عصام نعمان
كاتب لبناني
لغاية ظهر يوم السبت الماضي، كانت فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية هي المنتصرة في حرب غزة، و»إسرائيل» هي المنهزمة باعتراف فريق من قادتها السياسيين والعسكريين. بسرعةٍ، ومن دون مقدّمات لافتة، تغيّر الوضع في ساعات بعد الظهر، إذ أعلنت «إسرائيل» نجاحها في استعادة أربعة من أسراها أحياء، ليبدأ للتو أصحاب الرؤوس الحامية من جماعة بنيامين نتنياهو بإطلاق تصريحات جنونية، تدعوه إلى الاقتصاص من أعداء الكيان الصهيوني على مستوى المنطقة برمتها.
كيف كان الوضع، وهل تغيّر على نحوٍ يشي باحتمالات خطيرة؟
الحقيقة أنه، بعد أكثر من ثمانية أشهر من القتال الضاري، لم تستطع حكومة نتنياهو أن تهزم «حماس» وسائر فصائل المقاومة في قطاع غزة. «حماس» ظلّت متحصّنة في الأنفاق الممتدة تحت كامل مساحة مدينة غزة وسائر مدن القطاع، وتقوم مع حليفاتها بعمليات قتالية يومية مدمّرة ضد القوات الإسرائيلية التي ما أن تحتل زاوية في أحد الأحياء حتى تُضطر إلى الانسحاب منها للقتال في حيّ آخر، فتعود «حماس» وحليفاتها إلى السيطرة على الحيّ الذي انسحب منه الإسرائيليون.
إلى ذلك، يبدو أن «إسرائيل» تفاجأت بما تملكه المقاومة الإسلامية (حزب الله) في لبنان من قدرات، إذ تمكّنت خلال مدة وجيزة من شلّ معظم مستعمرات الصهاينة في شمال فلسطين المحتلة، وتهجير سكانها وإشعال الحرائق فيها، لدرجة أن صحيفة «يديعوت أحرونوت» (2024/6/4) كشفت أن حزب الله أشعل أكثر من 96 حريقاً في يوم واحد. فوق ذلك، أكدت أجهزة إعلام إسرائيلية عدّة أن أكثر من 500 ألف من سكان الكيان غادروه إلى غير رجعةٍ منذ اندلاع طوفان الأقصى قبل 8 أشهر.
ظهر يوم السبت الماضي، شنّت «إسرائيل» هجوماً صاعقاً على مخيّم النصيرات ومحيط مستشفى العودة الواقعين في وسط قطاع غزة، وارتكبت أربع مجازر بحق السكان المدنيين ذهب ضحيتها أكثر من 210 شهداء ومئات الجرحى، وادّعت بعدها أنها تمكّنت من استعادة أربعة من أسراها الأحياء، لكن ذلك لم يحجب افتضاح عدّة واقعات لافتة:
*مركز أكسيوس الإعلامي الأمريكي، سرّب خبراً بأن مصدراً استخباراتياً كشف أن عناصر من الوحدة العسكرية الأمريكية المخصصة لمساعدة القوات الإسرائيلية في استعادة الأسرى شوهدت ناشطة في مخيم النصيرات أثناء الهجوم الإسرائيلي عليه.
*وسائل إعلام اسرائيلية أكّدت، استخدام الرصيف البحري الأمريكي العائم قبالة ساحل غزة في استعادة الأسرى.
*مقتل رئيس وحدة «يمام» (كوماندوس) الاسرائيلية الخاصة، أثناء الهجوم على مخيم النصيرات ومعه بعض الأسرى الإسرائيليين المحتجزين.
*تبيّن أن الأسرى الأربعة كانوا محتجزين في أحد المنازل بمخيم النصيرات، وليس في الأنفاق، ما يعني أن ادعاء «إسرائيل» وجوب احتلالها مدينة رفح لاستعادة الأسرى كان للتمويه ولتغطية السيطرة على معبر رفح المفتوح على سيناء المصرية.
*تنطّح بعض نواب حزب الليكود لمطالبة زعيمهم نتنياهو بالاستمرار في القتال لاستعادة سائر الأسرى، وتوسيع دائرة الحرب لتشمل لبنان بغية إنهاء جبهة الإسناد الناشطة فيه.
أحدثت مجازر مخيم النصيرات ومحيط مستشفى العودة، غضبة شعبية وإعلامية واسعة، وبدا كأن حرب غزة قد تتطور إلى حرب إقليمية. صحيح أن نتنياهو حقق «كسباً» معنوياً داخلياً باستعادته الأسرى الأربعة، متفادياً بذلك سقوط حكومته، ومتخذاً منهم مبرراً لاستمراره في الحرب. لكن سكرة «النصر» هذه، بعد أكثر من ثمانية أشهر من اندلاع طوفان الأقصى، لن تذهب بعقله إلى درجة المغامرة بشن حربٍ على لبنان. لماذا؟ لأن «إسرائيل» غير قادرة عسكرياً على مواجهة حزب الله، في وقت تنشغل فيه في حرب مستعرة مع جميع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، كما في الضفة الغربية، بالإضافة إلى تنظيم أنصار الله في اليمن وفصائل المقاومة العراقية المتحالفة مع أطراف محور المقاومة. تكفي الإشارة في هذا المجال إلى ما يقوله أقوى المعارضين لحرب نتنياهـو على غزة، الجنرال يتسحاق بريك، المسؤول السابق عن الكليات العسكرية الإسرائيلية، ففي مقالةٍ له في صحيفة «معاريف» (2024/6/4) شدّد على النقاط الآتية:
*»نحن الآن في خضم حربٍ تشكّل تهديداً وجودياً مباشراً لدولة اسرائيل».
*»من يتابع الدمار في مستوطنات الشمال، يُدرك انه ليس لدينا دفاع حقيقي في مواجهة صواريخ وقذائف ومسيّرات حزب الله».
*»كيف سيتمكّن الجيش الإسرائيلي من القتال في 6 قطاعات في آن معاً، على الرغم من خسارتنا في حربنا ضد «حماس» التي سببها التآكل الذي طرأ على سلاح البر في العقود الأخيرة؟».
*»ليس لدى دولة إسرائيل «النَفَس الطويل» المطلوب في حرب إقليمية شاملة، فهناك نقص شديد في الذخيرة وشتى أنواع الأسلحة، ونقص لوجستي، وصيانة أجهزة الجيش جرت خصخصتها وتسلّمتها شركات مدنية ليست قادرة خلال الحرب على تأمين التزوّد بالوقود والذخيرة والغذاء والمياه وقِطَع الغيار للقوات».
*»التغيير الفوري للمسؤولين عن تقصير 7 تشرين الاول/أكتوبر 2023 من المستوى السياسي والعسكري، وتأليف حكومة جديدة هو وحده الكفيل بإعادة القطار إلى السكة».
هذا الكلام لا يروق بطبيعة الحال لنتنياهو، فماذا تراه يفعل؟ لعلنا نجد الجواب لدى حليفه جو بايدن، فقد لمّح الرئيس الأمريكي في سياق مقابلةٍ أجرتها معه مجلة «تايم» الأمريكية (2024/6/4) إلى أن رئيس الحكومة الاسرائيلية ربما يطيل أمد الحرب في قطاع غزة في محاولةٍ منه للتشبث بالسلطة. لكن، هل التشبث بالسلطة ينقذ كيان الاحتلال من حربٍ وصفها الجنرال بريك بأنها «تشكّل تهديداً وجودياً لدولة إسرائيل؟».
هكذا تواجه «حماس» وحليفاتها في المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية مشهديةً غير مسبوقة عربياً وإقليمياً وعالمياً. فالشمال الفلسطيني المحتل، بمستعمراته وقواعده العسكرية ومرافقه الاقتصادية وغاباته الكثيفة، يحترق وسكانه يفرون بعشرات الآلاف إلى الجنوب والوسط، اللذين يبدوان أكثر أمناً، وجبهات الإسناد في لبنان والعراق واليمن تنهال بلا هوادة على حيفا وأم الرشراش (إيلات) بمسيّراتها وصواريخها وقذائفها، وتظاهرات الطلاب في شتى الجامعات في دول الشرق والغرب ضد «إسرائيل» وأمريكا، ناشطة يومياً لتصنع ظاهرةً عالمية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، والولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبيات غارقة في حربٍ تستنزفها في أوكرانيا ضد روسيا، و»إسرائيل» تنزلق باطراد إلى حمأة أزمةٍ سياسية ساخنة تؤجهها نوازع وأفكار وأهواء قادتها السياسيين الممعنين في الاختلاف والخلاف. أمام هذه المشهدية العالمية غير المسبوقة لا يبقى أمام «حماس» وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية إلاّ خيار واحد أحد: المقاومة والمزيد من المقاومة على امتداد الوطن المحتل من النهر إلى البحر، مهما كانت التحديات والتضحيات. الصبر مفتاح الفرج والنصر.