منصف الوهايبي
كاتب تونسي
أتاحت لي هذا العام 2024 رئاستي للجنة «جائزة الشابي» التي يرعاها منذ 1984 البنك التونسي، أن أعيد النظر في عمل أدبي لي»حياة الأغاني» (دار نهاد للنشر والتوزيع، تونس 2024)، وهو مداخل لقراءة تجربة الشابي في سياقها التونسي والمغاربي والعربي، يضم متخيرا من شعره الموزون والمنثور. على أني لم أتردد في «تصويب» بعض «الهَنات» اللغوية والعروضية الهينات القليلة التي لم يسلم منها شعره، على الرغم من قوة لغته ومتانتها. وهي لا تهوّن من قيمة تجربته ومن مكانته في تاريخ الشعر العربي الحديث؛ وأسوق بعضها في خاتمة هذا المقال.
إن التجربة الشعرية عند الشابي لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعده شعرا، إنما هو تحويل شكل لغوي إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي. واللغة في السياق الذي نحن به هي العربية التي برع فيها الشابي والتونسيون عامة في حقبة الاستعمار، وأخلصوا لها ؛ إذ كانت شكلا من أشكال مقاومة المستعمر. على أن الشعر المكتوب بها في المغرب العربي، قد يكون موسوما في كثير أو قليل منه، بمؤثرات اللغات الأجنبية وأظهرها الفرنسية؛ فثمة «تعددية» لغوية في حيز العربية نفسها.
ونقدر أننا في سياق كهذا يمكن أن نتقصى حالة لغتنا/ لغاتِنا أو «عربياتنا» زمانيا ومكانيا في المشهد العالمي، أي وهي مترجمة بحثا في نشأة الكلمة وتطورها، وفي أوجه العلاقات المعقودة بين العلامة والمدلول، وبين العلامة ومستعمليها، وبين العلامات بعضها ببعض، وما هو راجع إلى التداخل اللغوي أو مؤثرات اللغات الأجنبية واللهجات المحلية.
وهو مظهر مما نسميه «شعرية اللغة» إذ ترد الكلمة في سياق من التحول الأدبي، هو في جانب منه، من تحول اللغة الداخلي، حيث «الأًصل» لا يوجد لذاته أو بذاته، بل هو ليس سابق الوجود فهو جزء من كلمات مختلفة تدور في حيزه بوساطة المصوتات التي تضفي على الكلمة معناها أو مدلولها، على أساس من طابع المصوت وكميته، أو مدته من حيث الطول والقصر، على نحو يتيح لنا الرجوع إلى صورتها أو وزنها. ولا بد من دراسة توضح الكيفية التي يستثمر بها الكتاب والشعراء على اختلاف «عربياتهم» نظام «التحول الداخلي» في العربية الأم، وما قد يكون من أثر اللغات الأجنبية. ومن هذا المنظور، يمكن أن نقرأ الشابي، وأن نرصد حالة الشعر العربي المغاربي الحديث في المشهد الشعري عالميا، على ضرورة التنسيب، فالمشهد يكاد يقتصر على الفضاء الأوروبي، وقلما برحه إلى الفضاء الأنكلو- ساكسوني أو الأمريكي، أو الأمريكي اللاتيني.
والبداية في ما نرجح كانت مع الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي. والمسوغ لهذه البداية الأثر البعيد الذي تركه الشابي في الشعرية العربية الحديثة عامة، والمغاربية خاصة. وفي سياق هذه الشعرية يمكن أن نقرأه حقا، فلم تكن للشابي صلة لافتة بالشعر التونسي في الثلث الأول من القرن الماضي، وإنما علاقات بأفراد يقاسمونه رؤيته بنسبة أو بأخرى. وأقربهم إليه هو القيرواني محمد الحليوي الذي كان يتقن اللسانين: العربي والفرنسي؛ وكان يترجم بعض الشعر الرومنطيقي للشابي.
كان الشابي إذن شاعرا عربيا مغاربيا بالمعنى الثقافي العميق للكلمة، وليس بالمعنى السياسي أو القومي. ولم يرد اسم تونس في شعره سوى مرة واحدة، في قصيدة هي من بواكيره «تونس الجميلة»؛ والحق أن الشابي لا يذكر الأمكنة في قصائده، وإنما يحيل عليها كلما استغرقه وصف الطبيعة خاصة. وخير دليل لذلك أعماله الشعرية والنثرية. فكتابه «أغاني الحياة»، ونحن نصر على كلمة «كتاب» بدل «ديوان»، عمل شعري يقوم على علاقة حميمة بين الرؤية والتصور، وليس مجرد قصائد متناثرة لا رابط بينها. والانتقال من القصيدة إلى «العمل» الشعري، هو أحد أظهر إبدالات الحداثة وملامحها الكونية، من حيث هي المدخل إلى المشهد إذ تتمثل وعيا بالحاضر أو بالراهن. ونقدر أن الشابي أدرك هذا الجانب بكثير من الوضوح. ولذلك ربط تجربته بالتجارب الشعرية الرائدة في عصره، مثل شعراء المهجر وجبران تحديدا. ولعل كتابه «الخيال الشعري عند العرب» يضمر ردا على هؤلاء الذين تعقلوا الشعر تعقل العقول المنتظمة، حسب المتعارف أو المأثور في نظرية العمود الشعري. ومما يؤكد ذلك نص للشابي قلما تنبه إليه الدارسون وهو محاضرته عن «شعراء المغرب الأقصى»، التي أعدها في ضوء قراءته لكتاب محمد بلعباس القباج «الأدب العربي في المغرب الأقصى» الصادر عام 1929. فقد أشاح الشابي عن تقديم الجزء الأول من هذا الكتاب المخصوص بـ»طائفة من شيوخ المغرب الأقصى»، وكأنه كان يشيح عن شيوخ الشعر التونسيين في عصره، لأنه كان ينشد «العظمة الشعرية المنتجة التي لا ترضى بغير العالم مقعدا وبغير الإنسانية اتباعا» بعبارته. وكتب: «سأتحدث عن هذا الجزء الثاني من الكتاب، هذا الجزء الذي لا يفيض إلا بنزعات الشبيبة وأحلامها، هذا الجزء الذي يمثل لنا الحياة المغربية الحاضرة بما لها من مطامح وآمال ورغبات ونوازع، هذا الجزء الذي لا يضم إلا أشعار الشباب المغربي الطموح؛ هو الذي أريد أن أتكلم عنه الليلة بما أستطيع، لأن أغاني الشباب وأحلامه هي عنوان حياة الشعوب».
كان الشابي «منفردا بين معاصريه من الشعراء التونسيين» بعبارة المصري عز الدين إسماعيل، وبين مجايليه مثل مصطفى خريف. وعلى إقرارنا بأن قراءة شعر الشابي قراءة رصينة، تتجرد من الأهواء العارضة والسمعيات المقررة، تبين أنه يتفاوت إنشائيا؛ وأن مؤثرات الآخرين فيه (شعراء المهجر الأمريكي خاصة والشعر الرومنطيقي الأجنبي المترجم عامة) تختلف وضوحا وخفاء. وإنما تضافرت في هذه الشهرة أسباب وملابسات معقدة، نجملها في غياب «السلطة الشعرية» في نظامنا المغاربي الثقافي الرمزي. وهي الفجوة التي استطاع الشابي أن يسدها إلى حد كبير. وهو يفتح قصائده لنوع من الغنائية الفردية والحفاوة بـ»أنا الشاعر» والتواصل مع الطبيعة «لأن الفن في صميمه إنما هو صورة من تلك الحياة التي يحيا بها الفنان في هذا الكون الزاخر الرحيب، أو في دنيا خياله وأحلامه كيفما كانت تلك الصورة في اللون والشكل والعرض»، بعبارته أيضا في مقدمته لديوان الشاعر المصري أحمد زكي أبي شادي «الينبوع». وأما «الهنات» التي قمت بتصويبها، محتفظا لشاعرنا بـ»نص» كلماتها/ فهذا بعضها:
«أما إذا خمدَتْ حَياتي، وانْقَضَى
عُمُري، وأخرسَتِ المنونُ غنائي». فقد أعدت صياغة عجز البيت وأصله: وأخرست المنية نائي [نايي] كما يفهم من قوله: «إني أنا النايُ الذي لا تنتهي أنغامُهُ، ما دامَ في الأحياءِ» وهو مستخدم في الشعر القديم:
مثل قول أبي نواس:
اشربْ هُديتَ، وغن القومَ مبتدئا/// على مُساعدةِ العيدانِ والناءِ
وقول ابن المعتز:
أينَ التورعُ من قلبٍ يهيمُ إلى /// حاناتِ قطْرٍ بَلٍ، والعودِ والناءِ
وليس المقصود بـ»نائي» بعيد أي من النأي، فهذا أقرب إلى «الإيطاء» إذ وردت اللفظة في قوله: «ويعيشُ جبارا، يحدق دائما/// بالفَجْرِ، بالفجرِ الجميلِ، النائي»
أي جمع كلمتين بلفظ واحد ومعنى واحد بين سبعة أبيات. أما وقد وردتا بعد السبعة فالأمر حسب بعض العروضيين أشبه بقصيدتين مختلفتين.
على أني رأيت أن مفردة «الناء» نابية في هذا السياق الرومنطيقي الحديث، خاصة أن الشاعر استخدم قبل هذا البيت مفردة «الناي» وهي الاستعمال الشائع عند الرومنطيقيين مثل جبران «أعطني الناي وغن…»؛ بما يفيد أن «الناء» كانت على سبيل الإلجاء، أي أن القافية هي التي ألجأته إلى هذا المهجور اللغوي. وعليه يمكن تعديل الصورة دون أي إخلال بمعناها؛ كأنْ نقول «.. وأخرست المنونُ ندائي» و»… أخرست المنون غنائي» و»… أخرست المنون بكائي». وقد استقر رأيي على الثانية؛ حتى أحتفظ للشاعر بمعنى أقرب إلى «الناي». والمسوغ ما جاء في لسان العرب: وكنتُ مَتَى أَرى زِقاً صَريعاً، يُناحُ على جَنازَتِه، بَكَيْتُ قالوا: أَراد غَنيْتُ، فجعل البكاء بمنزلة الغِناء، واستجازوا ذلك، لأَن البُكاء كثيراً ما يَصْحَبه الصوت كما يصحب الصوت الغناء.
ومثاله أيضا: «ولا ترى الجَدْوَلَ المغني
وحَوْلَهُ يَرْقُصُ الغيمْ». فقد عدلت عجزه: «مُرقصا في الضفافِ غيمْ»؛
وذلك لما شاب الأصل من خلل عروضي» متفعلن/ فاعلن/ فاع». وقد يكون من الواضح أن الشابي يقصد بـ»الغيم» الشجر الملتف وليس السحاب. وعليه عدلت التركيب، واحتفظت للبيت بـ»معناه». ومثاله أيضا استعماله «ترك» متعديا بـ»إلى» في قوله «فاتركْ إلى الناس…».
والأصوب: ترك له وليس ترك إليه. فاتركْ لهذا الناسِ دُنياهُمْ وضَجتَهُمْ وعليه عدلت البيت واستخدمت «هذا الناس» على نحو ما استخدمها المتنبي، وأقدر أن هذا يناسب معنى «التحقير» في بيت الشابي كما في بيت المتنبي:
غَيري بِأَكثَرِ هَذا الناسِ يَنخَدِعُ
إِن قاتَلوا جَبُنوا أَو حَدثوا شَجُعوا