ياسين معيزو
كاتب مغربي
من يجير الباحثين من ادعاءات المفترين؟
تعد السرقة الأدبية، والسطو العلمي والفكري ظاهرة ثقافية وأكاديمية بامتياز، بحيث تعكس أزمة أخلاقية عميقة تتصل بانهيار قيم النزاهة والصدق والأمانة، وتعد بإفلاسها. في هذا السياق، أجدني منسجما مع ما ذهبت إليه الباحثة العراقية نادية هناوي بدعوتها «المعنيين بالثقافة عامة والأدب والنقد خاصة الحرص على نشر الزاد المعرفي العلمي الأصيل، وأن يحاربوا انتهاك الملكيات الفكرية عبر اعتمادهم أنظمة وبرامج خاصة في كشف الانتهاك والتشابه» (الكلام للباحثة). لكن، هناوي أغفلت أو تغافلت عن مبدأ مهمٍ في هذا الباب، ويتعلق الأمر بالتثبت، وبأن تكون الحجة بقوة الدعوى. ألم تذكر الباحثة المعنية في نهاية مقالها أنها تعرف برامج كاشفة؟ ما الذي يمنعها من استخدامها لتثبت صحة مزاعمها، وتصلب عود أدلتها، التي بدتْ ضعيفة؟
رأيت تجاذبات كثيرة وتبادل اتهامات بين متنازعين في مواضيع تخص السرقة الأدبية والعلمية، والسطو العلمي والفكري، إلخ. لكن، وللحقيقة، كلها كانت تبدو اتهامات مشروعة، خاصة أن المشتكي يعضد مزاعمه بأدلة دامغة، موثقة، جلية للعيان. أدلة لا يجد «المنتحل» أمامها سوى الصمت أو «الاعتراف» بالرذيلة الأخلاقية. على هذا النحو وجدت نفسي في مرمى الاتهام بما سمته الباحثة نادية هناوي «سطوا» و»اعتياشا» على أفكارها.
إن المتأمل في تجربة الباحثة هناوي يدرك بسرعة نزوعها المتكرر نحو اتهام الجميع بالسرقة والسطو. فما إن يدون المرء اسمها في محركات البحث مرفقا بكلمات مثل «سرقة»، «سطو»، أو «اعتياش»، حتى يفاجأ بفيْضٍ من المقالات، التي توجه من خلالها أصابع الاتهام لكل باحث، سواء أكان واعدا أم مكرسا، بالسطو على مباحث عديدة تتصل بـ: النقد الاجتماعي، ونظرية الأجناس الأدبية، والسرديات، والنقدين القديم والحديث، بل تنسب إلى نفسها السبق في كل هذه المباحث. والغريب في الأمر أن كلها اتهامات دون حجج قطْعية وبراهين جلية.
يتوزع مقالها على ثلاثة أقسام رئيسية: قسم عام يتناول ظاهرة الانتحال والاعتياش، وقسم يضم آراء نقدية، وقسم أخير يغلب عليه طابع اللوم والعتاب. ويبدو أن هذا الأخير يشكل، بالنسبة إلى الباحثة، جوهر المقال، حيث تعرض من خلاله مزاعمها حول مسألة الانتحال، مزاعم يفترض أن تستند إلى أدلة تنهي الجدل حول الموضوع، تقطع دابر القول فيه.
نتفق مع الباحثة فيما طرحته في القسم الأول من مقالها بشأن خطورة الانتحال واعتباره جرما أخلاقيا شنيعا. أما فيما يتعلق بالقسم الثاني، فالكاتبة تقدم رأيا نقديا خصته لكتابي «تجاوز الأعراف السردية»، مركزة على اختياراتي للمتون التي تناولتها بالدراسة، وللعدة الإجرائية التي توسلت بها، من قبيل قولها: «لم يستعمل في تحليل رواية «السلالم الرملية» مقولات السرد غير الطبيعي، بل استعمل مقولات أخرى مع خلو هوامش هذا المبحث التحليلي بالتمام من أي مصدر من مصادر السرد غير الطبيعي الأجنبية». وقولها أيضا: «لم يتضمن تحليله رواية «أرواح هندسية» عبارة «غير الطبيعي» بل استعمل «مفارقات زمنية/ ما وراء السرد تغريب/ انفتاح الزمن/ تداخل الأجناس/ زمن دائري/ أبدية الزمن اللامتناهي/ الانعاكس الذاتي/ محاكاة ساخرة»، ومعلوم أن التجنيس وانفتاح الحدود النصية هما من المفاهيم التي ترد في أي نقد أدبي وفي أي نص سردي واقعي ولا علاقة للسرد غير الطبيعي بها». ورغم ما يعتور هذا الرأي النقدي من سقطات، ويكشف عن ضعف تصور الباحثة بشأن الإمكانات الإجرائية التي تتيحها «نظرية السرد غير الطبيعي»، بل يفصح عن قصورها في تمثل حتى أبجديات التحليل السردي، تلك التي من المفترض أن ترشد الباحث نحو الإنصات إلى المتن المدروس بوصفه أقدر على إنتاج مفاهيمه الإجرائية بنفسه، وليست المرجعيات النظرية التي يتوسل بها الباحث، في هذا الإطار، سوى أدواتٍ مساعدة توظف بمرونة لتفكيك النصوص وتفسيرها، لا قوالب جاهزة تفرض قسرا على المتون المدروسة. إلا أني، مع ذلك، أقدر لها هذا الجهد، وأشكر لها هذا السعي. لكن، ما علاقة هذا الرأي بموضوع الانتحال؟ أهذا ما تعتمد عليه هناوي لتدعيم مزاعمها؟
ننتقل الآن إلى القسم الثالث، الذي من المفترض أن يتضمن أدلة دامغة تدعم مزاعم الباحثة. غير أن القارئ المتبصر لن يعثر، أثناء تعرضه لهذه الادعاءات، إلا على سلسلة من الملامة والعتاب المتناثرة. ويمكن أن نسوق هذا الملام على الشكل الآتي:
تقول الباحثة: «تجاهل الكاتب ياسين معيزو جهودي لسنوات من البحث والدرس والترجمة».
تقصد الباحثة هنا «جهودها» في «السرديات غير الطبيعية». صحيح أن لهناوي كتابات حول الموضوع، وهي تتوزع بين مقالات وكتب (دار أبجد). لكن ما أخْفتْه الباحثة كوْني تواصلت معها حول الأمر قبل أن أشرع، ربما، في كتابة المخطوط، وكان ذلك بتاريخ 17/8/2023 على الساعة 07:52 صباحا. أخبرتها، آنذاك، أنه بعد مطالعتي لبعض مقالاتها في الموضوع المذكور، وجدت من الضروري العودة إلى كتبها الثلاثة الصادرة عن دار أبجد، التي أخبرني مديرها، أن إصداراتهم لا تصل إلى المغرب، وهذا أمر يعرفه الجميع. طلبت بعد ذلك من الباحثة هناوي أن تتفضل وترسل لي نسخا إلكترونية، لكنها رفضت بداعي حقوق النشر، وهذا حقها أيضا. إذن، عن أي تجاهل تتحدث الكاتبة هناوي؟
سيقول قائل مقالاتها متوفرة على المواقع الإلكترونية. هذا صحيح، لكن، بعد مطالعتي لبعضها لم أجد فيها أي قيمةٍ مضافةٍ يمكن أن تعود بالنفع العلمي على بحثي، ثم إن الأسبقية في تناول موضوع معين لا تعكس دائما قيمة هذا الشيء، لاسيما وأن الباحثة أعادتْ، فقط، تدوير تصورات كل من برايان ريتشادسون ويان ألبر وشانغ بيو، لمفاهيم السرد غير الطبيعي. وهذا ما جعلني أسألها عن كتبها الثلاثة آملا أن أجد فيها جديدا، يضيف إلى بحثي قيمة علمية. وأستدل هنا، بالمثال التالي: جاء في مقالها (السرد اللاطبيعي: رؤى إجرائية) «القدس العربي»، وهي تحاول تعريف السرد غير الطبيعي أو السرد المضاد بتعبير ريتشاردسون: «وهو سرد لا معقول وغير منطقي، فيه يكون السارد حيوانا أو جسما جامدا، أو آلة أو جثة أو حيوانا منويا أو يتحول إلى شخص آخر، أو أشخاص يمكنهم تعذيب مؤلفهم لأنهم يعتبرونه كاتبا سيئا، مما هو مستحيل في العالم الحقيقي». هذا التعريف الذي تسوقه الباحثة خاص بريتشاردسون، رائد هذه التجربة، وهو موثقٌ في كتابه «السرد غير الطبيعي: النظرية، التاريخ والممارسة (2015)» في نسخته الأصلية باللغة الإنكليزية. والأمثلة كثيرةٌ لا يتسع المقال لإحصائها. بناء على ما سبق، أليس من غير العلمي ألا أشير إلى الأصول، وأنْ أكتفي بمقالاتٍ لا تعيد سوى أفكار ومفاهيم أصحاب نظرية السرد غير الطبيعي؟
تقول الباحثة أيضا: «بل تعداه إلى «الاعتياش» حتى على أسماء الأعلام الذين كنت أنا أول من تناولهم بالنقد عربيا مثل براين ريتشاردسون وجان البر وبيو شانغ وهنريكنيسلن وستيفان إيفرسن وماريا ماكيلا، وبيو شانغ، فضلا عن دراسات ماريا ماكيلا ومارينا جريشاكوفا وسيلفي باترون ومن قبلهم ديفيد هيرمان وآن بانفيلد ومونيكا فلودرنيك». يعكس هذا القول جوهر الداعي الذي دفع الباحثة إلى تجشم عناء كتابة هذا المقال، حيث يتعلق الأمر برغبة شديدة في إثبات قصب السبق في تناول أسماءٍ ونظرياتٍ غرْبيةٍ، وتقديمها إلى القارئ العربي. ورغم ما يشوب هذا الكلام من غرورٍ، وأنانيةٍ مفرطةٍ، وهوسٍ بالريادة، إلا أن الباحثة تبدو غير مطلعة على كتابات نقاد عرب كبار كتبوا عن سيلفي باترون وديفيد هرمان مثل: سعيد يقطين، وعادل ضرغام. وربما عدم اطلاعها على كتابات نقاد مكرسين في السرديات والنقد الأدبي، هو ما يوحي إلى الباحثة دائما بهذا التفرد المزعوم. كذلك قولها: «والعجيب ما ختم به الكاتب معيزو تحليله مستعملا «العبور الأجناسي» وهو مفهوم من مفاهيمي التي اجترحتها وأغار عليه». من المعلوم أن مصطلح «العبور الأجناسي» تم تداوله في فتراتٍ زمنيةٍ متفرقةٍ، بصيغ عديدةٍ؛ من قبيل «الكتابة عبر النوعية»، «انفتاح الأجناس»، التداخل الأجناسي»، الخ، وتناوله نقاد عرب وغربيون من أمثال: صلاح عبد الصبور، وإدوار الخراط، وجان ماري شيفر، جوليا كريستيفا، إلخ. وكان هذا قبل أن تتناوله الباحثة «هناوي» بكثير.
إن المتمعن فيما ذهبتْ إليه الكاتبة العراقية نادية هناوي، لنْ يجد أي دليل أو حجةٍ تثبت ما تدعي أنه «انتحال» أو «اعتياش»، كل ما تستند إليه الباحثة لا يعدو أن يكون مجرد آراءٍ نقديةٍ عاديةٍ، وملامات وعتابات، وادعاء سبقٍ، وحب تملك لمفاهيم ونظريات هي لأصحابها. وهذا الهوس بادعاء السبق، ساقها نحو قول كلام لا يعقل أن يصدر عن باحثة معروفة في الوسط الثقافي العراقي، من قبيل قولها: «اعتمد على مصادري، خاصة المترجمة عن اللغة الإنكليزية التي كنت قد ذكرتها في دراساتي». هل معنى هذا أن مؤلفات: ريتشاردسون، وماكيلا، وشانغ بيو، ألبر، وغيرهم، أصبحت في ملكية الباحثة، ولا يجوز لأي باحثٍ أن يعتمد على ما سمتْه «مصادري»، إلا بعد تخويلٍ منها أم ماذا؟ وهل ريتشاردسون ورفاقه على علم بهذا الأمر؟
تقول الباحثة العراقية أيضا: «اتخذت من رواية «فقهاء الظلام» نموذجا للسرد غير الطبيعي، وهذا ما فعله الكاتب معتاشا على أفكاري فيها». في الحقيقة لا أرى أي معنى لهذا الادعاء، ما دامت الباحثة لم تقدم أدلة موثقة، ولم تعقد أي مقارنات، توضح مواقع الانتحال، بين ما تعتقد أنه «اعتياش» وما ذهبتْ إليه في تحليلها لرواية «فقهاء الظلام»، بل أتحداها أن تأتي بما يؤكد زعمها هذا. أما إذا كانت تقصد أني حذوت حذْوها في اختيار المتْن، فجديرٌ بالباحثة أن تقدم للعموم «توكيلا رسميا وموقعا» من صاحب الرواية يجلي ملكيتها الحصرية للمتن المذكور، ويمنحها فيه حق منع الآخرين من تناوله بالدراسة والتحليل، وإلا فإن ادعاءها هذا لا يعدو أنْ يكون محاولة يائسة للتضييق على البحث العلمي، وعرقلة حرية النقد التي تكفلها الأعراف الأكاديمية. وللأسف أصبح هذا الأمر ديدن الباحثة وأسلوبها الخاص.
أشير في الأخير إلى أن الباحثة أرسلتْ إلى الأمانة العامة لجائزة الشارقة للإبداع العربي مذكرة بتاريخ 15 أغسطس/آب 2024 تحدد فيها كل الادعاءات والمزاعم، وقد تضمن مقالها رد الأمانة العامة أيضا، بتاريخ 15 أغسطس، حيث جاء فيه:
« بخصوص رسالتك المرسلة إلى جائزة الشارقة للإبداع العربي الإصدار الأول والخاصة بصدور كتاب «الأعراف السردية» للكاتب ياسين معيزو الفائز بجائزة الشارقة في فرع النقد. الرسالة عبارة عن نقد لهيكلية البحث من وجهة نظرك فيما يختص بالموضوع المبحوث، إضافة إلى شكواك أن الكاتب تجاهل تجربتك وأبحاثك ومقالاتك. وهذا لا يضير البحث أو الباحث، من جهة كونه قدم بحثا مستوفيا للشروط والضوابط المعمول بها، أما في ما يخص عنوان البحث فتم تعديله من قبلنا وفق شروط وآليات قواعد النشر لدينا».
لكن الباحثة هناوي لم تطمئن إلى رد الأمانة العامة، التي، في اعتقادي، ستكون أحرص مني على أن تقوم بكل ما يلزم للتحقق من ادعاءاتها ومزاعمها، لاسيما أن الأمر يمس سمعة جائزةٍ عربيةٍ عريقةٍ.
ختاما، أقدر شجاعة الباحثة وحرصها على مناقشة قضايا تتعلق بأخلاقيات البحث العلمي، وأدعوها، إلى التريث، في المرة المقبلة، والتدقيق في مزاعمها واتهاماتها، والتحقق من صحتها قبل أن تتهم أحدا بأمر ما، التزاما بالموضوعية والمصداقية التي تتطلبها مثل هذه القضايا الحساسة. كما أرجو منها أن تتحلى بالشجاعة ذاتها لتراجع مزاعمها وتتقدم بالاعتذار عما طالني من أذى سببه افتقار مزاعمها إلى الحجة القاطعة والدليل المكين.