من قطر لقاء خاص مع فضيلة الشيخ الفقيه الاصولي الدكتور احمد الريسوني حول عدة قضايا معاصرة.(الجزء الثاني)
الدوحة قطر:ذ.عبد الله مشنون
إيطاليا تلغراف :يعد فضيلة الدكتور أحمد الريسوني العالم المغربي ورئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقا أحد أبرز علماء الأمة الإسلامية في عصرها الحاضر، فهو من العلماء المقاصديين القلائل الذين أنجبتهم “مدرسة” الإمام الشاطبي، في وقتنا الحالي. فالدكتور احمد الريسوني كما هو معروف متخصص في علم مقاصد الشريعة وألف عدة كتب في هذا المضمار من بينها “من أعلام الفكر المقاصدي” و”مدخل إلى مقاصد الشريعة” و”الفكر المقاصدي.. قواعده وفوائده”.
ولا غرو أن يكون العلامة الدكتور الريسوني من العلماء المؤمنين بفكر إسلامي حركي متجدد قائم على الوسطية والتجديد يسهم في إقامة الدين وتجديد مفاهيمه والعمل به، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة، وبناء نهضة إسلامية رائدة وحضارة إنسانية راشدة ومناصرة لقضايا الأمة وللقضايا الإنسانية العادلة.
ولد الدكتور احمد الريسوني عام 1953 في قرية أولاد سلطان بالقصر الكبير بالمغرب (بشماله) من أسرة عريقة متدينة؛ تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بمدينة القصر الكبير وحصل فيها على شهادة البكالوريا في الآداب العصرية المزدوجة؛ والتحق بكلية الشريعة في جامعة القرويين بمدينة فاس العالمة؛ وحصل منها على الإجازة العليا سنة 1978. وفي شنة 1986 حصل على شهادة الدراسات العليا ثم دبلوم الدراسات العليا في مقاصد الشريعة سنة 1989. بعدها حصل على دكتوراه الدولة في أصول الفقه العام 1992.
والدكتور أحمد الريسوني هو أحد العلماء البارزين في المغرب فقد كان عضوا برابطة علماء المغرب، سابقا. وهو مؤسس واول رئيس للجمعية الإسلامية بالمغرب، ثم رئيس لرابطة المستقبل الإسلامي بالمغرب ما بين (1994-1996) و رئيس لحركة التوحيد والإصلاح بالمغرب (1996-2003) ، ثم ترأس حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب في الفترة الممتدة بين 1996 و2003. وهو مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث.
كما ان فضيلته عضو مؤسس للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونائبا لرئيسه فضيلة الدكتور العلامة يوسف القرضاوي رحمه الله؛ ثم رئيسا للاتحاد سابقاً قبل أن يستقيل في العام 2022؛
ألف الدكتور أحمد الريسوني قرابة 30 كتاباً ومؤلفاً؛ تعدُّ مرجعاً مهماً للطلبة والباحثين والمهتمين بعلم المقاصد، منها على سبيل المثال: “نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية”، و”نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” الذي ترجم إلى الإنجليزية والفارسية والأوردية والبوسنية.
وألّف “الشورى في معركة البناء”، و”فقه الثورة.. مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي”، و”الأمة هي الأصل”.
شغل الدكتور لريسوني في العام 1986 استاذاً لعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس، ودار الحديث الحسنية بالرباط، واستمر في العمل بهما حتى عام 2006.
وأستاذا زائرا بجامعة زايد في دولة الإمارات العربية المتحدة، وجامعة حمد بن خليفة في دولة قطر، وكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر.
عمل “خبير أول” لدى مجمع الفقه الإسلامي الدولي بمدينة جدة في المملكة العربية السعودية منذ 2006، حيث عين نائباً لمدير “مشروع معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية”، ثم مديراً للمشروع حتى الانتهاء منه عام 2012.
ونال عضوية مجلس الأمناء والمجلس العلمي لجامعة مكة المكرمة المفتوحة، وعمل مستشارا أكاديمياً لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
وقد كان لجريدة “ايطاليا تلغراف” الأوروبية الشرف بلقاء العلامة الدكتور الريسوني بقطر حيث يقيم فضيلته وقد رحب بالجريدة أشد الترحيب، واجرت معه حوارا مطولا وشيقا دار حول العديد من القضايا التي تهم الأمة العربية والإسلامية ومن بينها القضية الفلسطينية التي تمر اليوم من محنة كبيرة تتمثل في تهجير أهل غزة من أرضهم بعد القصف والقتل والدمار من طرف الاحتلال الصهيوني.
إليكم الجزء الثاني والأخير من الحوار مع فضيلة الأستاذ الفقيه الاصولي الدكتور احمد الريسوني.
11-مر ما يقرب من قرن على تجارب العمل الاسلامي المنظم كحركات وأحزاب، ما هو تقييمكم العام لنتائج تجارب هذه الحركات والاحزاب كنجاحات وإخفاقات وما هي المآلات المحتملة لمستقبل هذه الحركات والاحزاب على ضوء نتائج التجارب من جهة وعلى ضوء معطيات الواقع في سياقاته الضاغطة في الامة ومن خارجها من جهة أخرى؟
السؤال طويل وعريض ومتشعب.. ولكن باختصار: الحركات الإسلامية غيرت مجريات كثيرة من التاريخ المعاصر، وخاصة على الصعيدين الثقافي والاجتماعي.
وعلى سبيل المثال أتذكر مرارا كلمات سمعتها من شيخي العلامة عبد الله بن الصديق رحمه الله.
الكلمة الأولى: هي أن الإخوان المسلمين أدخلوا الإسلام إلى الجامعة المصرية!
الكلمة الثانية: انه لما زار العراق (ربما أواسط القرن العشرين) وجد أن التدين هناك لم يعد له وجود إلا في صفوف الإخوان المسلمين، وكانوا يصومون ولا يصلون!!
وأنا أضيف كلمة قلتها وكتبتها مرارا: وهي أنني لما التحقت بالجامعة بالرباط أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وجدت أن الدين الرسمي والوحيد بالجامعة هو الماركسية والإلحاد!
وقد كان الطلبة اليساريون الماركسيون إذا اكتشفوا طالبا يصلي يحاكمونه ويعاقبونه بتهمة نشر الرجعية والظلامية..
فتأمل هذه اللقطات الثلاث، وقارن بينها وبين ما نحن عليه اليوم والحمد لله..
فهذا التحول الهائل وهذا الانعطاف الكبير أحدثته الحركات الإسلامية.
أما سؤالكم عن مستقبل هذه الحركات، فيذكرني ببعض النقاشات التي جرت مؤخرا حول “نهاية الإسلام السياسي”، كما يذكرني بحديث الصهاينة وشركائهم عن نهاية حماس..
ولذلك أقول: إن الحركات الإسلامية تنبثق وتنبُتُ تلقائيا من الإسلام ومن القرآن.. والإسلام اليوم أكثر من أي وقت مضى – هو الدين الأكثر تجذرا ورسوخا وفاعلية في الكرة الأرضية عامة، وفي العالم الإسلامي خاصة. ومن هنا يُعرف أو يستشفُّ مستقبل الحركات الإسلامية.
ولكنْ هذا من حيث العموم والإجمال، وأما من حيث التفصيل فأقول: قال الله تعالى {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا…}.
12-كيف توصّف الوضعية العامة للامة الاسلامية حاليا بمعايير الرحمة والامة الوسط، والقسط والقوة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وصولا إلى الشهادة على الناس باعتبارها المعايير التي حددها القرآن الكريم لوظائف الامة الاسلامية؟
مما لا شك فيه أن حالة الأمة ليست على ما يرام، ولكنها أيضا ليست بأسوأ حال، بل هي على العموم في تحسن وفي تيقظ متزايد. فالوعي يتزايد والتدين يتوسع ويترقى، ومشاعر الوحدة الإسلامية ومظاهرها هي اليوم أكثر من ذي قبل.. ولكن هذا كله يتحرك وسط إرث ثقيل من التخلف والوهن تراكمَ منذ قرون، وفي ظل أنظمة حاكمة شديدة الاستبداد والفساد والوهن. وإذا كانت الأمة تقاوم التخلف الداخلي والعدو الخارجي، فإن غالب حكامها يقاومون تحررها ونهضتها ووحدتها. وهذه هي الثغرة الكبرى في حالة الأمة. فالأمة تعيش حالة تدافع شديد ومخاض عسير.
13-جاءت جهود إعادة الاعتبار لفقه المقاصد كأهم الجهود لتجديد أمر دين الامة ولتصحيح وتسديد فهم الاسلام ورسالاته ولتصحيح مسارات السير ومنهجية إعادة بناء المشروع الحضاري، فإلى اي حد استكملت هذه الجهود التجديدية مهامها، وما هي الفراغات التي تتطلب الاستكمال؟
حركة فقه المقاصد والفكر المقاصدي منوط بها تحرير الفكر الإسلامي وتخليصه من آفة الجمود ومن آفة الظاهرية، وهما آفتان معيقتان، بل قاتلتان، للاجتهاد والإبداع والتطور مع سنن الحياة.
وللأسف، فإن بعض الدول الإسلامية تتبنى وتدعم هاتين الآفتين بقوة، لكونهما تخدمان الاستبداد الأثير عندهم.
ومع ذلك فالتجديد المقاصدي يمضي ويتسع تأثيره بشكل مطرد، في مجمل أنحاء العالم الإسلامي. ولكن الإصلاحات العميقة والواسعة تحتاج عادة إلى وقت طويل وإلى عدة أجيال، قبل أن تتم لها السيادة والغلبة. وهذا هو شأن الإصلاح العلمي والفكري والفقهي.
14-بحكم موقعكم العلمي، هل يمكنكم تأصيل “فقهيا” ما جرى في عملية طوفان الأقصى من الناحية الأخلاقية والعسكرية والسياسية؟ وماهي المكتسبات المرجوة وراء هذه العملية؟
يجب أن نتذكر ولا ننسى أن المشروع الصهيوني هو مشروع توسعي بدرجة أسطورية، سواء في أسسه أو في أهدافه. ومما يشجعه على أسطوريته هذه الدعم الغربي اللامحدود له، وعجز الحكام العرب اللامحدود أمامه. أي كما يقال في المثل: “المال السايب يعلم السرقة”، فعجزُ العرب وخنوعهم يغري الصهاينة بطموحاتهم الأسطورية، وبالتمادي في السلب والنهب والبغي.
لكن مع ظهور المقاومة الصلبة العنيدة، في غزة وفي الضفة وفي لبنان، انكمشت الآن تلك الطموحات، وبدأوا يفكرون فقط في “بقاء إسرائيل”، ويطلبون “السلة بلا عنب”.
وطوفان الأقصى هو موجة قوية عالية من موجات الردع لعدو لا حد لأحلامه وجشعه وجرائمه إلا بهذا.
وهو قبل ذلك قيام بالواجب المتعين.
وواجبُ المسلمين وأحرار العالم أن يكونوا معه مساندين له.
وطوفان الأقصى أحدث زلزالا سياسيا وفكريا ونفسيا، ما زالت ارتداداته وآثاره لم تنته. وأي حسابات للربح والخسارة هي الآن مؤقته وناقصة وسابقة لأوانها..
15-مع وجود اختلاف مذهبي واختلاف على المستوى السياسي، تتناغم حركة حماس مع ما يسمى “محور الممانعة” الذي تتزعمه إيران ويمتد بين العراق وسوريا ولبنان واليمن، فهل يمكن القول إن حركة حماس تنضوي فعليا داخل هذا المحور، وكيف تقيمون الدعم الذي يقدمه هذا المحور برئاسة إيران لحركة حماس ومعركتها الحالية للدفاع عن غزة؟
أما التقييم فلا أستطيعه، لأن ما يخفى علينا هو أضعاف ما نعرفه.. ولكني قلت مرارا: إنني أثق ثقة تامة في قيادة حماس وحسن تدبيرها. وأهل البيت أعرف بما في البيت. وللمقاومة الحق في أن تتعاون وتنسق مع أي جهة تراها تفيد قضيتها. علما بأن الخلاف المذهبي مع الأنظمة العربية الحليفة لإسرائيل، ومع السلطة الفلسطينية التابعة لإسرائيل، هو أكثر بكثير من الخلاف مع إيران وحزب الله.
16-ما هو رأيكم حول المناوشات التي يقوم بها الحوثيون والتي يدعون أنها تدعم المقاومة في غزة؟
أما على مذهبي فهي مشكورة ومرحب بها..
17-اجتمعت القمة العربية الإسلامية بالمملكة العربية السعودية ولم تسفر عن قرارات حاسمة بشأن الحرب المدمرة على قطاع غزة، فهل هذا في رأيكم راجع إلى الانقسام الحاصل حول مشروع حركة حماس أو إلى ضعف القرار السيادي لهذه الدول او إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية عند زعماء هذه الدول؟
للأسف هذا أصبح معهودا في القمم العربية والإسلامية، لم نعد ننتظر منها شيئا. مع تقديرنا للجهود والمواقف الانفرادية لبعض الدول العربية، مثل قطر والكويت.
18-بالنسبة لتركيا، هل تظنون أنها كانت في مستوى التطلعات من ناحية الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني؟
للأسف لم نر من تركيا لحد الآن، ولا قبل الآن، شيئا يناسب مكانتها وقدراتها ومسؤوليتها التاريخية على فلسطين. أقصد أن فلسطين خرجت من يد العثمانيين إلى يد البريطانيين، ثم الصهاينة!
19-كل ما يقترفه جيش الاحتلال الاسرائيلي في غزة الآن يرقى إلى مستوى جرائم الحرب حسب القانون الجنائي الدولي، فهل تظنون أن اللجوء إلى المحاكم الدولية لمتابعة مسؤولي هذا الكيان سيكون مفيدا للقضية الفلسطينية؟ وهل هذا الإجراء لا يتعارض مع المبادئ الإسلامية العليا؟
مقاضاة قادة الإجرام الصهيوني أمام المحكمة الجنائية الدولية خطوة مرحب بها ومهمة جدا، ومفيدة في جميع الحالات. فحتى لو تمكن حلفاء إسرائيل من التدخل والضغط، وتجنيب المجرمين الإدانة والقبضَ عليهم، فإن مجرد المحاكمة، والمرافعات التي ستعرفها، والاهتمام الإعلامي بها.. كل ذلك يخدم القضية، ويشكل ضغطا على الكيان الإجرامي.
وليس في اللجوء إلى المحكمة الجنائية أي حرج من الناحية الشرعية، لكونه أفضل من لا شيء، ولأن الشكاية تقدمت بها جهات عديدة من غير العرب والمسلمين.
20-هل هناك ما تقولونه للمطبعين والمدافعين عن اسرائيل ممن ينتسبون للأمة العربية والإسلامية؟
منذ سنوات قلت لهم: إن كنتم تحبون التطبيع، فطبعوا مع شعوبكم، وتجاوبوا مع اختياراتها وتطلعاتها ومصالحها، طبعوا وتصالحوا مع المخالفين لكم من رعاياكم وأبناء وطنكم. طبعوا مع أشقائكم المسلمين، فذلك أجدى لكم ألف مرة من التطبيع مع الصهاينة المجرمين..
كلمة في حق أهلنا في غزة.
صبرا آل غزة؛ فمن نالوا الشهادة منكم فهم (عند ربهم)، وهل من تشريف وتكريم مثل هذا؟
ومن مدَّ الله في أعمارهم، فنسأل الله تعالى أن يفرغ عليهم صبرا ونصرا، وسكينة ورحمة، وأن يفتح لهم وعلى أيديهم فتحا مبينا.
كلمة في حق المقاومة.
نحسبهم وندعو لهم أن يكونوا من أهل هذه البشائر والمفاخر: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]
شكرا لكم فضيلة الدكتور احمد الريسوني.