الدكتور أحمد الريسوني
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شبعة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.
الحديث لم يذكر هذه الشعب ولم يفصّل القول فيها، واكتفى بذكر أعلاها وأدناها، وثلّث بذكر الحياء منها. وهذا تمثيل وإرشاد إلى أصنافها ومراتبها، وأن منها ما هو اعتقادي (لا إله إلا الله)، ومنها ما هو عملي (إماطة الأذى عن الطريق)، ومنها مما هو نفسي شعوري (الحياء). وحتى هذه الأصناف ليست بالضرورة على سبيل الحصر.
وقد اجتهد العلماء في التعرف على هذه الشعب واستنباطها من خلال نصوص القرآن والسنة. قال النووي في شرح مسلم “وقد صنفت في ذلك مصنفات، ومن أغزرها فوائد كتاب (المنهاج) لأبي عبد الله الحليمي إمام الشافعيين ببخارى، وكان من رُفعاء أئمة المسلمين، وحذا حذوه الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله، في كتابه الجليل الحفيل، كتاب (شعب الإيمان).
وقال القاضي عياض “تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد… ولم يَتفق مَن عد الشعب على نمط واحد. وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان لكن لم نقف على بيانها من كلامه”.
غير أن الإمام النووي قد نقل عن ابن حبان بيانه للطريقة المحكمة التي اعتمدها في تحديد شعب الإيمان وإحصائها: “وقال الإمام الحافظ أبو حاتم بن حبان – بكسر الحاء -: تتبعت معنى هذا الحديث مدة، وعددت الطاعات، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا. فرجعت إلى السنن، فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين.
فرجعت إلى كتاب الله تعالى فقرأته بالتدبر، وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين. فضممت الكتاب إلى السنن، وأسقطت المعاد، فإذا كل شيء عدَّه الله تعالى ونبيُّه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وسبعون شعبة، لا يزيد عليها ولا تنقص. فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا العدد في الكتاب والسنن. وذكر أبو حاتم رحمه الله جميع ذلك في كتاب (وصف الإيمان وشُعبه)…”
ومن المصنفات التي بين أيدينا اليوم عن هذه المسألة كتابان اثنان:
– أحدهما سبق ذكره، وهو (شعب الإيمان) لأبي بكر البيهقي (ت 458)، وهو مطبوع في تسعة مجلدات، اثنان منها للفهارس،
– والكتاب الآخر هو (شعب الإيمان) لعبد الجليل الأندلسي المعروف بالقصري (نسبة إلى مدينة القصر الكبير) (ت 608). وهو في مجلد واحد.
شعب الإيمان هذه التي ذكرها الحديث النبوي، واجتهد العلماء في تحديدها وإحصائها، تعطي فكرة عامة وشاملة عن المضامين والمحتويات التي جاء بها وتشكل منها الإسلام. ويمكن أن نقول: إنها ترسم لنا “خريطة الإسلام” بكل جوانبه ومجالاته ومستوياته ومحتوياته.
ومن خلال هذه الخريطة وشعبها أو شعابها، يستطيع الناظر الدارس أن يرى ويدرك مقدار أي مسألة وموقعها ومساحتها. والذي يعنيني الآن تحديد موقعه وحجمه في خريطة الإسلام، هو السلطة السياسية وما يدخل فيها وما يتوقف عليها.
وفيما يلي أسرد أولا شُعب الإيمان كما حددها ورتبها الإمام البيهقي، ابتداء من الشعبة الأولى إلى الشعبة السابعة والسبعين:
الإيمان بالله – الإيمان بالرسل – الإيمان بالملائكة – الإيمان بالقرآن – الإيمان بالقدر خيره وشره – الإيمان باليوم الآخر – الإيمان بالبعث والنشور – الإيمان بالمحشر – الإيمان بالجنة والنار – محبة الله – الخوف من الله – الرجاء من الله تعالى – التوكل على الله.
حب النبي صلى الله عليه وسلم – تعظيمه وإجلائه وتوقيره – شح المؤمن بدينه – طلب العلم – نشر العلم وبذله – تعظيم القرآن الكريم.
الطهارات – الصلاة – الزكاة – الصيام – الاعتكاف – المناسك – (الحج والعمرة).
الجهاد – المرابطة في سبيل الله – الثبات وعدم الفرار من الزحف – أداء خُمس المغنم للإمام.
العتق – الكفارات – الوفاء بالعقود – تعديد نعم الله وشكرها.
حفظ اللسان – أداء الأمانات – تحريم النفوس والجنايات عليها – حفظ الفروج عما حرم الله – اجتناب الأموال المحرمة – التورع في المطاعم والمشارب – اجتناب ما يُكره من اللباس والأواني – ما يحرم من الملاعب والملاهي – الاقتصاد في النفقة وترك أكل المال بالباطل – ترك الغل والحسد – تحريم أعراض الناس.
إخلاص العمل لله – السرور بالحسنة والاغتنام بالسيئة – التوبة من الذنوب – القرابين والأضاحي.
طاعة أولي الأمر – التمسك بما عليه الجماعة – الحكم بين الناس – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – التعاون على البر والتقوى.
الحياء – بر الوالدين – صلة الأرحام – حسن الخلق – الإحسان إلى المماليك – حق السادة على المماليك – حقوق الأولاد والأهلين – مخالطة الصالحين وإفشاء السلام بينهم – رد السلام – عيادة المريض – الصلاة على الجنازة – تشميت العاطس – مجانبة الكفار والمفسدين – إكرام الجار – إكرام الضيف – الستر على المقترفين.
الصبر على المصائب – الصبر عن الشهوات – الزهد وقصر الأمل – الغيرة على الأعراض – الإعراض عن اللغو – الجود والسخاء – الرحمة للصغير وتوقير الكبير – الإصلاح بين الناس – أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك – (ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق).
وخلاصة الأمر أن الإسلام عقيدةٌ وعبادة وثقافة، وأخلاق وسلوك، وبر وإحسان. فهو دين الفرد والجماعة والمجتمع، قبل أن يكون دين الدولة والسلطة، وهو يقوم ويعتمد أساسا على قوة الإيمان والقرآن، لا على قوة الحكم والسلطان.
وحتى حينما يعتمد – بصورة محدودة وتكميلية – على السلطة والسياسة، فإن ذلك يكون من باب الوسائل والأدوات، لا من باب المقاصد والغايات.