الطائفيات.. وسيناريو التدمير الذاتي؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

محمد الحبيب الدكالي

 

 

تستمر وستستمر أجهزة الحرب النفسية الصهيونية في ضخ كمّ كبير من المواد الإعلامية (“مقالات”، فيديوهات، “مقابلات”..) الموجهة إلى الرأي العام العربي، سِمتها البارزة تأجيج الكراهية والحقد الطائفي بين “السّنة” و”الشيعة”، في الاتجاهين معا وداخلهما معا، وهي حرب حقيقية تدخل في صميم توجّهات الاستراتيجيا الصهيونية بعيدة المدى، وقد بدأ تطبيقها على الأرض بنجاح فعلا منذ 40 عاما مع اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.
فهل يصب النظر الطائفي لقضايا الأمة، ومن بينها النظر لأدوار إيران والقوى المرتبطة بها مثلا، في مصلحة قضية فلسطين والمقاومة؟ وهل هذا النظر يصب في مصلحة إعادة بناء الأمة أم في مزيدمن التفكيك والإضعاف؟ كيف كانت العلاقات بين الطائفتين إلى عهد قريب؟ ما هو أصل الطائفيات أصلا؟ هل من سبيل لمعالجة هذا الداء الخبيث الذي يفتك بالأمة؟ ما هي النتائج المنطقية المرسومة والمتوقعة في دوائر التخطيط والقرار الغربية للدفع بالصراعات الطائفية بين المسلمين إلى المواجهات الشاملة بين الطائفتين؟ لنترك الأحكام الجاهزة ولننظر إلى عِبر ما حدث ويحدث على الأرض.
إيران وأمريكا/إسرائيل
في 18أبريل1983 اقتحم عنصر من حزب الله بشاحنة محملة بكمية كبيرة من المتفجرات، وعندما نقول الحزب نقول إيران طبعا، مقر السفارة الأمريكية في بيروت وفجّر الشاحنة فخلفت 63 قتيلا من موظفي السفارة. في نفس السنة تم تفجير مقر المارينز في بيروت بنفس الطريقة قتل فيه 273 من الجنود الأمريكيين، وفي نفس السنة تم تفجير مقر السفارة الفرنسية في بيروت أيضا وبنفس الطريقة قتل فيها أكثر من 300 من الجنود الفرنسيين والأمريكيين كانوا في بنايات السفارة، كما تم تفجير السفارة الأمريكية في الكويت في نهاية نفس السنة. وقبل هذا التاريخ وقعت حادثة اقتحام الطلبة الإيرانيين للسفارة الأمريكية في طهران الشهيرة سنة 1979 واحتجاز 52 من موظفيها لمدة 444 يوما وكانت حادثة مذلّة لأمريكا وقد حاول رئيسها آنذاك جيمي كارتر تحريرهم بعملية عسكرية انتهت إلى فشل ذريع وخسائر عسكرية وفضيحة سياسية واستخباراتيةكبيرة.
ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن فرضت أمريكا وحلفاؤها سلسلة طويلة من العقوبات الاقتصادية على إيران وجمدت وصادرت ودائع إيران في البنوك الأمريكية والأوروبية بلغت ملايارات الدولارات، وهو ما أثر بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني وما يزال.

في سنة 2000، قام حزب الله بهجوم على قوات “جيش لبنان الجنوبي” (ميليشيا مسلحة وموجهة إسرائيليا) كانت تسيطر على الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة كدرع واقٍ للكيان من هجمات المقاومة اللبنانية، وتمت هزيمة الميليشيات وتحرير الشريط الحدودي وإعادته إلى سيادة لبنان، فكانت ضربة كبيرة للكيان ومخططاته.
في صيف عام 2006 وبعد أسر جنديين إسرائيليين من طرف المقاومة اللبنانية شن الكيان حربا كان هدفها تدمير قدرات حزب الله، بدأت بقصف جوي كبير دمر مناطق واسعة من أحياء الضاحية الجنوبية في بيروت معقل حزب الله، نتجت عنه خسائر كبيرة في المدنيين، ثم قامت بشن هجوم بري وجوي وبحري كبير على جنوب لبنان بغرض اجتثاث المقاومة اللبنانية وإعادة لبنان لبيت الطاعة الإسرائيلية الأمريكية. انتهت الحرب بهزيمة مذلة لجيش الكيان وخسائر بشرية وعسكرية كبيرة وإغراق المدمّرة “ساعر” في البحر المتوسط وقصف حيفا واستقالة وزير الدفاع ورئيس الأركان.

خلال الفترة 2010-2012 اغتال عملاء الموساد أربعة من العلماء النوويين في الإيرانيين وهم مسعود محمدي ومسعود شهرياري وداريوش رضائي ومصطفى أحمدي روشن. وفي سنة 2011 اغتيل حسن طهراني المسؤول عن برنامج تطوير الصواريخ، وفي سنة 2020 اغتيل المسؤول الأول عن البرنامج النووي الإيراني العالم فخري زادة، كما تم اغتيال عدد من كبار ضباط الحرس الثوري في إيران وفي سوريا خلال السنوات الأخيرة. ومن المعروف أن إسرائيل وأمريكا يعتبران البرنامج النووي لإيران يشكل تهديدا استراتيجيا حقيقيا و حاولوا مع الأوروبيين بوسائل ضغط كبيرة ومنها الحصار الاقتصادي ثني إيران عن مواصلة البرنامج دون نتيجة وهي ما تزال مستمرة في تطويره، وتمكّن إيران من صناعة قنابل نووية يعني نهاية قوة الردع النووي لإسرائيل.

في الوقت الحالي ومنذ أن بدأت إسرائيل استراتيجيتها الإبادية في غزة بعد طوفان الأقصى، نفّذ حزب الله مئات العمليات ضد إسرائيل استشهد فيها عديد من القادة العسكريين والمقاتلين وضحايا مدنيين وتدميرا في قرى الجنوب.
في جميع الحالات صرحت قيادات حماس في أكثر من مناسبة بوجود دعم من إيران ومن حزب الله للمقاومة الفلسطينية بالسلاح والتمويل والتدريب، فلا مجال للتشكيك أوالتأويل المتعسف. أما الدعم السياسي والإعلامي فهو معلوم ولا يتوقف. وبالنسبة للاعتبارات التاريخية وللمرجعية الدينية في موقف الشيعة من قضية فلسطين والمسجد الأقصى فهي نفس الاعتبارات الموجودة عند السّنة لافرق بينهما.
كل ماسبق من معطيات هي أحداث وقعت على الأرض ولا معنى لتوصيف أدوار إيران والقوى المرتبطة بها حول فلسطين والمقاومة الفلسطينية بالمسرحية، فهذا عبثي وعدمي. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (المائدة 8).
محطات إيجابية في العلاقات بين الطائفتين
المعضلة الطائفية في الأمة هي حقيقة واقعة في الاتجاهين، قديمة جديدة، ولكن من الخطورة بمكان إثارة النعرات الآن وغزة الضفة يتعرضان للإبادة والتدمير، أو النظر إليها كما لو كانت صفحة سوداء بالكامل أو تاريخا من العداء المطلق، وألاّ حلّ لها إلا بالمواجهة، فهذا غير صحيح، وقصر نظر تبتهج له الدوائر الصهيونية. المحطات والشواهد التالية لها دلالات هامة ويتعين استحضارها عندما نهتم بالعلاقات بين الطائفتين:

ثار العراقيون لمقاومة الاحتلال البريطاني لبلدهم سنة1917، عندما اجتمع كبار علماء الشيعة والسنّة عربا وأكرادا في مدينة النجف سنة 1920 وأصدروا إعلانا وقعه جميعهم لرفض الاحتلال الإنجليزي والثورة ضده. ورغم أن الثورة التي انتشرت في أنحاء العراق استمرت أربعة أشهر فقط، إلا أن نتيجتها، رغم الهزيمة العسكرية للثوار بسبب التفوق العسكري البريطاني برا وجوا، فقد أدى هذا التحالف بين الطائفتين بالإعلان المشترك للثورة بمرجعية إسلامية موحّدة، إلى انسحاب بريطانيا من العراق وإعلان استقلاله سنة 1921، فقد أدركت بريطانيا أن هذا التحالف واستمرار الثورة يمثل خطرا كبيرا على وجودها في المنطقة العربية برمتها.

في سنة 1954 حضر مؤسس حركة “فدائيان إسلام” الإيرانية مجتبى ميرلوحي الملقب مجتبى نوّاب صفوي مؤتمر القدس حول فلسطين لمواجهة الاحتلال البريطاني لفلسطين والمشروع الصهيوني، و”فدائيان إسلام” (أي فدائيو الإسلام) تنظيم سياسي-عسكري عقائدي تأسس في نهايات الأربعينات الماضية ونادى بنبذ التفرقة في الأمة وتبنى العمل المسلح للإطاحة بالأنظمة الملكية في إيران والمشرق العربي باعتبارها خادمة للاستعمار، ولمواجهة المستعمرين الإنجليز والفرنسيين وإسرائيل حديثة الولادة آنذاك. التقى نواب صفوي في المؤتمر بكبار الشخصيات الإسلامية التي جاءت من إندونيسيا والهند والبلاد العربية، ثم زار مصر وسوريا، والتقى بقيادات حركة “الإخوان المسلمون” في البلدين، واتفق معهم على العمل المشترك، وكان من نتائجها ترجمة أدبيات “الإخوان المسلمون” إلى الفارسية ومنها كتاب “في ظلال القرآن” لسيد قطب وكتب أخرى له. صرح نوّاب صفوي في مناسبة خطابية في دمشق وقتها ” من أراد أن يكون جعفريا حقيقيا فلينضم إلى الإخوان المسلمين”. وفي سنة 1956 أعدم شاه إيران محمد رضا بهلوي قائد “فدائيان إسلام” مجتبى نواب صفوي، وسحق الحركة عبر سلسلة من المحاكمات والتصفيات، ولم يطل العهد كثيرا بسيد قطب الذي أثرت أفكاره في فكر فدائيان إسلام، عندما أعدمه جمال عبد الناصر سنة 1965 مع مجموعة من قيادات “الإخوان المسلمون” في مصر ومنهم قائد مقاتلي الإخوان في حرب 1948 في فلسطين وقائد مقاومة الإنجليز في قناة السويس سنة 1950، وسحق جماعتهم بتنكيل شنيع ومحاكمات طالت الآلاف من منتسبيهم.
عقلاء الطائفتين
منذ وقت طويل يدرّس الأزهر المذهب الجعفري الإثنا عشري ضمن مقرراته كمذهب إسلامي خامس مع المذاهب السّنية الأربعة، وأجمع كبار شيوخ وعلماء الأزهر على مرّ العقود على هذا الأمر دون أية عقدة طائفية. وفي أوساط المفكرين السّنة الكبار المعاصرين نجد عندهم اتفاقا واضحا على مفهوم وحدة الأمة ونبذ الفرقة الطائفية وعلى أن ما يجمع بين الطائفتين أهم وأوسع بكثير مما يختلفان فيه.
وعند كثير من مراجع الشيعة ومفكريهم نجد نفس هذه التوجهات. فقد ألّف المفكر الشهيد د.علي شريعتي عديدا من الكتب حول قضايا معالجة سلبيات الذات لدى المسلمين، وسبل التحرر من النظام الامبريالي العولمي ومواجهته، والحض على بناء وحدة بناء الأمة ونبذ التفرقة. ومن كتبه الهامة “التشيع الفاطمي والتشيع الصّفوي”، انتقد فيه انتقادا شديدا ونقض التوجهات المنحرفة التي أدخلت على مفهوم التشيع الأصلي في عهد الدولة الصفوية ثم الدولة القاجارية في إيران خلال القرون الخمسة الأخيرة، وبيّن في كتابه المفاهيم الأصلية للتشيع باعتباره ولاء لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربين كونهم يمثلون نموذجا أسمى للإسلام إيمانا وخلقا وجهادا في مواجهة الظلم ونصرة الحق والعدل. اغتيل علي شريعتي في 18 يونيو 1977 في بريطانيا على يد أجهزة شاه إيران الذي ثار عليه الإيرانيون ثورة تاريخية سنة 1978.
نفس هذا التوجّه نجده عند العلامة حسين فضل الله رحمه الله في لبنان وفي الموقف من رموز الخلافة الراشدة والصحابة وحول وحدة المسلمين ونبذ التفرقة. كما نجد نفس هذه التوجهات لدى كبار المراجع في العراق عند آل الصدر وآل الخالصي وعند كثيرين غيرهم..
القصد من هذه الشواهد التاريخية أن العلاقات بين الطائفتين في تاريخنا الحديث والمعاصر تخللتها محطات عديدة من الالتقاء والتفاهم حول قضايا كبيرة رغم الخلافات التقليدية بين الطائفتين.
لكن الصورة ليست وردية تماما، فالخلفيات “الثقافية” التاريخية العميقة الكامنة وراء ظاهرة الطائفيات ما تزال حية مع الأسف في أوساط الطائفتين، وقد برزت بشكل حاد غير مسبوق ضمن سياقات تطور الأوضاع في إيران والعالم العربي خلال السنوات الأربعين الماضية، ومفاعيل السياسات الدولية والإقليمية الموجهة للمنطقة.
أصل ظاهرة الطائفيات
هي من صميم إنتاج المسلمين منذ وقت مبكر من تاريخ الأمة، ركام كبير من الانحرافات عبر القرون عن المرجع الأصل أي الوحي، وعن النموذج الأصل أي نموذج المدينة والخلافة الراشدة. والنظر إلى هذه الظاهرة التاريخية من داخلها، أي بالاستمرار في تبني الانتماء والمواقف الطائفية التي ما تزال تمتاح من نفس المرجعيات المنحرفة التي أنتجها المسلمون في القرون الغابرة، لن يفضي إلا إلى الدخول في حلقة مفرغة عقيمة ولن يحل المشكلة، بل يجب النظر إليها كواحدة من كبريات معضلات الأمة، والعمل الحكيم طويل النفس لاجتراح الحلول الجذرية الحقيقية، من الوحي ومنه السّنّة الثابتة، فهو المرجع الأصل الذي يجب الاحتكام إليه أولا وأخيرا، وأيضا بمنظار التاريخ لاستخلاص العبر.
الطائفيات هي واحدة من أسوء ما أنتجه المسلمون عبر تاريخهم، فتاريخنا ليس ناصعا ولا بريئا من السلبيات. هي مجموع الفهومات المنحرفة عن الأصل، في فهم الإسلام وتطبيقه كمنهج للأمة المكلفة بمهمتي الخيرية والشهادة على الناس. وأول الانحراف كان في إدارة الحكم وتحوله من المنهج الشوري التعاقدي في مرحلة أولى إلى الحكم العاضّ الوراثي، وهذا بدوره نجمت عنه سلسلة من الانحرافات تفاقمت وتعاظمت عبر سائر التاريخ السياسي للمسلمين، وتفرعت عنه مقولات ومواقف تبريرية تبلورت في مذاهب ما سمي بعلم الكلام وكانت لصيقة بقضايا الانحراف في إدارة الحكم، وزاد الأمر استفحالا تاثيرات ما وفد من فهومات وفلسفات وافدة من إرث اليونان والهند، لتترسخ عوامل التشرذم في الأمة إلى الآن.
وفي الوقت الحالي، كثير من “العلماء” و”المراجع” و”المشايخ والدعاة”، من الطائفتين، يعيدون إنتاج نفس الركام السلبي المنحرف عن المنهج الأصل بعناد وغباء. لماذا وكيف؟ الجواب، من حيث طبيعة ظاهرة الطائفيات، مبثوث في الوحي ومنه السّنّة الثابتة، فقد تضمن كلام الله عز وجل تنبيهات في مواضع عديدة حول الخطورة القاتلة لتبرير الانحراف عن منهج الله سبحانه بتقديس الموروثات الجاهلية ” قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون” (الشعراء 74).. “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۚ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ” (المائدة 104) “بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ” (الزخرف 22).

الطائفيات في الأمة باضت وفرّخت عبر القرون وهي تصلح أن تكون موضعات جيدة للدراسات في علم نفس الجماعات. من المهم جدا هنا التّنبّه إلى خاصية أخرى من خصائص ظاهرة الطائفيات، فهي لا تتعلق بالشيعة والسّنة كما لو كانت كل واحدة منهما شبئا واحدا متجانسا، بل تفرّعت لدى كل من الطائفتين طائفيات فرعية عديدة، فعند السّنة طائفيات بأسماء وفرق وجماعات وطُرُق لا تكاد تحصى، ولدى كل فرقة نسختها من الإسلام فهما وممارسات ومواقف. نفس الظاهرة عند الشيعة فلديهم طائفياتهم كذلك وقد زادها استفحالا بروز الدولة الشيعية-القومية في إيران بعد الثورة وما أفرزته من سياسات خارجية أدّت إلى نتائج مروّعة في عدة بلدان عربية. وبالمناسبة، يدرك د. احمد الريسوني وغيره من المنادين بوحدة الأمة هذه المعطيات المحزنة تمام الإدراك ومواقفه منها صريحة ومعلومة، وقد اجتهد في مقالات عدة لتبيان الضرورة الشرعية والمصلحية للاهتمام بسبل حل الخلافات الأكثر حدة بين المسلمين بمنهجية الإسلام.
الحل ليس سهلا ويتطلب صبرا وحكمة بالغين من ذوي الأباب والنهى في الطائفتين، ووقتا ليس بالقصير لتفكيك أصول الظاهرة ولإعادة بناء فهم المسلمين لدينهم وفقا لمنهجية الوحي وليس وفقا للموروثات التاريخية، وهذا فقط ما سيتيح بناء عوامل الرشد والقوة في الأمة.

الأصل في الأمر كله، ابتداء وانتهاء، أنه لا سنّة ولا شيعة، بل مسلمون وكفى. لنستحضر قول الله عز وجل ” إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى” (النجم23)، وأمره سبحانه ” وجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ”(الحج 78)، وأمره جلّ ذكره ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (آل عمران 105)، ” وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ” (الروم 32). هذه توصيفات القرآن الكريم لظاهرة الطائفيات.

في نفس الوقت، تقترن ظاهرة الطائفيات بشكل عميق بحالة النسيان الجمعي لكثير من أساسيات الشريعة وهي نتيجة لهذا النسيان. هناك استحضار لبعض الأسياسيات في الفهم الجمعي يقابله نسيان لعديد من أساسيات الدين: الرحمة، القسط، الشورى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (في الأساسيات وليس فقط في الفرعيات والجزئيات)، الإحسان والإتقان، الحض على حقوق الضعفاء، إعداد القوة، الحكمة، التعارفية.. كثير من أساسيات الإسلام غائبة في الفهم العام للدين، فهي التي تُهَيْكِلُه في مجمله. فماذا قال الله تعالى في ظاهرة النسيان الجمعي لأساسيات في الدين؟ “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (المائدة 14). ومع أن هذه الآية نزلت في حق النصارى (المسيحيين) الذين انقسموا إلى كاثوليك وأورثوذوكس وبروتستانت وطوائف فرعية أخرى فدارت بينهم حروب شنيعة مهلكة في القرنين 16 و17 وبداية ق 18وأشهرها حرب الثلاثين عاما التي قتل فيها ثلث سكان ألمانيا، إلا أنها أيضا نذير للمسلمين إن هم نسوا حظا مما ذكّروا به وأوغلوا في الانقسامات الطائفية، فيحق عليهم ما حقّ على غيرهم.
لحسن الحظ، يوجد في الطائفتين كما سلف القول، كثير من العقلاء الذين يدركون الخطورة البالغة لنتائج استمرارية روح الطائفيات في الأمة، ويبدو أن كثيرين في الطائفتين لا ينتبهون إلى حرص الصهيونية والغرب على الدفع بالعلاقات بينهما إلى مرحلة المواجهات الشاملة التي سيدمر فيها الجميع، مستفيدين ومستغلين استعداد الكثيرين في الطائفتين للمساهمة الغبية في تحقيق هذا السيناريو المرعب وهو ما سنراه في الفقرة الأخيرة من هذه المقالة.
سيناريو التدمير الذاتي
أتذكر أنني قرأت مقالا نادرا جدا في محتواه نشرته إحدى المجلات الفرنسية (أظن سنة 1982) للكاتب الإسرائيلي أمنون كابيليوك، وكان من كبار الكتاب الصحقيين الدوليين. تحدث في هذا المقال عن استراتيجية إسرائيل للعشرين سنة القادمة (آنذاك)، وذكر أنها تقوم على ثلاث أسس: 1. أن المجال الحيوي لإسرائيل (l’espace vital) يشمل كل البلدان الواقعة من المغرب إلى باكستان. 2. يجب على إسرائيل أن تستغل التنوع الديني والطائفي والقومي والإثني واللغوي في هذه البلدان لإشعال أكبر عدد ممكن من الصراعات والحروب الداخلية وبين الدول. 3. أن تفضي هذه الصراعات والحروب إلى انقسام تلك البلدان إلى أكبر عدد ممكن من الدويلات الضعيفة المتناحرة، وأوضح كابيليوك في مقالته أن قادة إسرائيل يعتبرون أن هذه الاستراتيجية التدميرية الشاملة هي الطريقة الوحيدة لبقاء إسرائيل قوية ومسيطرة وسط عمق جغرافي وبشري هائل معادٍ لإسرائيل. وما لا يعرفه كثيرون أن عددا من مراكز الأبحاث الإسرائيلية والغربية نظمت عديدا من المؤتمرات وأجرت الدراسات حول “توقعات” باندلاع تلك الحروب الداخلية والبينية ورسمت خرائط للدويلات التي ستظهر نتيجة للصراعات الطائفية والقومية والعرقية في المناطق المذكورة، بل وحتى أعلام كل دويلة.

والآن، مع كثافة الدعوات التي تمجّد الجاهليات الطائفية الكبيرة منها والفرعية، مذهبية ودينية وأمازيغوية وقبلية وقومية ومناطقية، يتساءل المرء عما إذا كان المخططون لسيناريو التدمير الذاتي سينجحون في الوصول به إلى نهاياته. لنلاحظ ما حدث فعلا، فقبل عشرين سنة فقط، لم يكن أحد يتوقع أن يصل العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان إلى ما وصلوا إليه الآن من حروب داخلية مدمرة وانقسامات مجتمعية عميقة، وكانت بداياتها الأبرز الحرب الأهلية الطائفية في لبنان التي استمرت 15 عاما، ثم الحرب العراقية-الإيرانية التي أغرى فيها الغرب صدام حسين ببدءها باسم قومية “عربية” في مواجهة أخرى “فارسية”، استمرت تسع سنوات قتل فيها من الطرفين مليون نفس ومئات الآلاف من المعوقين والجرحى ودمارا بنيويا واقتصاديا هائلا.
ومع أن استراتيجية إسرائيل التي تحدث عنها كابليوك قد قطعت أشواطا بالفعل على الأرض، يبقى مشروع الصّدام الشامل بين الطائفتين هو الأهم بالنسبة لإسرائيل والغرب، وعلى هذا الأساس يجب فهم السيل الذي لا ينقطع من مواد الحرب النفسية التي تشتغل عليها ترسانة حقيقية من المراكز البحثية والمنظومات الإعلامية المتخصصة وجيش منظم ومدرب من “المقاتلين الإلكترونيين” من داخل الكيان ومن داخل بلدان عربية، وتفعل أفاعيلها مع الأسف في عقول كثير من العرب والمسلمين.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...