* الدكتور محمد الخمسي
هل الحوار ضرورة إنسانية؟
من أهم أدوات الحوار: العقل واللسان. وغاية الحوار إبداء وجهات النظر تجاه مختلف القضايا؛ وخاصة ما تعلق بالشأن العام. وهو أمر تفرضه تعدد المسارات وتجليات الحقيقة بوجوه متعددة. لاشك أن الحوار طريق كاشف للصواب والخطأ، وأداة التعارف بين الشعوب والقبائل. ومن خلاله تتطور المجتمعات وتغربل الخبرات والتقييمات والاستدراكات،
ومع الحوار يتحقق السعي والرقي نحو الأفضل داخل المجتمعات والمؤسسات والأمم. وهي الوسيلة السلمية للتمييز بين الغث والسمين، وبين الجيد والأقل جودة. غير أن أي شك في الآخر؛ يضعف الجاهزية للحوار، والشعور بتملك الحقيقة؛ يدفع إلى التنازع، والتنابز وحظوظ النفس، والاعتداد بالرأي، وهيمنة التحيز، الذي قد تكون دوافعه عرقية أو مذهبية أو طائفية أو دينية… مما يخلق بيئة عاجزة على احتضان الحوار أو تقبله!
هل بيئتنا النفسية والفكرية معيقة للحوار؟
إذا كان الحوار عملية تتطلب صبرًا وهدوءًا ، ونضجًا فكريًا، وحدٍّ أدنى من المعلومات الصحيحة، وأرضًا صلبة من النبل السياسي والأفق الثقافي؛ فهي تصبح مستحيلة مع خمس مجموعات أو من يمثلها.
1. اشدها، وأولها المجموعات ذات النفسية المقهورة؛ حيث يمكن اكتشاف هذه المجموعة من خلال حوارها الذي يعتمد الدخول في نوايا الآخر وقراءتها بمزاجية حادة، مع الاتجاه كلما انطلق الحوار إلى الشخصنة، والتركيز على الأشخاص بدل القضايا المتحاور حولها؛ بل تلجأ هذه المجموعة إلى حد السخرية من الآراء المختلفة، مما يشعر الطرف المحاور أنه أمام حواجز نفسية لا حصر لها.
2. أما المجموعة الثانية؛ فهي المجموعة المتعصبة. ومن مؤشرات طبيعتها أن لها القطع فيما لا قطع فيه في الظنيات؛ بمعنى حسمت أنها أمرها بجدار من اليقين وضيقت هامش الحوار إلى درجة أن وجوده من عدمه سواء. وفي الغالب يسكنها عدم طلب الحق، بناءً وانطلاقًا من القناعة المسبقة؛ بل أسوأ من ذلك يكتشف المتحاور أن هناك حب للغلبة، ولا بأس عندهم من قدر من التدليس، ولما لا التعالي والغرور.
3. المجموعة الثالثة؛ هي مجموعة تغير ساحة الحوار وموضوعه. بحيث تستند إلى لزوم ما لا يلزم، وكأنها تخير متحاورها بالاختيار المفروض، وتحديد سقف ومساحة هذا الحوار، والأدهى من ذلك أن تستخرج عبر الحوار تقويل المقابل ما لم يقله، والخروج بالحوار عن محل النزاع والنقاش، معتمدة منطق مفهوم المخالفة؛ مثل: مدح الأبيض؛ يعني ذم الأسود. واستنزاف المحاور من خلال التعلق بالمفردة على حساب غايات ومقاصد المتحاور.
4. تكمن المجموعة الرابعة) وهي مجموعة أهل اليقين في ادعاء المعرفة ونزعها عن المقابل، واعتماد الاتهام بالغلو أو التحلل؛ بل لا تتورع عن الاتهام بالعمالة وخدمة العدو لمجرد المخالفة. ويصل سقف الحوار إلى عالم الغيب والآخرة؛ بحيث تذهب إلى منطق التخويف بالجنة والنار في موضوع خلافي، وإصدار أحكام على درجة تدين الناس؛ كالاتهام بضعف التدين لدى المحاور.
5. تبقى المجموعة الخامسة؛ هي مجموعة الاستعلاء، تلك التي تتمتع بتعدد اللسان الثقافي، فتستغله ضد محاورها باحتكار الحقيقة بسبب التخصص، وفي الغالب تلجأ إلى الانتقاص بالسب والشتم المبطن وغير المباشر مثل الاتهام بالجهل وعدم الاطلاع، والحرص على الانتصار والمراء بعد اتضاح وجهات النظر.
وكخلاصة أساسية؛ الأمور التي تعيق الحوار؛ هو الادعاء بالغيرة على الدين كمبرر للنقاش، ونزعها من المقابل في الحوار؛ وخاصة في الفضاء العربي الإسلامي، وتعيير الخصم بالبحث عن سقطاته من أجل إسقاط فكرته، ولو كانت صحيحة، واعتماد الاتهام بالرجعية أو الحداثة كوسيلة لهدم أهداف الحوار، الذي يسعى إلى البحث عن الصواب والاقتراب من الحقيقة، والإنهاك؛ من خلال تحويل الجزئيات إلى كليات، والفروع إلى أصول، وتضخيم القضايا الثانوية أو الهامشية أو الصغيرة إلى مسائل أساسية أو مصيرية، مع التعميم بدون دليل.
كيف السعي إلى بناء حوار إنساني داخل مجتمعاتنا؟
لا بد أن تتحرر من والكلام بالانطباع عندما يتعلق الأمر بقضية تحتاج لبيانات وإحصاءات كدليل على مستوى الكم، وجعل المناهج العلمية وسيلة داعمة للحوار، واعتماد المتراكم من الإيجابي، تحريرها من عناوين سلبية؛ من مثل الولاء والبراء دون مبرر موضوعي أو سياسي أو شرعي.
إن الصراخ والصوت العالي لم يومًا يكن دليلًا وحجة، وقد اعتمده (هتلر) و(موسوليني) وكان أسلوبًا للتجييش، وتحريك الهواجس؛ ولكنه في الجهة الخاطئة من التاريخ، وامتلاك أدوات القهر. ومقاطعة المتكلم المتحاور؛ لم تكن يومًا طريقًا لكشف الصواب وامتلاك الحقيقة. فقد تكون معك كل قنوات الإتصال، وقد تهيمن على كل منصات التعبير؛ ولا يعطي ذلك حجة أو غطاءً على أن صاحبها يملك الحقيقة أثناء حواره؛ ولذا ظهرت المناظرات الكبرى حتى يتبين الناس من خلال الحوار من هو أقرب للصواب.
لقد كانت الآية الكريمة: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا.}؛ واضعة لقواعد الحوار الراقية التي لخصتها مفردة “أَحْسَنُ” وتشمل كل مراتب الحسن؛ إبتداءً بالدليل والحجة والمضمون، وانتهاءً بالشكل والطريقة والأسلوب. كل ذلك من أجل تحقيق أحد غايات الأمم والشعور الحوار والتعارف والتقارب والبحث عن المشترك الإنساني.
إن الوعي بصعوبة الحوار مع المجموعات الخمس؛ لا يمنع من مد الجسور معها علمًا ووعيًا بمنطق وأسلوب طريقتها. فاكتشاف الاختلال في هذه المجموعات؛ هو نصف الطريق إلى البحث عن أساليب تحقيق حوار ما؛ يمكن أن يكون مصدر وموضوع مقالة أخرى.
____
* المفكر الاستراتيجي والراصد الاجتماعي المغربي.