*مشاري حمد الرويح
في البداية من المهم التوضيح للقارئ أن هذا ليس مقالا علميا أو فكريا، ولا يتضمن أي براهين مثبتة، أو أفكارا عميقة، بل هو مجرد ثرثرة رجل. في كل الأحوال ربما كان هذا الأسلوب الأفضل للتعامل مع موضوع المقال.
احتفل العالم منذ أيام قليلة باليوم العالمي للمرأة. في الحقيقة لم أجد في نفسي الكثير من الحماس أو الاهتمام للمشاركة في حفلة “تمكين المرأة، نصف المجتمع، إلخ.” على العكس، ومع كثير من التعميم والتجريد، ظهرت لي هذه المرأة التجريدية، كأحد مكونات تحالف عالمي ضد الرجولة. فالتيارات الفكرية والسياسية الممثلة “لحقوق المرأة” اليوم تجاوزت رؤية الثنائية القطبية بين الرجل والمرأة، تلك الرؤية وإن كانت صراعية إلا أنها احتفظت لطرفيها بالحد الأدنى من “العقلانية” و”الشهامة”.
فكريا وإستراتيجيا، ارتأت “المرأة العالمية” تفكيك نفسها والانتشار في تحالف ما بعد الثنائية الجنسية، أو تحالف “اللا-هويات جندرية” والذي يرفض الحدود بين الأنواع المختلفة؛ بل حتى الأنواع نفسها. وهي سيولة جندرية اتخذت من الصلابة التي تمثلها الرجولة وقيمها عدوا لها. هذا التحالف يعمل على نزع الاستقرار المعرفي والقيمي عن كل شيء إلا أنه يرى أن نزع الاستقرار عن الرجولة أولوية، كون هذه الرجولة مخزن للمعرفة والقيم الاستبدادية التي تعيد إنتاج اضطهاد الأفراد كما يرون.
ولا شك أن الحركة النسوية مرت بمراحل أكثر عقلانية قبل أن تؤول إلى هذا الانحدار. بداية من الموجة الأولى ذات المنطلقات الليبرالية التي جعلت من “المساواة” في مجالات مختلفة هدفا لها، إلى راديكالية الموجة الثانية ذات المنطلقات الاشتراكية، والموجة الثالثة بعد الحداثية التي فتحت الباب على مصراعيه لتحالف المرأة مع “المغايرين جنسيّا” (Queer)، مضحية بجوهرها الأنثوي الذي كان محل نضال الموجة الثانية في سبيل هذا التحالف.
مع ذلك هذا لا يعني بالضرورة اختفاء منطلقات وأفكار الموجات السابقة، فالأمر يعتمد على الموقف، والسياق، وبالتأكيد الهرمونات، وهي أقرب إلى أوجه مختلفة تظهر وتختفي لأسباب إستراتيجية أو نفسية.
فالأولى الليبرالية ما زالت حاضرة بقوة. كيف لا ونحن نعيش في منظومة ليبرالية عالمية. إلا أنها تحولت إلى نسوية “أسلوب حياة المدينة”، وهو ما يتماشى مع تمثلاتها المبكرة التي اتخذت من طبقات اقتصادية وسياسية معينة محلا لها. لكن تمثلاتها اليوم تظهر في كل مكان تقريبا. هي “المرأة العالمية” التي تحفظ عن ظهر قلب أنواع القهوة في ستاربكس، رائحتها أقرب إلى رائحة مكاتب استقبال الشركات، تزاحمك على أبواب المصعد صاعدا، ثم تجدها في انتظارك في طريقك للأسفل، تزاحمك في الجيم، في السوق، وبالتأكيد في ستاربكس.
وهناك “المرأة الغاضبة” التي ترى الاضطهاد في كل شيء، المستعلية بأنوثتها ولكن ليس بالشكل الفاتن الذي تحترفه المرأة العالمية الليبرالية بل بشكل غاشم منفر ليس للرجال فقط ولكن لكثير من النساء أيضا. تعيش في مؤامرة عنوانها “النظام الأبوي” الذي يشكل جميع خبرات الاضطهاد التي تعانيها النساء.
ترى أن هناك تحيزات ثقافية ضد المرأة الهدف منها وصم النساء بصفات معينة تجعلهن في حاجة دائمة “للحماية” وهذا يعمل على تبرير هيمنة الرجال على السلطة الأسرية والسياسية. على سبيل المثال هذه “المرأة الغاضبة” ستجدها غالبا تكره اللون الوردي، لأنها تراه يعبر عن الرقة، وهذه الرقة قد يستخدمها الرجال لتبرير استبعاد النساء من المناصب السياسية. تقول إحدى نسويات الموجة الثانية (التائبات) “كانت حياتي أقرب إلى العيش في معسكر. كل قرار اتخذته، كل شخص قضيت وقت معه، كل كلمة تلفظت بها، كلها أمور توجب عليّ تقييمها طبقا لصورة ذهنية في عقلي لما أعتقد أنه صحيح أخلاقيا وسياسيا؛ انطلاقا من رؤيتي لتمكين المرأة. كل شيء يعود إلى تفسير جندري، وتلك الأشياء التي لم تتناسب مع رؤيتي لما هو “نسوي” كانت سيئة، أبوية، ومُشكلة”.
قابل هذا الاتجاه تحديا بعد ذلك، يرفض فرض خبرة اضطهاد واحدة ومتشابهة على جميع النساء، ويرى أن لكل امرأة بل لكل فرد خبرة اضطهاد شخصية تعود لسياقه ولتأويله لهذا السياق. هنا ظهرت “المرأة المفككة الهشة” التي لم تتوقف عند تفكيك المعارف المتراكمة حول “بنية النظام الأبوي” وخبرة الاضطهاد الجماعي التي تعانيها النساء، بل، وبسبب الأدوات الفكرية المستخدمة لم تتوانَ عن تفكيك نفسها، وتفكيك “جماعة النساء”، هذه امرأة تكره الجماعات وتكره الأسس القيمية والفكرية المؤسسة للجماعات بما في ذلك “جماعة النساء”، تفضل أن تكون فردا ضمن أفراد غير معرفين جنسيا على أن تنتمي إلى جماعة ذات حدود واضحة (جماعة النساء).
ووفق ما تم الإشارة إليه سابقا فإن التتبع الزمني للحركة النسوية لا يعني اندثار ما قدمته موجاتها السابقة. بل عند النقاش مع من تعتنقها من النساء قد تجد آثار الموجات الثلاث في جملة واحدة، بلاهة الليبرالية مع غضب الراديكالية وسفسطائية ما بعد الحداثية. ما يجعل من النقاش العقلاني مهمة صعبة.
مع ذلك، وبعيدا عن التعامل المنفر وسيطرة شعور المؤامرة أرى أن ما قدمته الموجة الثانية ما زال أفضل بوابة للتواصل مع معتنقي هذا الفكر. هنا قد تتراجع لتسأل نفسك هل هناك تحيزات ثقافية حقيقية ضد المرأة بهدف عزلها عن الأدوار الاجتماعية والمجال العام؟ هل أنا من المستفيدين من هذا العزل؟
أكاديميا، قدمت النسوية الراديكالية ما يُعرف بـ”الموقف النسوي” (Standpoint Feminism) والذي ساهم في وضع بعض القيود على تحيزات ذكورية غير مبررة في إنتاج المعرفة في العلوم الاجتماعية. أخيرا عاد هذا التيار بوجه تقاطعي، أي من خلال الاستفادة مما يسمى “التحليل التقاطعي” (Intersectional Analysis) الذي نتج عن مساهمات بحثية في حقل دراسات العرق النقدية، بهدف فتح مساحة لاستكشاف خبرات اضطهاد مختلفة (امرأة، سوداء، عاملة، في الشرق الأوسط، على سبيل المثال) انطلاقا من التحليل النظامي لتقاطع بنى الاضطهاد تلك، من دون الانحدار نحو نسوية ما بعد الحداثة التفكيكية. هذه أداة بحثية أراها مفيدة وقيمة والباحث/ة المسلم/ة أحق بها.
والنقاش والحوار بل والمراجعة شيء والإقرار والموافقة شيء آخر، فالنسوية بأنواعها ما زالت عدوا فكريا كما أراها، وإنها لا تليق بالمرأة المسلمة الأكثر اتزانا اجتماعيا مما تدعو إليه النسوية الليبرالية، ونفسيا مما قد تسببه النسوية الراديكالية، وفكريا مما تقدمه النسوية التفكيكية. وقد تفتنها بعض دعاوى المساواة العمياء وتغضبها بعض التحيزات الثقافية، إلا أنني لا أراها معول هدم لأمتها ومجتمعها. لا أراها تحوّل القطعيات إلى ظنيات، تنزع الاستقرار المعرفي عن تفسير الآيات وتأولها نسويا، لا أراها كارهة لجماعتها، ناقمة على دورها في الأسرة، لا أراها ترى النظام الأبوي في الأسرة والعمل وتتغاضى عنه في السلطة السياسية عندما تكون تلك السلطة داعمة لها لأسباب إستراتيجية. لا أراها فاعلا رئيسيا في التحول من تدين المجتمع إلى التدين الفردي.
*دكتور في قسم الشؤون الدولية في جامعة قطر، حاصل على دكتوراة من جامعة درم البريطانية