نفي المغرب من خلال مصدر رسمي، يعتبر تتويجا لحالة من الضغط الفرنسي والرفض المضاد من المغرب للمسالك التي سلكها الرئيس ماكرون، الذي تعيش فرنسا في فترة حكمه وضعا مأساويا في أفريقيا، كما تعيش جدلا داخليا مستمرا.
محددات المغرب لقبول الدعم ورفضه
يهيمن على العقل الفرنسي حالة من التضخم والأنا المفرطة في تدبير العلاقة مع دول أفريقيا والعالم الثالث، فالعقلية الفرنسية تجر خلفها تغولا، على مستوى الأنا، واستصغارا للدول الأخرى، معتمدة على تاريخها الاستعماري الطويل إذ كانت تؤسس قوتها على استضعاف الآخرين من ناحية ومن ناحية أخرى على كونها كانت مصدرا للتحولات الفكرية الكبرى في العالم ونظم الاجتماع الحديثة، والوقوع في أسر هذا المخيال التاريخي المتضخم حول الذات من دون القدرة على النقد الجذري، هو الذي يجعل فرنسا واقعة في وحل مشكلات لا حصر لها في قضايا الهجرة والتعددية والموقف من الآخر داخل المجتمع الفرنسي، والتي اتخذت طابعا هوياتيا حادا بأفق سياسي يصعب التنبؤ بتبعاته ونتائجه، كما جعلها في مشكلة مع الآخر على مستوى أفريقيا والعالم العربي والإسلامي، في حالة فريدة لا تشاركها فيها أغلب دول الاتحاد الأوروبي.
أما عن السياق الأفريقي والمغاربي، فيمكن القول إنه ما لم تعمل فرنسا على مراجعة إستراتيجيتها في التعامل مع هذه الدول التي أضحت مجتمعاتها شديدة الحساسية -بوعي- تجاه فرنسا، فإن الأزمة ستتعمق مع المغرب وغيره من الدول، بل إن السياق الإقليمي والدولي والمجتمعي يساعد على التخلص من علاقات ظلت لعقود مصطبغة بصبغة الهيمنة والاستغلال، وحديث الرئيس ماكرون نفسه للمغاربة لم يخل من عقلية التاجر الذي يفكر في الإعمار ومنافعه، أو الذي يوظف الأدوات الممتدة على مستوى المجتمع المدني، والتي تمثل بشكل أو بآخر أداة لخدمة المصالح الفرنسية، ويبدو أن حصر المغرب للمساعدات في دول بعينها لتجنب هذه الوضعية، إذ يكون الدعم في الغالب مشروطا بحصول الشركات على امتيازات الإعمار ومنافع أخرى، تفقد فيه الدول -الواقعة في كوارث- سيادتها واستقلاليتها.
لم يرفض المغرب المساعدات من الدول التي تقدمت بذلك، ومنها دول عربية وإسلامية تشترك معه في وحدة المصير، لكنه كان حريصا على ضرورة عقلنتها لتدبير زمن الكارثة، وتوحيد تدبيرها لصعوبة جغرافيا مكان الزلزال في جبال الأطلس تجنبا للوقوع في فوضى قد تنجم عنها كارثة أخرى، ثم انتقاء دول بعينها للمساعدة بناء على الحاجة المطلوبة والخصاص الذي يمكن أن تسده تلك الدول.
ذلك أن تدبير كارثة الزلزال كانت بإشراف مباشر من ملك المغرب باعتباره رئيس الدولة. أما ما يخص شؤون الإنقاذ، فقد تم إدماج معظم القوات المدنية والعسكرية بها، وهي قوى مدربة تدريبا عاليا للتعامل مع الأزمات والكوارث، وحسب النسق السياسي المغربي، فإن الإشراف الملكي المباشر يجعل خطوات باقي الفاعلين تابعة بالضرورة أو مقيدة بسلوك رئيس الدولة، والخلية الموكول لها ذلك، كما أن تدخل المؤسسات الصلبة مثل الجيش الذي يعد ملك البلاد قائده الأعلى، من خلال فرق خاصة، قد يجعل الحاجة إلى دعم قوات مدنية محدودا.
لكن هل كان قبول طلب المساعدة من دول بعينها خاليا من السياسة والمصالح السياسية كما كان رفض دول أخرى بعيدا عن السياسة؟
لماذا بريطانيا وإسبانيا بدلا من فرنسا؟
ربما لا نحتاج إلى الحديث عن مدى تميز علاقة المغرب بالدول العربية التي هبت لمساعدته، وطبيعة العلاقات الإستراتيجية التي تربط بين المملكة المغربية ودول الخليج، لكن تهمنا المصالح المشتركة للمغرب مع إسبانيا وبريطانيا حتى نفهم حالة التوتر الفرنسية والرفض المغربي.
تعرف العلاقات المغربية البريطانية تطورا ملحوظا في العقد الأخير، وقد عمل المغرب على مد جسور التعاون وتعميق شراكته بشكل أكبر مع الحلف الأنجلوساكسوني، منذ بدء الحديث عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتنامت اقتصاديا وسياسيا وثقافيا في السنوات الأخيرة، ما سيجعلها في الأمد المنظور على حساب الشريك التقليدي للمغرب في الاتحاد الأوروبي، أي فرنسا، وهذه الأخيرة على وعي بذلك. نفس الأمر مع إسبانيا التي تربطها حدود بحرية مشتركة مع المغرب، ومصالح إستراتيجية اقتصادية وسياسية وأمنية، تعززت بشكل ملحوظ بعد تجاوز الأزمة الأخيرة التي كانت بين البلدين، بحيث تحولت إسبانيا إلى مدافع عن المصالح المغربية داخل أروقة الاتحاد الأوروبي كما حظيت بامتيازات اقتصادية داخل المغرب.
لقد كان قبول الدعم من دول أوروبية وعربية واستثناء فرنسا التي تعتبر شمال أفريقيا والمغرب في القلب منها امتدادا لمصالحها الحيوية والإستراتيجية كالجرح الذي أصاب حكومة ماكرون، وهذا في الواقع يشكل قلقا لفرنسا برمتها. ذلك أن ماكرون سيكون موضوع مساءلة مجتمعية وإعلامية عن نهجه السياسي الذي جعل فرنسا تفقد مراكز تواجدها في أفريقيا، إن لم يكن ذلك بشكل تام اليوم، فإن تعديد الشركاء الذي ينهجه المغرب سيتجه حتما إلى التحلل من الهيمنة الفرنسية، وهو ما يتطلب إرادة سياسية مغربية تبني على الوعي المجتمعي الذي تم التعبير عنه، سواء في الأشكال التضامنية بخصوص الزلزال أو في القضايا الوطنية الأخرى.
جذور الأزمة مع فرنسا
أما عن جذور الأزمة الراهنة بين حكومة ماكرون والمغرب، فإنها تتجاوز حادث الزلزال إلى ما قبل، وتتمثل في عدم استجابة باريس للمغرب من خلال موقف داعم وبشكل صريح في قضية الصحراء المغربية يتجاوز الموقف التقليدي الإيجابي بخصوص الحكم الذاتي، وبما يلائم الوضعية الجديدة للأقاليم الجنوبية مع الاعتراف الأميركي.
هذه واحدة من الأسباب الأولى للأزمة بين المغرب وفرنسا، ويمكن القول إنها أزمة بين الرباط وحكومة ماكرون أساسا. قد تكون لها دوافع أخرى اقتصادية تخص التنافس الإقليمي والدولي في أفريقيا، لكنها ربما لا تمتد في الزمن الراهن إلى القطيعة الكاملة، لطبيعة المصالح المتشابكة، ثم لوجود لوبي فرانكفوني في المغرب، ولوبي يخدم المصالح المغربية داخل فرنسا، وهي أزمة سيتم استيعابها.
الحاجة إلى التخلص من الهيمنة الفرانكفونية بالمغرب
سبقت الإشارة إلى تعديد الشركاء الذي ينهجه المغرب، ذلك أن هذا الخيار هو المنفذ الذي يمكن من خلاله تجاوز حالة التبعية. لكن الوجود الفرنسي بمختلف أشكاله في المغرب ظل حاضرا في كل حقب مغرب الاستقلال، إذ وضع أحد رموز الحركة الوطنية اصطلاحا بارزا لما يمثله اللوبي أو قوة الضغط الفرنسية في المغرب، وهو مفهوم “القوة الثالثة”.
إن القوة الثالثة، التي تمثل تجمعا لنخب اقتصادية وثقافية وسياسية، وتعد امتدادا طبيعيا لفرنسا في مغرب الاستقلال، هي التي عمقت الشرخ تاريخيا بين جزء من الحركة الوطنية والملكية، وظلت قريبة من مركز الحكم في سياق الصراع السياسي، وإذا أردنا أن نضع لها محددات تتسم بها وتشكل عناصر إعاقة لنهضة حقيقية في المغرب، فهي من حيث جينات تشكيلها السياسي والاقتصادي معادية للديمقراطية والاستقلال بجوانبه السياسية والثقافية والاقتصادية.
لم تندثر القوة الثالثة في المغرب، بل تمددت واتسعت لتشكل نخبا وقوى اقتصادية وسياسية وثقافية أكثر تجذرا في الإدارة والثقافة والاقتصاد، لذلك فإن الحديث عن التحرر من الهيمنة الفرنسية، يبدأ أساسا من إضعاف الامتداد الفرنسي في المغرب، في الإدارة والثقافة والتعليم والاقتصاد، ولعل القانون الخاص بالتعليم الذي وضع قبل ست سنوات فقط “القانون الإطار”، يوضح الخطأ الإستراتيجي الذي نهجه المغرب، ويحتاج مراجعة عاجلة، لأن رهن الأجيال للغة وثقافة ميتة في سياق عالمي تنافسي هو رهن لمقدرات بلد وتحويله بشكل إرادي إلى وضعية أسر في قفص فرنسا ومصالحها، وإضرار بمقدرات المغرب وممكناته في النهوض مستقبليا، ولعل اللحظة الراهنة تمثل مدعاة حقيقية لتصحيح جملة من الأخطاء التي وقعت، ومثلما يحصل في الاقتصاد من بروز قوة اقتصادية مغربية تعوض الوجود الفرنسي، فإن الخيارات الثقافية والتربوية تعد رهانا إستراتيجيا في أي استقلال أو سيادة أو نهوض حضاري شامل.
ختاما: إن جانبا من أزمة فرنسا والرئيس ماكرون مع المغرب، هو تعبير عن أزمة تخص داخل فرنسا، وبشكل أكبر تخص العقل السياسي الفرنسي، ذلك أن الصفيح الساخن الذي تعيش على وقعه فرنسا اقتصاديا واجتماعيا وهوياتيا، يوازيه لهيب آخر يخص المصالح الفرنسية في أفريقيا وفي الدول التي كانت تعد معقلا لفرنسا.
وبالإضافة إلى التحولات التي يشهدها النظام الدولي وتراجع أدوار عدد من القوى والدول ومنها فرنسا، فإن هناك حالة احتباس في العقل السياسي الفرنسي، فهو ينتج الأزمات داخليا وخارجيا، ولن يتجاوز هذه الوضعية من دون مراجعة جذرية للمرتكزات التاريخية والثقافية التي تشكل عليها، وهي مرتكزات إقصائية بطبيعتها في حق الآخر. أما بالنسبة للمغرب، فإن الديناميات المجتمعية التي عبرت عن وعي يقظ وقدرة على الفعل والمبادرة اجتماعيا، بل والرفض والاستهجان للسلوك الفرنسي، تتطلب استيعابا واستجابة من طرف الدولة بما يجعل اللحظة الراهنة لحظة تاريخية في تكامل للأدوار بين الدولة والمجتمع على قواعد متينة من التضامن المجتمعي والحرية والديمقراطية، وتفعيل آليات الحوكمة لتحقيق تنمية شاملة لمغرب الهامش مثلما يجري في المركز، ونهضة تتأسس على المقدرات الذاتية، وأهم تلك المقدرات هو الإنسان والثقافة.
*الجزيرة