*دعاء الشامي
في جلسة جمعت سيدات من بلدان شتى، طرحت صديقتي سؤالا: ماذا لو كنت ربة منزل؟ أرتاح في بيتي وأستيقظ في الوقت الذي أختاره، وأنام وقتما أريد ولا أتعرض لكل تلك المهاترات اليومية في العمل، ببساطة أكون “متستتة” على حد قول المصريات.
تشاركَنا التحسر على أنفسنا كسيدات عاملات، وبدأنا نتخيل ذلك الوقت الذي سنقضيه نتبختر بين السرير وصالون التجميل، ومشاهدة التلفاز لنستفيق على صوت امرأة أخرجنا من أحلامنا الوردية لتخبرنا أنها ربة بيت، ودوما تتوق للعمل، لتهرب من مسؤوليات الأطفال التي لا تنتهي، وطلبات زوجها التي تقوم في الأساس على أنها ليس لديها عمل.
المهنة ربة منزل
بدت غاضبة من تصورنا السابق، وواصلت حديثها عن ميزات أن تكوني امرأة عاملة، فقالت “أنتن محظوظات لأنكن تخرجن من المنزل يوميا، تلتقين أناسا خارج دائرة الأسرة الضيقة، تتنفسن هواءً غير معبق برائحة الطبخ والغسيل، وتنتفض أصابعكن لتكتب على لوحة مفاتيح أجهزة الكمبيوتر بدل جلي الأطباق.
وأكملت “تستطعن شراء ما تردن من الملابس لأنكن تواجهن العالم يوميا، ويجب أن تكن أنيقات، تحصلن على مقابل مادي يجعلكن مستقلات وقادرات على اختيار ما تردن؛ أما أنا فدوامي متواصل 24 ساعة، و7 أيام في الأسبوع، من دون إجازات سنوية، وفي النهاية ينظر لي على أنني غير عاملة!”
عدلت من جلستها ونظرت إلينا “تخيلن معي أن تذهبن إلى العمل كل يوم ونهاية الشهر تعدن من دون راتب أو شكر! هل تصدقن أن الجهة الوحيدة التي أنصفتني هي الحكومة، لأنها سطرت لي في خانة المهنة أنني ربة منزل!”
يومها، تبينت زوايا لم تمر ببالي من قبل، فرغم ما تعانيه الأم العاملة من جهد داخل بيتها وخارجه، فإنها تحقق أشياء أخرى مقابل هذا الجهد.
ويبدو أن حديث السيدة تؤكده الأبحاث العلمية؛ ففي دراسة لمنظمة العمل الدولية في 142 بلدا، شملت نحو 149 ألفا من الرجال والنساء؛ أوضحت أن 70% من النساء و66% من الرجال يفضلون عمل المرأة بوظيفة مدفوعة الأجر. اللافت أن نسبة 70% ضمت أغلبها سيدات لا يعملن حاليا. وهكذا يبدو أن رغبات العاملة في ترك العمل وغير العاملة في بدئه هي فكرة عالمية وليست حكرًا علينا.
ربة بيت بدرجة دكتوراه
في أحد لقاءات مناقشة الكتب لمجموعة نسائية للقراءة، أبهرتني سيدة بطريقة عرضها لرواية “مكتبة منتصف الليل” التي تحمل فكرة فلسفية عميقة عن الحياة.
تَواصَل حديثها بشغف مستشهدة بعشرات الكتب والأفكار بلا انقطاع، وعندما انتهت سألتها: أين تعملين؟
أجابت بتحد: “أنا لا أعمل عند مؤسسة، بل أنا مديرة تدبير بيتي، أمنح وقتي وطاقتي لمن يستحقونهما.” صمت قليلا، وبدأت ألوم نفسي على ذلك السؤال؛ الذي افترض بالضرورة أن السيدة كي تكون مثقفة ومؤثرة لا بد أن تكون عاملة!
لاحظت السيدة شرودي فأعادتني إلى حديثها قائلة “أعرف أنك توقعت أن أقول لك طبيبة أو عالمة، لكن يا عزيزتي ليس بالضرورة أن تكون ربة المنزل فارغة العقل والاهتمامات؛ فهناك آلاف السيدات حاصلات على الدكتوراه مثلي، واخترن البقاء في بيوتهن من أجل بناء بيوت عامرة بالعلم والمحبة؛ ومن دون الانغلاق والانغماس في مهام البيت فقط، مع احترامي لدوركن في الحياة، لكن هي أولويات”.
أنت متفرغة بالبيت
على طاولة مجاورة بأحد المطاعم جلست سيدة ثلاثينية مع زوجها وابنيهما؛ طفل في الخامسة وآخر ما زال في سنته الأولى. بين إطعامها الأصغر ومتابعتها احتياجات الأكبر لم تستطع أن تأكل، في حين واصل زوجها التنقل بين شاشة هاتفه وأصناف الطعام المتراصة على الطاولة.
بدت كأي أسرة عادية، إلا أن صوت الزوج الذي ارتفع فجأة ليوبخ المرأة جعلني أنتبه، كانت المسألة أن ابنهما أوقع كأسا فارغا فكسره! واصل الرجل تقريعه زوجته رغم انتباه كل من في الطاولات المجاورة، وبدأ يعدد المهام التي قصرت فيها خلال الأيام الماضية؛ فمرة وقع الأصغر على رأسه، وأخرى خرب الطعام من لهيب الموقد، ثم قال “أنت طوال النهار من دون عمل، لا تقدمي أي مساهمة في مصروفات المنزل مثل بقية السيدات، فلماذا لا تجتهدين في تربية عيالك؟!”
انزعجت كثيرا من كلام الرجل، نظرت له بغضب وكثير من رواد المطعم فعلوا ذلك، ولكنه لم يهتم، بل كان مزهوا كأنه يرائي الآخرين بفعلته، كظمت المرأة غضبها وخيبتها ولم تأكل، لملمت أشياء أبنائها، وحينما أنهى طعامه قامت تجرجر أذيال الخيبة والخنوع.
بحثت عن الحالة النفسية للأمهات غير العاملات فالشائع أنهن أكثر راحة، وبالتالي أقل ضغطًا، لكن دراسة أجراها مركز جالوب الأميركي على نحو 60 ألف امرأة أميركية؛ أكدت أن الأمهات غير العاملات من ذوات الدخل المنخفض يتعرضن للاكتئاب والضغط أكثر من الأمهات العاملات، كما أنهن أكثر عرضة لنوبات الغضب والعزلة.
الاختيار الصعب: العمل أم المنزل؟
لم تفارقني صورة الزوجة وهي تغادر المطعم، وتذكرت صديقتي التي هاجرت إلى إحدى الدول الغربية، وقررت بعد 15 عاما من العمل المتواصل التخلي عن الفكرة لتبقى في المنزل رغم أن بيتها في أمس الأوقات حاجة للمال.
عندما سألتها: لماذا فعلت ذلك؟ قالت “عشت نصف عمري أعمل، من دون التفكر في أشياء كثيرة (…) هنا أملك خيارا، لا توجد تلك الحدود المجتمعية القاسية التي يجب أن نسير وفقها، شعرت بأنني لا أستطيع العمل، لم أعد قادرة على مواصلة ذلك الجري المتواصل بين أدواري المتعددة؛ أم لشابين مراهقين وطفلتين صغيرتين، وزوجة ينتظر منها الاهتمام بكل تفاصيل بيتها وزوجها ونفسها، وعاملة متقنة ومتفوقة في مجالها، كل ذلك في غربة بعد غربة تمتص روحي. ببساطة انتهت طاقتي، إما أن أتوقف الآن عن أحد أدواري أو أذهب إلى نقطة لا رجوع منها صحيا ونفسيا وأسريا”.
توقفت عند كلامها، ربما يعطي المجتمع مؤشرات عدة حول ما يجب أن نتخذه من مسارات، ونستسلم لها من دون مراجعة، ففي بعض المجتمعات العربية يكون عمل المرأة ضرورة، وفي غيرها يعد عملها عيبا ومنقصة. وهكذا تسير المرأة وفق ما هو مرسوم حولها وليس وفق حاجتها وقدرتها وظروفها.
من المؤكد أن تحديات الأم العاملة تختلف عن غيرها، لكنها تحصل على مقابل لعملها، وتحصل غالبا على تشجيع المجتمع والأصدقاء، إضافة إلى دعم الأسرة والزوج، وربما كل من حولها ينظر لها بانبهار؛ “هذه سيدة عظيمة تعمل، وتربي، وتطبخ، ولا تطلب مساعدة”، وكأنه وسام على الصدر أن تعاني المرأة لأنها اختارت الخروج للعمل.
في اليوم العالمي للمرأة نسأل: لماذا تقلل مجتمعاتنا من جهد المرأة ربة البيت؟ وكيف يمكن تغيير تلك النظرة القاصرة؛ التي تحمل في طياتها مفاهيم خاطئة؟
وهل يأتي اليوم الذي تقدر فيه تلك الجهود لتتخطى تدوين المهنة في جواز السفر، لنتعامل مع تلك السيدة القابعة بين مسؤوليات منزلها كامرأة عاملة لديها دورها الذي تستحق عليه الأجر والتحية؟!
*كاتبة وصحفية