وضاح عبد الباري طاهر
البارحة، وقبل أن أذهب للنوم صعدت للمكتبة، فوجدت كُتيبًا صغيرًا قديمًا مفقودة صفحاته الأولى إلى صفحة 239، وفيه مواضيع متعددة من لغات، إلى تاريخ، إلى تعليم… إلخ.
ويبدو أنَّ الوالد الأستاذ عبد الباري طاهر كان قد اقتناه أيام دراسته بالحجاز بمكة المكرمة، وتلقيه العلم عن خيرة علمائها أمثال السيد العلامة علوي بن عباس المالكي، والأستاذ حسن المشاط، ومحمد نور، ومحمد أمين مكية، وغيرهم.
وقد شدَّني في هذا الكتاب الصغير وأثار انتباهي مبحثٌ عن اللغات، فشرعت في قراءته، فأدهشني ما تضمنه من معلومات قيمة ومهمة وردت فيه، وأثار إعجابي سعة علم واطلاع صاحب المقال الدكتور بورتر، فقمت بصفه، وإعادة نشره بغيةَ الاستفادة منه.
ولو لم يكن في هذا المقال إلا التأكيد على الوحدة بين البشر، وأنَّ هذه الكثرة والاختلاف والتنوع تؤول إلى وحدة واحدة، إمَّا على مذهب أهل وحدة الوجود كابن عربي والفرغاني وابن الفارض، والتلمساني، أو وفق أصحاب المذهب الإنساني، وله رموزه الكثيرة أيضًا من عرب وأجانب ومنهم أمين معلوف، واريك فروم وهلم جرًا.
وإنْ كان ما قمت به شيء لا يكاد يذكر غير أني أعدت نشر هذا المقال القيم؛ حتى يعمَّ به النفع، وتحصل به الفائدة على أوسع نطاق ممكن.
فإن كان هذا العمل المتواضع بإعادة نشر هذ المبحث القيم للدكتور بورتر يُسوِّغ لي أنْ أهديه لأحد؛ فإني أهديه لأساتذتي الأجلاء: عبد الباري طاهر، ومحمود الصغيري، وأحمد شيخ الكاف، وأحمد شرف الحكيمي، وأحمد كمال نعمان.
وقد بدت لي بعض الملاحظات آثرت أن أجعلها في خاتمة مقال الدكتور بورتر.
فإلى هذا المقال..
اللغات
بقلم حضرة العلامة المفضال الدكتور بورتر أستاذ التاريخ في الكلية الإنجيلية السورية
اللغة خاصةٌ من خواص البشر، ومِزيةٌ من مزايا الإنسان التي امتاز بها على غيره من أنواع الحيوان. ولا يُعتَرض على صحة ما ذكرنا بالبَبَغاء، فإنها، وإن استطاعت التلفظ ببعض الألفاظ تقليدًا للإنسان بما تسمعه من ألفاظه، قد لا تفهم ما تلفظ به، ثم لو خُلِّيت هي وشأنها لما تهيأ لها أن تركب جملةً واحدة يُدلُّ بها على معنى مركب، كما هو الشأن في لغات الإنسان من أحطها إلى أعلاها في سلم الارتقاء.
وقد تناهت لغات البشر في الكثرة حتى زادت على ألفِ لغة أو فرع من لغة تختلف الواحدة عن الأخرى اختلافًا يمنع من التخاطب والتفاهم بين المتكلمين باثنتين منها إنْ لم يكن أحدهم درس لغة الآخر وتعلمها من قبل؛ غير أنه لم تكن الحال هكذا منذ أول الأمر، بل كان للبشر لغة واحدة يتفاهمون بها، وربما لم تتفرع هذه اللغة إلا إلى فروع قليلة قبل أنْ انقسم رؤساء الآباء والعشائر، واستقل كل منهم بجهةٍ من الأرض غير جهة أخيه.
لكن ما لبثت هذه اللغة الأصلية أو فروعها أنْ أخذت تتفرع تبعًا لتفرع الجنس، وانفصال إحدى قبائله وعشائره عن الأخرى، ومثل هذا مشاهد في وقتنا الحاضر، فإنَّ قبائل البرابرة إذا انقسمت عشائر، وانفصلت كل عشيرة عن أختها، وتحيزت بمكانٍ خاصٍ بها، لا تلبث لغتهم أنْ تتفرع على مقدار عدد العشائر، ولا يمضي على ذلك إلا زمن قليل حتى يصبح كل فرع من فروع لغتهم الأولى لغةً قائمة بذاتها، بخلاف الأمم المتمدنة، فإنَّ لغاتها ثبتت على صورة واحدة مدةً طويلة، وإنْ تفرعوا واستقلوا بمواطن ودول خاصة، وإنْ تغيرت كان التغيُّر جزئيًّا لا يُرى أثره إلا في الأزمنة المتطاولة؛ ذلك لأنَّ تقييد للغة والكتابة وتدوينها في كتب خاصة مضافًا إلى ما يكون من الاتصاف بالمتاجر والمكاتبات؛ كل ذلك يمنع من سرعة التغير في اللغة بما يوجب استقلال كل من جماعات الأمة المتمدنة بلغة خاصة، وإنْ استقلوا بمواطن ودول خاصة.
وإليك شاهدًا للغة الإنكليزية، فإنَّ أهلها منذ سنين عديدة تفرقوا في جهات المعمور، واستوطنوها على الاستقلال في أميركا وأوستراليا وأفريقية، ومع ذلك فلغتهم لم تتغير إلا قليلاً.
أمَّا البرهان القاطع على أنَّ لغات البشر في أول أمرهم كانت لغةً واحدة أو فروعًا قليلة من لغة واحدة، فمأخوذ من علم اللغة المسمى بالفيلولوجيا؛ وهو علمٌ يبحث عن أصول اللغة، وكيفية تركيبها ونموها. والذي يؤخذ من هذا العلم أنَّ أكثر مفردات أيِّ لغة كانت هي إمَّا مركبة، أو مشتقة. وإذا رُدَّتْ هذه المركبات والمشتقات إلى أصولها كانت الأصول قليلة جدًا بالنسبة إلى جملة الألفاظ الموجودة.
ثم إنَّ هذه الأصول نفسها إذا أمعنا النظر فيها رأينا أنَّ بعضها -إنْ لم نقل أكثرها- هي أيضًا مركبة يمكن ردها إلى أصول أبسط مما هي عليه. والنتيجة من كُلِّ ذلك أنَّ لغة البشر في أول أمرها كانت مؤلفة من أصول ألفاظ قليلة بسيطة ربما لم تكن تتجاوز خمسمئة لفظة عدًّا.
ثُمَّ إذا قابلنا الآن أصول لغة واحدة بأصول لغة أخرى، ورأينا هناك تجانسًا واتفاقًا، نحكم من المجانسة والاتفاق بين تلك الأصول أنَّ هاتين اللغتين المتباينتين في الحال هما في الأصل فرعان للغة واحدة، وأنهما كانتا بمقتضى النتيجة أيضًا لغة واحدة يتفاهم بها أفراد الشعب أو الأولى قبل أن افترقت قبائلها، وتَحيَّزتْ كل قبيلة لوحدها.
وعلى هذا المبدأ استنتج أصحاب علم اللغة المعروف بالفيلولوجيا بعد البحث الطويل المدقق أنَّ لغة البشر كانت في الأصل لغة واحدة ذات فروع قليلة، ومن هذه الفروع القليلة نشأت كل لغات العالم الحاضرة.
ولزيادة الإيضاح نقول: إنَّ علماء الفيلولوجيا نظروا في اللغات الحاضرة فوجدوها بالنظر إلى درجة نموها وارتقائها على ثلاثة أقسام أو فروع كبيرة. وأبسط هذه الفروع وأقلها ارتقاءً ونموًّا هو ما كانت فيه اللغة مركبة من ألفاظ بسيطة ذات مقطع واحد لا تتصرف فيه تلك الألفاظ للدلالة على الزمان، أو الحدث، أو المفرد، أو الجمع، وما أشبه؛ إنَّما يُستدل على جميع ذلك بوضع اللفظة في الجملة، وكل لفظة منها يمكن أنْ تقوم مقام الاسم، أو الفعل، أو الحرف لا يتميز أحدُ هذه عن قسيميه إلا بقرينة وضعهِ في الجملة. وأشهر لغات هذا النوع لغة الصين، والمتكلمون بها يبلغون نحوًا عن أربعمئة مليون نفس، إلا أنَّها متفرعة إلى فروع عديدة أكثرها في شرقي أسيا. وقيل: إنَّ هذه اللغة هي أقرب اللغات إلى اللغة الأصلية، وقد توقفت عن النمو من عهد قديم جدًّا، فكأنها لا تزال على حال طفوليتها الأولى.
أما القسم الثاني، ويعرف عند الفيلولوجيين بالمزجي أخذًا من كيفية تركيب أصوله، ففيه تتركب الألفاظ بمزج لفظة بأخرى والتحامهما معًا، حتى تصيرا لفظةً واحدة، ثُمَّ تُضاف إليها أخرى؛ لتأدية المعاني المختلفة من زمان، وحدث، وصفة، وهيئة على ما يريده المتكلم، مع بقاء الأصل على صورته من غير تغيير في ترتيب حروفه ولا زيادة عليها. ومن هذا القسم اللغة العثمانية، والهنغارية، وعدة لغات أخرى تُعرف باللغات الطورانية. ولا يخفى أنَّ هذا القسم يُرَى أنَّه أعظم منه نموًّا وارتقاءً، إلا أنَّ نموه انحصر بإضافة لفظة إلى أخرى ومزجها معًا متلاحمتين حتى تصيرا كالكلمة الواحدة.
ثم القسم الثالث، وهو ما تركب بإضافة لفظة إلى أخرى على ما في القسم الثاني إلا أنه يعرض فيه للفظتين المتركبتين شيءٌ من الحذف، أو التغيير مما لا يعرض لهما في القسم الثاني؛ فَيُزاد في وسطها حرف أو يبدَّل حرف بحرف، ثُمَّ قد تُعامل هذه اللفظة المركبة معاملةَ البسيطة، فَيُزاد عليها، أو ينحت منها؛ حتى لقد تتغير برمتها عن الأصول المركبة منها بحيث يتعذر أحيانًا رَدُّهَا إليها.
ثم إنَّ الأصل الواحد يتصرف على قواعد معينة للدلالة على الزمان، والحَدَث، والإفراد، والجمع وما أشبه؛ فيحدث مِنْ ثَمَّ صورٌ كثيرةٌ من أصلٍ واحد؛ ولهذه الخصوصية يُسمَّى هذا القسم أو الفرع من اللغات باللغات المتصرفة، وهو يشتمل على أشهر لغات البشر وأكثرها عدد متكلمين كالعربية، والسريانية، والإنكليزية، والروسية؛ من اللغات الأريانية. ولا يخفى أنَّ هذه اللغات قد بلغت أعلى درجة من النمو والارتقاء.
هذا تقسيم اللغات من حيثية تركيبها، ودرجة نموها، أما تقسيمها نظرًا إلى تجانسها، فيجري هذا على المبدأ الذي ألمعنا إليه قبلاً، وهو كما يأتي:
إنْ جُرِّدَتْ ألفاظ لغة عن مزيداتها بقِيتْ الأصول؛ والأصول قليلة بالنسبة إلى المزيدات كما مر، ثُمَّ إذا قابلنا هذه الأصول بأصول لغةٍ أخرى ورأينا فيها اتفاقًا تامًا في بعضها، ومشابهةً في البعض الآخر حكمنا بمجانسة اللغتين؛ أي أنهما تفرعتا من جنس واحد.
ويُعتبر هنا خاصةً الألفاظ التي كثر استعمالها لطول ومشاهدة مسمياتها بين البشر مما لا غنى عنها في أمورهم كالأب، والأم، والابن، والبنت، وسائر ألفاظ القرابة، وكالشمس والقمر، والأرض، والبحر، والنهر، وأسماء الحيوانات الداجنة، وما أشبه من المعاني التي لابُدَّ للإنسان من التعبير عنها في كل حال من أحواله. فإذا قابلنا أصول العربية بأصول العبرانية مثلاً رأينا بينهما مشابهةً كلية؛ ولذلك نحكم بأنهما كانتا قديمًا لغةً واحدة، وكذلك السريانية، والأمهرية من اللغات المتداولة حتى الآن.
أمَّا من اللغات التي قد درس استعمالها منذ قديم الزمان، فوجدوا أن الفينيقية، والأشورية، والكلدانية، والأرامية، والنبطية، والتدمرية؛ كل هذه من جنس العربية والعبرانية؛ أي هي من فروع لغة واحدة تُعرف بالسامية نسبةً إلى سام بن نوح، وقد استفدنا معرفة تجانسها من علم اللغة.
وهاكَ بعض الألفاظ المشهورة على ما يُنطق بها في اللغات الآتية فقابل بينها:
العربية | العبرانية | الأشورية | الفينيقية |
أبٌ | اب | ابو | اب |
أمٌ | ام | امَّو | ام |
ابنٌ | بن (بار) | بال | بن |
الله | ال (الوهي) | إلو | الن |
مَلَكٌ | ملِك | ملِك | ملك |
ديانٌ | دين | دايان | |
أرضٌ | ارص | ارصة | ارص |
شمسٌ | شمش | شَمَس | |
يومٌ | يوم | يومو | |
بيتٌ | بايت | بِت | |
موتٌ | موت | مِتُو | مت |
وأمثالها كثيرة جِدًّا؛ حتى لا يمكن الشك في أنَّ جميع هذه اللغات هي من أصل واحد، وقد امتاز الفرع السامي عن سائر اللغات في أنَّ أكثرَ أصوله مركبة من ثلاثة أحرف، وقد تكون من أربعة وخمسة، لكن لا يُظنُّ أنَّ هذه الأصول الثلاثية وُجِدت هكذا ابتداءً، بل المرجح أنَّ أكثرها- إنْ لم نقل كلها- تركبت في الأصل من أصول أبسط من هذه الأصول الثلاثية؛ كانت ذات حرفين أو حرف واحد كسائر اللغات، ثُمَّ امتزجت تلك الأصول على توالي الأيام فصارت على هذه الصورة التي هي عليها الآن، ولطول العهد درست آثار تلك الأصول، وفُقِدت الحلقات المتوسطة بينها وبين الألفاظ المتركبة منها؛ فتعذر علينا لذلك معرفتها، ورد الكلمات إليها. ويرجح هذا القول القليل من الألفاظ الثلاثية التي يمكن ردها إلى أصولها التي تركبت منها، وقياس التمثيل على غيرها من ألفاظ سائر اللغات الأخرى.
وقد قسَّمُوا اللغات إلى عدة أجناس غير السامية من حيثية المجانسة، ومن أعظمها الأريانية الطورانية. أما الأريانية، فَتُسمَّى أيضًا الهندية الأوروبية؛ لأنها ممتدة من الهند إلى أوروبا، واكتشاف مجانستها من أعظم اكتشافات علم اللغة؛ اهتدى إليها العلماء بدرس السنسكريت- لغة الهند القديمة؛ وهي لغة ميتة غير أنها مدونة في كتب كثيرة تُحسبُ مقدسةً عند البراهمة. فبعد إمعان النظر بأصول هذه اللغة وجدودها في غاية المجانسة للغات أوروبا القديمة، ولغة الأرمن، ولغات اخرى في آسيا الصغرى القديمة والحديثة؛ فتحقق أنَّ فروع هذا الأصل ممتدة من الهند إلى أوروبا، فأمريكا، وأوستراليا، وكل الأماكن التي انتقل إليها أهل أوروبا في الحال. واستدلوا بذلك على أنَّ الجنس الأرياني أكثر الأجناس انتشارًا على وجه الأرض، ولعلَّ المتكلمين بلغته أكثر أيضًا من المتكلمين بسواها. وأكثر لغات هذا النوع انتشارًا اللغة الإنكليزية التي صار عدد المتكلمين بها الآن 130.000.000.
أمَّا فروع اللغة الأريانية فنحو خمسين فرعًا ما بين ميِّت وحي. ومن أهم اللغات الميتة منها اللغة السنسكريتية المار ذكرها، والفارسية، واليونانية، واللاتينية. أمَّا الحية فأعظمها الإنكليزية، والروسية، والألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية.
أما الجنس الطوراني ففروعه كثيرة جدًا تبلغ زُهاء المائة منها في أوروبا كالعثمانية، والهنغارية، ومنها في آسيا، وهي الجانب الأكبر كالتترية، والمغولية، وخلافهما من اللغات الكثيرة والمنتشرة في شمالي آسيا وفي أواسطها إلى سيام، وبعض جزائر البحر المحيط.
وبقي علينا أنْ نشير إلى مسألةٍ بحث فيها العلماء، وهي هل تفرعت لغات البشر العديدة من أصول مختلفة؟! وهذا البحث في غاية الأهمية؛ لأنَّ عليه مدار برهان من أعظم البراهين وأثبتها على وحدة الجنس البشري أو تعدده.
إنَّ مباحث علم اللغة المعروف بالفيلولوجيا تبين إمكانية الوجه الأول، وكثيرون من علمائه يرجحونه؛ لأنَّ البحث في أصل اللغات قد ردها إلى أصول قليلة كما ذكرنا، ويرجح جُلَّتُهم أنه لو حُفظت آثار هذه اللغات الأصلية أزمان ارتقائها ونموها؛ لتبين بسهولة أنها قد جاءت عن أصلٍ واحد. ولنذكر لك مثالاً واحدًا من المسالك الخفية التي تؤيد ما يذهبون إليه:
خذ مثلاً لفظة «أريان»، فإنَّ أصلها، وهو «أر»، في اللغة السنسكريتية يدل على معنى الحراثة، أو حرث. وهذا الأصل هو في لغة إرلاندا موافق تمامًا لما هو عليه في السنسكريتية، ثُمَّ هو في اللاتينية «أراري»، وفي اليونانية «أرون»، وفي الإنكليزية «إرْ»؛ ومن هذا الأصل في الإنكليزية اشتُقَّت لفظة «أرث»، بمعنى «أرض»؛ أي المحروث.
فإذا قابلنا أرث بـ «أرض» في العربية رأينا مُشابهةً شديدةً بين الأصلين صورةً، ومعنى؛ وهكذا الحال في أصول غير الأصل الذي ذكرنا يظهر منها المشابهة بين الأصول السامية، والأريانية؛ مما يصحح معه ترجيح الحكم أنَّ هذين الفرعين العظيمين السامي، والآري قد تفرعا من أصلٍ واحد، إلا أن البراهينَ الآن لا توجب قطعَا بعد، والعلم عند الله في المستقبل. والحمد لله أولاً وآخرًا.
ولنا ملاحظتان مع المقال:
بدأ الباحث متيقنًا مِنْ أنَّ اللغات كلها تؤول وترجع إلى أصلٍ واحد في مطلع مقاله، كقوله: “أمَّا البرهان القاطع على أنَّ لغات البشر في أول أمرهم كانت لغةً واحدة، أو فروعًا قليلة من لغة واحدة، فمأخوذ من علم اللغة المسمى بالفيلولوجيا”.
وقوله: “وعلى هذا المبدأ استنتج أصحاب علم اللغة المعروف بالفيلولوجيا بعد البحث الطويل المدقق أنَّ لغة البشر كانت في الأصل لغة واحدة ذات فروع قليلة، ومن هذه الفروع القليلة نشأت كل لغات العالم الحاضرة.
ثم انتهى به الأمر شَكَّاكًا. فقال في خاتمة المقال: إنَّ مباحث علم اللغة المعروف بالفيلولوجيا تبين إمكانية الوجه الأول (يقصد أن مرجع اللغات كلها لأصل واحد)، وكثيرون من علمائه يرجحونه؛ لأنَّ البحث في أصل اللغات قد ردها إلى أصول قليلة كما ذكرنا.
أمَّا المناقضة الصريحة لما صَدَّر به كلامه فقوله في الخاتمة: “إلا أن البراهينَ الآن لا توجب قطعَا بعد”. أي تفرع اللغات السامية والآرية عن أصل واحد.
ولعل هذا ميزة. فالمرء يبدأ متيقنًا من كل شيء، ثم يرى كما لو أنه يقبض على ماء لا يلبث أن ينسرب من بين أصابعه.
الأمر الثاني: يلاحظ أن لفظة «أرصىة» في الأشورية بمعنى الأرض. هي نفسها في محكية تهامة التي تعني ساحة أو فناء البيت. ولا شكَّ أنَّ الأرصة (العرصة) هي أرض في معناها العام.
وكذا لفظة «امو» فيها أيضًا بمعنى الأم في العربية، هي جارية أيضًا على قواعد المحكية التهامية بتخفيف التنوين في نهاية الكلمة فيصير واوًا نحو: «بُرُّو»، «سمنو»، «عسلو»، بمعنى بر، وسمن، وعسل.
ولفظة «يومو» التي ذكرها بمعنى يوم في العربية، أليست هي نفسها في محكية تهامة؟!
وكذا لفظة «شمش»، في العبرية بمعنى شمس في العربية هي أيضًا في بعض محكيات تهامة.