د.عزام أمين
كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا
مع اقتراب موعد انتخابات البرلمان الأوروبي، التي ستُجرى بين الرابع والتاسع من الشهر المُقبل (يونيو/ حزيران)، يواصل اليمين المُتطرّف الفرنسي بقيادة “التجمّع الوطني”، ورئيسته السابقة مارين لوبان، تَقَدّمه استطلاعات الرأي بفارق كبير عن منافسيه، وقد أفاد استطلاع أجراه المُؤشّر السياسي إيبسوس (Ipsos)، ونشرته صحيفة لوموند في 29 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، بأنّ 32% من المُستَجوَبين صرّحوا بنيّتهم التصويت لحزب التجمّع الوطني (الجبهة الوطنية سابقاً)، أي بزيادة نقطتين عن آخر استطلاع للرأي، بينما حلّ الحزب الحاكم (النهضة)، في المركز الثاني بـ17%، وتحالف الحزب الاشتراكي، وحزب الساحة العامة بقيادة رفاييل كلوكسمان، في المركز الثالث 14%، بينما حلّت أحزاب اليسار في المركز الرابع؛ فحصل حزب فرنسا الأبيّة بقيادة مانون أوبري على 7%، وحزب الخضر على 6.5%. واللافت للنظر تراجع قائمة حزب إريك زيمور (الاستعادة) بقيادة ماريون ماريشال لوبين وحصوله على 5.5% من عيّنة المستجوبين بعدما كانت النسبة، قبل آخر استطلاع، 7%، وهذا الحزب من اليمين المتطرّف أيضاً.
وهذا يعني أنّ الحزبيْن اليمينييْن المُتطرّفيْن سيحظيان بأعلى نسبة من التصويت (37.5%) في حال تطابقت نتائج استطلاعات الرأي مع واقع الانتخابات الفعلي. وستبلغ قائمة “التجمّع الوطني”، اليميني المُتطرّف، بقيادة الشاب جوردان بارديلا، الصدارة، وبدرجةٍ أعلى من عام 2019، إذ كانت النسبة 23.34%. المعروف عن هذا الحزب معاداته المهاجرين العرب والسود، ويدعو، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى التخلّص منهم وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية، وإغلاق الحدود، والخروج من الاتحاد الأوروبي، ومن النادر أن تمرّ مناسبة أو أن يحصل لقاءٌ صحافي مع مؤسّسه وزعيمه التاريخي جون ماري لوبان أو ابنته مارين لوبان، رئيسة الحزب، حتى عام 2021 أو جوردان بارديلا، رئيس الحزب الحالي، من دون سماع تصريحاتٍ، أقلّ ما يمكن أن يُقال فيها إنّها عنصرية، تحضّ على الكراهية والحقد. خطاب الحزب، بشكل عام، هو خطاب شعبوي عاطفي، يعتمد بشكل رئيس على التخويف من المسلمين والعرب والسود، والتلاعب بالألفاظ، والتهريج السياسي، والتخوين واتهام الآخرين بالتآمر، فلا يمكننا أن نجد فيه أيّ حلول علمية وعملية أو واقعية للمشاكل التي يعاني منها المجتمع الفرنسي، بشكل عام، كالبطالة والفروق الطبقية وأزمة الضواحي.
التصويت لليمين المُتطرّف في مناطق كثيرة في فرنسا، لا يمكن أن يقال عنه إلا أنه أمر طبيعي لكلّ ما جرى، ويجري، في مستوى السياسات الاقتصادية
والظاهرة المثيرة للدهشة هي أنّ بعض الفرنسيين من أصول مهاجرة يُصوّتون لهذا الحزب رغم عدائه للمهاجرين (!) كيف يمكننا فهم تصرّف هؤلاء المهاجرين، المتناقض في ظاهره وجوهره مع مصالحهم بشكل عام؟ ما هي العوامل التي تدفعهم للتصويت لصالح حزب عنصري معادٍ لهم؟ ظاهرة تستحقّ التوقّف عندها، وإن كانت محصورة في عدد قليل، نسبياً، من المهاجرين حتّى الآن. العوامل كثيرة ومتنوعة ومتشابكة، ولا يمكن حصرها في جانب واحد فقط، ولا يكفي أن نقول إنّ السمات الشخصية، كالغباء وعدم القدرة على التحليل، والأنانية أو العنصرية، والانغلاق الفكري، هي وراء هذه الظاهرة. ويمكن تقسيم العوامل خلف هذه الظاهرة بين ثلاثة جوانب. على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، بشكل عام، تقاسم السلطة في فرنسا حزبان، الاشتراكي اليساري واليميني الجمهوري، وأخيراً، حزب النهضة بقيادة إيمانويل ماكرون، وهذا منذ أكثر من نصف قرن، ورغم اختلاف هذه الأحزاب الثلاثة في الشكل فإنّ عدداً لا بأس به من الفرنسيين بدأ، منذ فترة، لا يرى فرقاً جوهرياً بينهم، خصوصاً أنّهم اعتمدوا بشكل كبير على سياسات اقتصادية ليبرالية ونيوليبرالية، متقاربة نوعاً ما، ولم تؤدِ إلى حلول جذرية لمشكلات البطالة والفقر والأمن. فكثير من المحلّلين السياسيين يعتبر أنّ التصويت لليمين المُتطرّف في مناطق كثيرة في فرنسا، لا يمكن أن يقال عنه إلا أنه أمر طبيعي لكلّ ما جرى، ويجري، في مستوى السياسات الاقتصادية، ولا يمكننا أن نعتبره فوزاً لليمين المُتطرّف بقدر ما هو نوع من الاحتجاج على السياسات التقليدية الليبرالية لـ”اليمين الجمهوري” والحزب الاشتراكي.
إحساس المهاجرين بالدونية تجاه الفرنسيين الأصليين لأنّهم من أصول مهاجرة، يدفعهم لاتخاذ مواقف عدائية تجاه المهاجرين الواصلين حديثاً
وعلى الصعيد الإعلامي، يُشير المتخصّصون إلى أنّه منذ وصول مارين لوبان إلى رئاسة “الجبهة الوطنية”، في عام 2011، عمد اليمين المُتطرّف إلى تغيير خطابه، وخاصّة أنّ قطاعاً واسعاً من الفرنسيين يرفضون النهج العدائي الذي يعمد إليه الحزب في التعبير عن أفكاره ورؤاه السياسية، وهذا ما دفع كثيراً من مرشّحيه إلى التخفيف من اللهجة العنصرية والحادّة تجاه المهاجرين والفرنسيين اليهود، لا بل إنّ مارين لوبان، في فترة قيادتها الحزب، حاولت، في أكثر من مناسبة، التقرّب من الفرنسيين من أصول مسلمة، من خلال مستشارها الشخصي، أيمريك شوبراد، المتزوّج من لبنانية مسلمة، عن طريق تنظيم لقاءات مع شخصيات إسلامية معروفة في عدّة دول؛ مصر والإمارات والمغرب. استراتيجية التقارب هذه، ومحاولات تحديث الحزب وإظهاره أكثر اعتدالاً مع المهاجرين، لاقت صدىً عند بعض الفرنسيين من أصول عربية، حتّى إنّ لم يغيّر الحزب شيئاً من جوهره الأيديولوجي، العنصري والفاشي.
وعلى الصعيد الشخصي والنفسي، أشارت المقابلات البحثية، واللقاءات مع هؤلاء الفرنسيين من أصول مغاربية أو شرقية؛ لبنانية وسورية، الذين صوّتوا سابقاً لهذا الحزب، إلى أنّهم يلجأون إلى استراتيجية “التماهي” مع المجتمع الفرنسي والهوية الفرنسية من أجل التكيف الاجتماعي. وآلية “التماهي” تختلف تماماً عن الاندماج الاجتماعي، التي يستطيع من خلالها المهاجر المحافظة على ثقافته الأمّ وهويته الأصلية أو جزء منهما، وبالتالي التكييف الاجتماعي مع المجتمع الفرنسي، بينما في حالة المهاجر المتماهي ينصهر تماماً في الهوية الفرنسية، ويتخلّى تماماً عن ثقافته الأمّ وهويته الأصلية، ويحاول بكلّ الوسائل إظهار هويته الثقافية الفرنسية، وغالباً ما تكون لدى المُهاجرين، في هذه الحالة، صورة سالبة عن ثقافة بلدهم الأصلي، ويعيشون نوعاً من التبخيس الذاتي، والإحساس بالنقص والخجل أمام المجتمع الفرنسي، ولكي يتهرّبوا من هذا الواقع النفسي القاسي، يصبحون “ملكيين أكثر من الملك”. ولذلك، وبشكلٍ لا شعوري، يعتبرون تصويتهم لأحزاب اليمين المُتطرّف دليلاً على فرنسيتهم، وقسم منهم يتفاخر بهذا السلوك. فإحساسهم بالدونية تجاه الفرنسيين الأصليين لأنّهم من أصول مهاجرة، وعدم ثقتهم بأنفسهم، وإن أظهروا العكس، يدفعهم، على سبيل المثال، لاتخاذ مواقف عدائية تجاه المهاجرين الواصلين حديثاً، خاصّةً أن هؤلاء يذكّرونهم بوضعهم المُزري الذي عاشوه سابقاً، فحالهم يقول: كي تكون فعلاً فرنسياً يجب عليك أن تُظهر عنصريتك قليلاً تجاه العرب والسود. يشعرون أنّ التماهي مع المجتمع الفرنسي وبالهوية الفرنسية يحقّق لهم نوعاً من الصورة الإيجابية عن ذواتهم، المجروحة أساساً.
يلجأ بعض المهاجرين إلى استراتيجية “التماهي” مع المجتمع الفرنسي والهوية الفرنسية من أجل التكيف الاجتماعي
أضف إلى ما سبق أنّ تصرفات بعض أبناء المهاجرين غير المسؤولة وغير المقبولة في المجتمع الفرنسي، وإن كان من غير الممكن تعميمها، تؤدّي إلى نوع من الإحساس بتأنيب الضمير، والخجل اللاشعوري عند بعض الفرنسيين من أصول مهاجرة، وكوسيلةِ دفاعٍ أوّلية، يلجأ بعضهم إلى التصويت لأحزاب اليمين المُتطرّف كي يثبتوا أنّهم ناجحون ومختلفون عن هؤلاء المهاجرين غير المندمجين، من وجهة نظرهم، بالرغم من التشابه الظاهري معهم.
لا يعدو ما عرضه هذا المقال أن يكون تحليلاً سريعاً لظاهرة مُعقّدة ومُهمّة، لها عوامل فردية ونفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية متشابكة ومتداخلة، ربما تحتاج إلى دراسة بحثية علمية مُعمّقة تعتمد على مقابلات ميدانية مُطوّلة مع عيّنة من هؤلاء الفرنسيين من أصول مهاجرة، الذين يصوتون لليمين المُتطرّف.