أينَ أنتَ يا مُعَاذ؟!

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

وضاح عبد الباري طاهر

 

 

 

الرفيق معاذ ما أجمل تلك الأيام القصيرة التي قضيناها معًا في إجازتنا القصيرة التي مَرَّتْ وكأنَّها أعياد.

كطفلين لم ننمْ تلك الليلة ننتظرُ وَضَحَ الصباح، وانتشار الضوء، وسماع ضجيج المُصلِّين بالتكبير، حتى نهنأ ونشبع باللعب والركض وأكل الحلوى والكعك، مزهوين بملابس العيد الجديدة، والتقاط الصور معًا، قبل أن يدهمنا كابوس العودة للمدرسة مجددًا، ومعاناة أيامها الرتيبة المملة، ومقاساة دروسها وفروضها المُضْنِيَة والغبِّية.

لم يكن من السهل اتخاذ ذلك القرار، بعد قناعتنا التامة بالتحول إلى هذا المذهب الغريب والشاذ  في رأي الكثير؛ حيث تنقلب فيه وظائف النساء والرجال رأسًا على عقب.

فالنساء هنا يؤدون أدوار الرجال، والعكس صحيح أيضًا. إنَّهُ لمزيج غريب من الاشتراكية والرأسمالية، والفردية والغيرية، والنظام والفوضوية؛ أشتات من الصوفية، والواقعية، والإنسانية، والنسبية، ومذاهب الشكاكين والسوفسطائيين… إلخ هذا الخليط النادر من المذاهب المتنافرة التي لا تكاد تتفق على رأي، أو يجمعها مكان.

هل مرَّ بخاطرك يومًا يا صديقي أنْ تتخلى النساء عن وظائفهن التي فُطِرنَ عليها منذ الأيام الأُوَل في فجر التاريخ بالاهتمام بالأرض وفلاحتها، والتفرغ للمنزل وشئونه، والذهاب إلى الصيد بدلاً عن الرجال الأشدَّاء الأقوياء؟!

كنَّا وحدنا من بين الأصدقاء مَنْ أدركَ أنَّ ثمَّة تحولات عميقة تحدث، وأنَّ الفهم والاستعداد الجيد والتكيف مع الآتي هو الخيار الوحيد.

كان علينا أن نفسح الطريق لهذا التغيير القادم، وأن نلتحق بركبه، لا أنْ نقف بغباءِ  في طريق عربته السريعة التي لا تعرف التوقف.

أيُّ سَدٍّ يقوى على الوقوف أمام سيلَ العرم؟! ومَنْ بمقدوره أن يمنع الشمس من أن تشرق كل صباح، والسحابة أنْ تسقي الأرض، والنحلة من لِقَاح الزهرة؟!

كان حتمًا علينا أن نُسْلِم اليوم بصدق وقناعة، قبل أن نضطر للأستسلام غدًا مُكرهين مضطرين، ثم نصير منافقين مُرائين.

أتذكرُ ما قاله ذلك المحاضر الشاب الذي يصِمهُ أهل بلدتنا بالزندقة والكفر: أنَّ الأصل الذي يقوم عليه هذا المذهب، وقطبه الذي يدور عليه هو الإنسان؛ فهو مبدأ الأشياء ومنتهاها، وهو لقاح هذه الأرض الذي تحمله رياحها، وأمطارها التي تجود به سماؤها.

وأنَّكَ حين تعرف نفسك، فإنكَ -ولا شكَّ- تعرف القدرة العظيمة التي أوجدتك.

لم يزلْ سحابةَ يومهِ يدعونا للشك في كل شيء، والكفر بكل موروث: شرائعَ تلقيناها، مذاهبَ اعتنقناها، مجتمعات نعيش فيها، قوانين تحكمنا، وعلاقات تنتظم حياتنا، وتربط ما بيننا.

 وأنْ لا ضيرَ عليكَ إذا ما آمنتَ بأنك حُرٌّ مُختار أنْ تسلكَ طريق الضلالة بدلاً من الهدى، وأن ترضى بالكفر عِوضًا عن هذا الإيمان الذي عليه أكثر الناس.

وكما كنت مؤمنًا إيمانًا لا حدودَ له، فليكن شكك وكفرك كذلك لا غاية ولا نهاية ينتهي إليها، أو يقف عندها؛ حتى تنجاب الظلمات من حولك، وتتبدد الأوهام من رأسك؛ فترى الأشياء كما هي عليه حقًّا، لا كما لُقِّنتَها.

ليسَ لنا من الإيمان شيء إلا أنَّنا أصحاب الرواية التي نكتبها، والقصيدة التي نبدعها. وكذلك كان وما يكون  في هذا الكون الرحب روايةٌ مُلهِمة، وقصيدةٌ رائعة تنطق عن مبدعٍ عظيم، وخالق حكيم يقوم بما يقوم به باختيارٍ لا اضطرارَ معه.

بدتْ لي القصة التي حكاها لنا كموسيقي ساحرة، وظلت أنغامها تتردد  في أعماقي بعد أنْ انقضتْ، وكأنَّها لم تنقضِ يا مُعَاذ!

لَشدَّ ما أعجبتني تلك القصة عن الطفل الصغير الذي أودع نقودَ العيد لدى أمه، ولمَّا اشتدت حاجته إليها ليشتري بها بعض اللعب والحلوى، أخبرته والدته بأنها اضطرت لإنفاقها في إحدى مصالحه الخاصة، فضجَّ بالبكاء والعويل، وأخذ  في تعنيفها ولومها؛ فأجابته تستدر لطفه وعطفه: أهكذا يصنع الأولاد المهذبون؟

ألا تُصغي للآداب الحميدة، والشرائع القويمة، وهي تهتفُ بك: أمُّك، ثُمَّ أمُّك؟!

فرد عليها غيرَ مترَوٍّ ولا متمهل، وهو يتميَّز من الغيظ والحنق: أمَّك ثُمَّ أمَّك لا تودعْ نقودك لديها بعد الآن!

لقد كان هذا الطفل عصيًّا على الترويض؛ لا يصدق إلا حدسه، ولا يؤمن إلا بتجربته، وهي -على مرارتها- لأثمن وأنفس من كلِّ حديثٍ يُلقى إليه لم يتبين صدقه، ولمْ يَعُدْ عليه بالنفع أو الفائدة.

نسيت أن أخبرك عن ذلك الجبل والقصر السحري الثاوي على قُنَّته. أصدقكَ القول بأنه لم يكن لدىَّ أيَّ فكرة بالعزم والرحلة لذلك المكان الذي نُسِجتْ حوله الأساطير، وكثرت بشأنه أحاديث الناس.

لقد كان مسراي إليه  في ليلةٍ بَدرِّية لا تشبهها كل الليالي التي عرفتها في حياتي، ولم أكد أبلغ ذِروته، حتى أدركت أني فقدت كثيرًا مما كنت اصطحبته معي: نظارتي، حذائي، حتى سروالي خلَّفتهُ ورائي، ولم يبق لي ما يواري سوأتي إلا لباسي الداخلي.

في حقيقة الأمر كانَ علي أنْ اختار وأنا أتوقل صاعدًا إليه، بالتخلي عن هذه الأشياء التي كانت تثقلني، وتبطئ حركتي؛ لأتمكن من مواصلة سيري، أمَّا بعضها الآخر، فقد اتضح لي فقدانها لاحقًا على غيرِ اختيارٍ مني.

لا أبالغ حين أخبرك أني شعرت شعورًا استحوذ على تفكيري، وأنا أتسلق ذلك الجبل بأنِّي قِردٌ خبيثٌ ماكر، وخيِّلَ إليَّ أنِّي أنا الإنسان الأول الذي كان يأوي إليه هربًا من الحيوانات المفترسة.

لم أصلْ لِقمَّة الجبل إلا بعد أن انقطعت أنفاسي، وبلغ مني التعب كُلَّ مبلغ. لم أصدق أنِّي وضعت قدمي على سطحه.

إنَّها حقًّا تجربة لم يسبق لي أن اختبرتها مُدَّة حياتي، ولم يَدُرْ بخلدي في يومٍ من الأيام مجرد التفكير فيها.

كان هناك نُقرةٌ محفورة  في أعلى الجبل تتسع لشخص بمثل طولي، فأويتُ إليها كما يأوي المحرور إلى الظِّل، وهناك ألقيت نفسي، ومددت جسدي المنهك؛ مكتفيًا بالاسترخاء والتأمل  في السماء، والنظر إلى نجومها المتلألئة.

كانت تلك النُّقْرَة بحق مضجعي الأول، وشعرت بأُلفةٍ تسري في أوصالي من ذلك المكان، بعد أن قمت بالتبول في بعض جوانبه؛ كما يفعل حيوان ضاري يضع حدوده التي لا ينبغي الاقتراب منها أو تجاوزها.

كان  في أقصى اليمين منها نقرةٌ أخرى صغيرة يتجمع فيها الماء، قمت بغمس يدي فيها.

كان الماء آجنًا معتكرًا؛ فلم أجازف بالشرب منه، وسمحت ليدي بالخوض فيه، وتحسس قعره.

كنت قد انتهيت مِنْ طوافَ القدوم بهذا الجبل المقدس، ولم تبقَ ناحية أو جهة منه إلا مررت بها وقمت باستكشافها.

ما جمَّد أوصالي حقًا هو ذلك الجبل المُشْمَخِرّ الذي كان ينتصب غيرَ بعيدٍ من هذا الجبل الذي كنت أقف على شُرُفاتِه.

لم يكن الجبل الذي أقف عليه شيئًا مذكورًا بجانب ذلك الجبل الوقور والغارق في صمتهِ الأبدي.

 كان جبلي المقدس أشبهَ ما يكون بقِزمٍ من أقزام إفريقيا الفِطرِّيين يتضاءل متصاغرًا أمام هذا المخلوق الأسطوري الضخم والعملاق.

لقد كان غايةً في الارتفاع والسمو؛ والعظمة التي يملأ بها صدرك حين تُقلِّبُ طرفك فيه لأول مرة، تخطف بصرك، وتَشْدَهُ لُبَّك؛ فتسمِّرك في مكانك، باعثةً فيك مشاعرَ شَتَّى مختلفة ومختلطة  في وقتٍ واحد.

لستُ أراني محتاجًا لأنْ أخبركَ عن ذلك القصر السحري المزعوم الذي أكثر الناس الخوض بشأنه، وما انفكوا يهذون -دون توقف- بالحديث عن كنوزه المطمورة بين جدرانه؛ فما أكثر ما يتعالم الناس بأشياء لا حقيقةَ لها.

هذا حالهم الذي درجوا عليه؛ فهم لا يفتؤون يُعظِّمُون أكثرّ الأشياء خِسَّةً واتضاعًا، ويجمِّلُون أكثر الأشياء قُبحًا في هذا العالم.

 لقد تبينَ لي أنَّ هذا القصر ليسَ إلا أكذوبةً كبرى، وأنَّ مَنْ بناه ليس إلا واحدًا من الأمراء الأغبياء ممن جمعوا بين تفاهة التفكير، وجشع النفس السادرة في كل أنواع الظلال والحمق والغي.

إنَّك حين ترسل طرفك إليه، لَتعلمُ عِلمَ اليقين مدى السفه الذي ملكَ على هذا المعتوه عقله- هذا إن كان له عقل-؛ حتى ألحق كل هذا الدمار والتشويه والتدنيس للجبل المقدس؛ ليقيم عليه قصره السخيف الخالي من أي قيمةٍ أو أثرٍ فني ذي بال.

لم ينلْ من هذا الجبل عاديات الدهر، ولا صروف الزمان، وظلَّ لأحقاب طويلة محتفظًا بجماله وصورته التي خلقه الله عليها، ولم تمسسه يد الإنسان الأول المتوحش، أو الطبيعة في بعض نوبات جنونها؛ لم ينالاه بسوء أو مكروه، لكنه  في عصر هذا المأفون انتهي به الحال ليصبحَ ساحةَ حربٍ وإفساد وعبث وحَفْر يديرها هذا السفَّاح الأخرق على الطبيعة؛ ليشوه معالمها، ويسلبها محاسنها.

لم يكن ثمَّةَ هدف واضح أو مقصد يعود بالنفع لبناء هذا القصر؛ إذ لم يكن سوى نزوة من نزواته الكثيرة الغريبة والشاذة؛ كان مجرد هيكل لم يستتم بناؤه.

نعم لقد اتخذته منزلاً لي أوَّل الأمر؛ فهو أولّ شيء وقع عليه بصري ومَثَلَ أمامي عند وصولي، فمكثت في أحد ردهاته المظلمة فترةً من الوقت.

لم أكن قادرًا على التحرك فيه؛ فالظلام الدامس كان يغمر كُلَّ نواحيه، حتى يداي لم أتمكن من رؤيتهما.

سُرعانَ ما عرفت أنَّ مِنْ الحمق إضاعة الوقت في هذا المكان الزائف، أو التفكير بالسير  فيه لاستكشافه والبحث عن كنوزٍ ثاويةٍ فيه؛ إذ كان مليئًا بحفرٍ وهُوَّاتٍ خطيرة كفيلة بأنْ تهوي بي إلى قَعْرِ جهنم.  

أثناء نزولي من الجبل شاهدتُ ذلك الحيوان الذي لطالما زارني  في منامي يحدثني تارةً بلسانٍ مبين، وحينًا بكلامٍ لا أفقهُ منه شيئًا.

كان بريق لون شعرهِ الذهبي يسطعُ  في العَتَمَة كشمسٍ تتوهجُ  في وسطِ السماء. كان يمضي صُعُدًا من إحدى نواحي الجبل، وكنت  في طريقي إلى النزول، وحين أحسّ بوجودي توقف، واستدارَ نحوي، فتقارَضْنَا النَّظرَ مليًّا.

ظلَّ يرمقني مُديرًا عنقه جهتي، ووقفت مكاني أصوِّب نظري إليه.

لا أدري كم مضى علينا من الوقت، ونحنُ على هذه الحال.

حدثني بحديث عَقِلتُ بعضَه، وغابَ عني بعضهُ الآخر:

ها أنت هنا الآن..

من الجيد أنَّك أتيت..

لم أتوقعْ أنْ تصلَ إلى هذا المكان الموحش في هذه الساعة المتأخرة من الليل..

على أيَّةِ حال، كان هذا مِنْ أفضل الأشياء التي قد تقوم بها في حياتك..

لقد طالت الساعة التي أنتظرُ فيها قدومك..

لكن عليكَ أن تدركَ  جيِّدًا أنَّ الأمور لن تكونَ بالسهولة التي قد يتخيلها عقل إنسان، أو يحتملها قلب بشر.

كانَ هذا لقاؤنا الأول، وعرفت بعدها أننا سنلتقي مجددًا لإكمالِ ما ابتدأناه.

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...