ذ.إدريس عدار
كاتب من المغرب
يشكل انتهاك المعايير ضررا كبيرا على الذوق العام، حيث تنعدم الرؤية والتمييز، وذلك بفعل الخلفيات التي يتم بها النظر إلى الواقع، وهي قضية معروفة عند الفيزيائيين بوضع خلفيات مختلفة في النظر إلى شيء واحد واقعي لكن شكله سيختلف عند كل واحد انطلاقا من اختلاف المنظور. ومن الصعب إقناع شخص تربى على وضع النظارات بإزالتها، خصوصا إذا كان ذلك منذ يفاعته.
منذ إطلاق معركة طوفان الأقصى وجزء كبير من محور المقاومة يتعرض لأحكام ساقطة أخلاقيا، وصلت حد التخوين والتخلي عن المقاومة الفلسطينية لتواجه مصيرها بنفسها. لم يقف الأمر عند عوام الناس، الذين لديهم توقعات كبيرة ومختلفة عمن هو في الأرض ويحسب كل مقومات المعركة، وهذا أمر مفهوم، لكن الأمر تعدى ذلك إلى نخبة من “المثقفين”، التي تقوم بتحريف القول عن مواضعه.
كل الموازين اختلت. من أعطى وساند ودعم بالسلاح والمال والعتاد والخبرات ليس في شيء. ومن استدعى فقط سفيره للتشاور مثل أردوغان، مع استمرار تسيير قوافل السفن التجارية، واستمرار الاتفاقيات العسكرية، فهو بطل غير أنه ينبغي أن ننظر إليه في السياق المحكوم به. هنا “السياق” يليق بأردوغان لا بغيره. أما لما وصف “إسرائيل” بالإرهاب فحينها أصبح من لا يُشق له غبار. أي تأثير لهذا القول في غياب موقف فعلي؟
أقرأ عند عبد الله فهد النفيسي، الكاتب الإخواني، اعتزازا بالدور الذي تقوم به قطر من أجل إيقاف الحرب على غزة، مع العلم أن هذا الدور هو المنحة الغربية لهذه الدولة النفطية، هو دور وساطة أو دور سخرة. لكن عندما يتحدث عن فصائل المقاومة في لبنان والعراق واليمن فهو يقول إنها تنتظر ضغطة الزر من طهران. دون الإشارة إلى أن الإسناد اليمني هو من طرف حكومة صنعاء وليس الحوثيين. من يقوم بالإسناد الحقيقي ودخل المعركة فهو مجرد تابع ينتظر “ضغطة الزر” أما الدولة التابعة فعلا للغرب فهي تقوم بدور كبير.
ويتبعه في هذا النهج أحد دراري الوهابية السرورية في المغرب الذي أقحم الحزب عنوة في مقال مليء بالفدلكات في لعبة حجاجية معروفة، ولا يمكن أن تنطلي على من خبر القول والخطاب، كما يعتمد تفريعات هي في الأصل تحتاج إلى مبررات منطقية وإلا من الذي يعطيك الحق في أن تجعل لهذا الأمر أربعة أسباب وليس خمسة أو ثلاثة. واحد لم يجرب حتى معارك الطفولة يتحدث بهذه العبارة “على الرغم من عدم خروج المناوشات بين حزب الله والكيان الصهيوني عن قواعد الاشتباك….”. يفهم أن قواعد الاشتباك متفق عليها وليست نتائج مواجهة تاريخية خلقت الفعل برد الفعل وعدم الإفلات، بل فرضت اليوم وضعا ما كان ليكون لولا هذا الدور.
إذا لم تستحي فقل ما شئت.
طبعا المعركة التي يخوضها الحزب لن تظهر لمن وضع على عينيه منظارا للوهابية السرورية سوى مناوشات. سأعود للحديث السريع عن الخلفيات التي ينظر منها هؤلاء بعد عرض شكل “المناوشات”.
في عرف هؤلاء أن المناوشات تحتاج التضحية بعشرات الشهداء، رفعا للعتب. من يقول مثل هذا الكلام عديم الأخلاق.
في مقال بالواشنطن بوست يقول توماس فريدمان، المراسل والخبير بالشرق الأوسط، “إذا كنت تهتم بإسرائيل، فيجب أن تشعر بالقلق أكثر من أي وقت مضى منذ عام 1967. في ذلك الوقت، هزمت إسرائيل جيوش ثلاث دول عربية – مصر وسوريا والأردن – في ما أصبح يعرف باسم حرب الأيام الستة. اليوم، إذا نظرت عن كثب، سترى أن إسرائيل تخوض الآن حرب الجبهات الستة.
يتم خوض هذه الحرب من خلال جهات فاعلة غير حكومية، ودول وطنية، وشبكات اجتماعية، وحركات أيديولوجية، ومجتمعات الضفة الغربية، والفصائل السياسية الإسرائيلية، وهي الحرب الأكثر تعقيدًا التي قمت بتغطيتها على الإطلاق”.
وصباح اليوم الأحد 19 نونبر 2023 تقول القناة العبرية 13 “أصبحت المستوطنات الشمالية التي تم إخلاؤها ساحة معركة حقيقية” ونقل الإعلام الصهيوني أن الحزب نفذ سلسلة من العمليات منذ صباح اليوم حيث أطلق الصواريخ والقذائف المضادة للدروع تجاه عدد من المواقع “الإسرائيلية”.
واعتمادا على ما نشرته المقاومة في لبنان وما سمحت به الرقابة بالنشر لدى العدو، فقد تم تنفيذ أكثر من 60 عملية خلال الأسبوع من 12 نونبر إلى 18 منه.
استهدفت هذه العمليات إسقاط طائرة هرمز 450 بواسطة صاروخ أرض جو. وهي طائرة حربية متعددة الأهداف. وأكدت طريقة العملية تحولا نوعيا في أداء المقاومة. واستهدفت أيضا عددا حشودات الجيش الصهيوني وتجمعاته بضربات دقيقة، واستهدفت مقرات قيادة وثكنات راميم ويفتاح وبرانيت، كما تم استهداف آليات ودبابات من نوع ميركافا. وتم استعمال صاروخ بركان أكثر من مرة وهو سلاح نوعي. ويمكن قياس هذا الأسبوع على باقي الأسابيع.
إذا كان الإعلام العبري يعترف بإفراغ الشمال كاملا إلى حدود معينة من ساكنته وهي حوالي 700 ألف، وتقول صحيفة “معاريف” العبري: بعد أن هجر “سكان” الشمال “منازلهم”، نصر الله قرر أن كل من يتحرك على الشريط الحدودي هو هدف.
فالسؤال: من أفرغهم؟ من اضطرهم للرحيل؟ أي ضغط هذا الذي تمارسه المقاومة اللبنانية على الكيان؟
وكان السيد حسن نصر الله شرح بالتدقيق نتائج جهود الإسناد: ثلث القوات الصهيونية تم الإبقاء عليه في الشمال بعد أن كان قد توجه إلى غزة وتمت إعادته. نصف القبة الحديدية. ربع القوات الجوية. نصف القوات البحرية.
لا يستطيع دراري الوهابية السرورية إحصاء العمل الذي تقوم به المقاومة اللبنانية، التي يعترف العدو بأنها تخوض حربا حقيقية قوامها الاستنزاف وعنوانها تحقيق المعادلة الكبيرة “عدم الاستفراد بغزة”.
الحرب ليست لعبة ولكنها إدارة وتدبير. لا يوجد أكثر إتقانا لها من الحزب، الذي ورّط الكيانات في حرب الجبهات المتعددة. كل هذه العمليات التي قام بها الحزب على امتداد جغرافية كبيرة لو تم جمعه في جغرافية صغيرة لكان أهم عملية في طوفان الأقصى.
لماذا لا يريدون الاعتراف بكل هذا الجهد وهذه التضحيات؟
هم يحقدون على محور المقاومة منذ سنين طويلة. دراري الوهابية السرورية بالمغرب تربوا منذ نعومة أظافرهم على كتب زين العابدين سرور “عودة المجوس” وسعيد حوى “الخمينية شذوذ في العقائد والمواقف”، ولهذا لا يمكن أن ننتظر منهم إنصافا يوما ما لجهة غير تلك التي ينتمون إليها.
حتى لو غير أبناء التيار جلدهم فإن جوهرهم هو نفسه. حتى لو لوكوا الكلام واستعملوا العبارات الأجنبية، فإن العمق يبقى هو الكراهية والحقد منذ التأسيس لهذا السلوك، التي صُرفت عليه الملايير كي يتم زرعه في المجتمعات. يريدون اليوم أن يظهروا متحضرين لهذا لا يستعملون المفردات القديمة. لكن بدلها يتم الالتفاف على الواقع وتصوير الحقائق بشكل مغاير. كل أحقادهم يصبونها اليوم تحت عناوين ظاهرها “الفهم الاستراتيجي” وباطنها “التكفير”. لو كان الآخرون ينظرون للأمور مثلهم لكانت الأمور مختلفة. تكسّرت العديد من الأمور في الطريق بعد الهجمة الكونية على سوريا وانضمام أحد فصائل المقاومة الفلسطينية للحركات التكفيرية والإرهابية، التي حملت عنوان الثورة السورية، والفصيل نفسه سيصدر بيانا سنة 2015 يساند فيه ما يسمى الشرعية في اليمن ويدين الحوثيين، واليوم نرى أن الكل مجمع على إسناد المقاومة الفلسطينية دون العودة إلى الوراء.
عندما تتاح لهم الفرصة يستعرضون الكم الهائل من التهم التي يوجهونها إلى الآخر مستعملين ترسانة من “لاهوت الخردة”، وكأنها تُطرح لأول مرة ناسين أن الردود عليها لا عدّ لها.