أيّ صورةٍ للشاعرِ في عقلِ شوقي بزيع؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

فراس حج محمد| فلسطين

 

 

صدر للشاعر اللبناني شوقي بزيع كتاب “زواج المبدعين” العام الماضي (دار مسكلياني، تونس، 2022(، ويتحدث فيه عن أمثلة من زواج الشعراء، وكانت زيجات فاشلة، تقول الشاعرة اللبنانية ليندا نصار عن الكتاب في مفتتح تقريرها المنشور في موقع الجزيرة نت: “الزواج ليس مضاداً للحبّ فحسب، ولكنه تبليدٌ للحياة كلّها في جملتها، وحملٌ لها على الرتابة. هكذا يجد بزيع أنَّ الحبَّ شِعرُ العالم، والزواج نثره”. (أ.هـ)

كان شوقي بزيع قد نشر مادة الكتاب الأصلية على شكل سلسلة مقالات، تناول فيها موضوع الزواج عند كثير من المبدعين العرب وغير العرب ونشرها في عموده الأسبوعي في صحيفة الشرق الأوسط، ثم أعاد جمعها في الكتاب الذي يردفه بعنوان فرعي دالّ: “ثراء المتخيل وفقر الواقع”.
وكان وصفه هذا أن (الزواج حالة نثرية) قد أثار سخرية لدى أحد قراء الملحق الثقافي لجريد الاتحاد الاشتراكي المغربي، عندما نشرت له الصحيفة في أحد أعدادها (2018) حوارا جاء فيه هذا الوصف، وكنت أشرت إلى تعليقه الساخر في رسالتي التاسعة عشرة لشاعرة عربية، وكانت بعنوان “سحر التعليقات الساخرة”.

أظن أن الشاعر كان يبحث عن الخلل في العلاقات الزوجية لدى المبدعين، على الرغم من أن هناك آلاف الزيجات الناجحة بين كثير من المبدعين غير هؤلاء المذكورين في الكتاب، ويريد أن يثبت فكرة ما، تشبثت بعقله، عن الزواج؛ هذه المؤسسة الفاشلة من وجهة نظر بزيع، وغيره من الشعراء، والكتاب الذين عبروا علانية عن رفضهم لمؤسسة الزواج، ومنهم شعراء غربيون وعرب، وأعتقد أن بعضهم نفر من الزواج حتى لا يتحمل المسؤولية تجاه البيت والزوجة وإنجاب الأطفال، كما قال محمود درويش يوماً. وليظل يمارس حريته الجنسية والعاطفية كما يحلو له، ليس فقط درويش بل كثيرون مثله، فقد مرت “فضيحته” وإنجابه طفلة خارج النطاق الشرعي ورفضه الاعتراف بها، وأشار إلى ذلك هو نفسه في إحدى رسائله لسميح القاسم قبل أن يكتب بسنوات عن هذه “الفضيحة” الشاعر السوري سليم بركات، هذا المقال الذي ثار ضده كثيرون يشبهون “درويش” أولا قبل أن يدافعوا عن اختيارات الشاعر وحياته الخاصة، حالة تشبه ما تحدث عنه نزار قباني في قصيدته “حبلى”. وكل هؤلاء غير المعترفين بأبنائهم من الشعراء وغيرهم من الكتاب والمثقفين المغرورين والمشاهير من الفنانين، وحتى الناس العاديين، ينطبق عليهم قول نزار قباني: “لا شيء يدهشني/ فلقد عرفتك دائماً نذلا”.

إذاً، فكرة كتاب بزيع انتقائية وقاصرة جدا، عدا أنها ساذجة بالمطلق، إذ تصور الشعراء في صورة عابثين وأنذال، يبحثون عن إشباع رغباتهم خارج نطاق الشرعية القانونية؛ دينية أو مدنية لا فرق، فهم يحبون التنقل بين النساء وأسرّتهن لإشباع غرائزهم، فلا يصح عقلا أنهم بلا عاطفة وبلا مشاعر، وبلا حاجة لممارسة الجنس، لكنهم يريدون كل ذلك خارج مؤسسة الأسرة، لأن الزواج قاتل “للشغف” بسبب التعوّد، فالشاعر هذا المتصور في فكر بزيع “شاعر ملول” لا تعجبه النساء إلا وهنّ “عابرات لسريره” أو يدغدغن عاطفته، ويشاركنه حالته تلك، سريعة التبدل والتغير، ليواصل رحلته للبحث عن أخريات، وهكذا حتى ينطفئ وهجه، ويصبح عاطلا عن العمل العاطفي والجنسي، لنجده يتحسر على مآلات الضعف الجنسي، مرددا ما قاله سلفه الشاعر العربي المتهتك (أبو العتاهية) قبل أن يرعوي، ويهدأ، لكنه ظل يمارس حنينه لأيامه الماضية حيث الشباب وغروره:
ألا ليت الشباب يعود يوماً
فأخبره بما فعل المشيبُ

تقوم فكرة بزيع في هذا الكتاب، كما يشير العنوان الفرعي إلى ثنائية متعارضة تقول: إن الواقع في الزواج للشاعر يورثه الفقر الإبداعي نتيجة ما ذكره من “انعدام الشغف”، وانطفاء التجربة، بالمقابل فإن العزوبية أو العزوف عن الزواج، وليس العزوف عن إنشاء العلاقات وممارسة الجنس كما يريد، هو مرتع خصب وثراء لخيال الشاعر ليكتب الشعر، وكأن كل المبدعين والمبدعات الناجحين زواجا وإبداعا أصبحوا حالات شاذة، فإنْ تناوَلَ الكتابُ (32) زوجا من المبدعين فشلوا في الزواج، فإنّ هناك ملايين الأزواج من المبدعين حول العالم عززوا فكرة الزواج وما تمنحه للمبدع من استقرار، وتفتح له الباب إنسانيا على موضوعات ثرية وخصبة أيضاً، شعرية ونثرية، أم أن الزواج كما قال “حالة نثرية” والحب خارجَه حالة شعرية؟ أي فكرة ساذجة في هذا التقرير غير الحقيقي.

لقد كان الزواج بين المبدعين ثمرة لأعمال إنسانية عظيمة خالدة، كقصيدة الشاعر عمر بهاء الدين الأميري الذي كتب قصيدة عن أبنائه الثمانية وتزاحمهم عليه، فكتب: “كنت مع أولادي الثمانية وأسرتي في مصيف قرنايل، ثم سافروا جميعا إلى حلب، وتلبثت وحدي في خلوة شعرية، فقلت:
أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟
أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولة في توقُّدها؟
أين الدُّمى، في الأرض، والكتب؟

أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟
أين التشاكي ما له سبب؟

أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في
وقتٍ معاً، والحُزْنُ والطَّربُ؟

وغير الأميري هناك مئات الأعمال الخالدة عالميا، وجاءت كحالة طبيعية للزواج وإنجاب الأطفال، وأكثر مما تحصيها كتابة قصيرة كهذه الكتابة، كتب كتبها مؤلفها لأبنائهم أو لزوجاتهم أو زوجات كتبن لأزواجهن أو عنهن أو كتبت كتبها الأبناء لآبائهم الكتّاب، وهي كثيرة وتشكل ظاهرة لافتة، وأتيت على ذكر بعض منها في مقال قصير بعنوان “الكتابة عن المقربين”.

وإذا أردت أن أشير إلى حالات ناجحة في الزواج بين المبدعين والمبدعات، فإن ما يحضر عرضا دون بحث أكثر بكثير مما طرحه بزيع في تتبع حياة هؤلاء الأزواج الشخصية، للوصول إلى مثل هذا الاستنتاج المتهاوي عقلا وواقعا، ولا يمت إلى العلمية بأية صلة. صحيح أنها وجهة نظر شاعر، وهو حر في تبنّيها، لكن أن يبنيها على قراءاته واستنتاجاته فمحل نظر أيضاً، وجاء بها ليبرر حالته الاجتماعية، لكن من الأفضل ألا تؤخذ على التعميم، لننسى أولئك الناجحين في حياتهم من المبدعين، بدءا من شعراء الجاهلية، مرورا بشعراء عصور الإسلام كلهم، وشعراء العصر الحديث في بداية النهضة العربية المعاصرة، وأهمهم أمير الشعراء أحمد شوقي، عدا الكتاب المميزين، وأهمهم طه حسين الذي شكل مع زوجته الفرنسية مثالا بديعا ودالاً على عمق الصلة الروحية بين الزوجين، صحيح أن طه حسين ليس شاعرا، وإن كتب الشعر، إلا أنه مبدع، وكتب الروايات أيضا وهي إبداع وخلق عدا إبداعه النقدي الذي ما زال حاضرا حتى اليوم.

كما شكل زواج المبدعين حالات فريدة في كثير من الأحيان، كالشاعر أمل دنقل وعبلة الرويني التي كتبت عنه كتاب “الجنوبي”، وهو كتاب لا أجمل منه ولا أروع في رسم تفاصيل علاقة بين زوجين متناغمين، وبقيت “ملاكه الحارس” حتى وفاته رحمه الله، وها هو أيضا الشاعر الكبير مالئ الدنيا وشاغل الناس أدونيس متزوج من خالدة سعيد زواجا طويلا هادئا، فلم يثنه ذلك عن الشعر والإبداع والتنظير الفكري والنقدي، ومثله الروائي الجزائري واسيني الأعرج المتزوج لأكثر من أربعة عقود من الشاعرة زينب الأعوج، ويظهران في لقاءاتهما التلفزيونية معاً؛ زوجين حبيبين يتحدث أحدهما عن صاحبه بحب واحترام بالغين، لم يخفت بينهما الشغف، واسيني الروائي وزينب الشاعرة المبدعة الجميلة، وإن نسينا الأسماء فلن ننسى نزار قباني الذي رثى زوجته “بلقيس” بقصيدة مطولة من عيون الشعر العربي المعاصر سياسيا وعاطفياً.

ولا داعي لتعداد أسماء أخرى فهي أكثر من أسماء بزيع، هذه الأسماء في الشرق المسلم، وفي الغرب المسيحي، والعالم أيضاً، سواء بسواء، متفقة مع الفطرة السليمة، كما أن حالات كتاب “زواج المبدعين” لا تعدو كونها حالات طبيعية بين كل متزوجين لم يتفقا؛ سواء أكانوا مبدعين أم غير مبدعين، فلا علاقة للإبداع بهذا التصور المرَضي كله، لأن واقع الشعر العربي وغير العربي والشعراء والشاعرات في العالم يخالف ما توصّل إليه شوقي بزيع.

وعلى العموم هذه هي الحالة الطبيعية جدا للعلاقة بين المبدعين وزوجاتهم، زواج ناجح يُنتج فيه الزوجان الكتب والأطفال، وكان الباحث أحمد إبراهيم العلاونة قد أضاء على هذه الظاهرة في كتابه الطريف “الزوجان العالمان” ذاكرا (129) اسما مع زوجاتهم غير التي ذكرتُها أعلاه، أو معها، كما أنه عمم الفكرة ولم يحصرها في الشعراء، ولماذا يجب أن يكون الشعراء مجانين وشاذين ليكتبوا الشعر وتلتهب لديهم المخيلة كما يدعي شوقي بزيع. ليظهروا بهذه الصورة المنفرة، غير الاجتماعية، وغير السوية، كأنهم كائنات عدمية.
وعلى الصعيد ذاته، فإن الكاتبة إليف شفاق عندما كتبت كتابها المهمّ جدا في هذا الباب “حليب أسود” كانت تنطلق من هذه النقطة المتوهمة في عقل بزيع، وكانت عازفة عن الزواج لاعتقادها أن الزواج عائق أمام الكتابة، وقد بينتْ في الكتاب أن فكرتها كانت خاطئة، فقد تزوجت وأنجبت غير مرة، وكتبت الكتب، وهي سعيدة بذلك سعادة بالغة، وفرحة بأطفالها وزوجها على أية حال، وكتبتُ عن كتابها هذا سابقا وأنا أعالج فكرة الكتابة والنساء في كتاب “شهرزاد ما زالت تروي”، وأعدت الحديث عن الفكرة في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” لأوضح هذه الفكرة بالضبط؛ ارتباط الأمومة بالكتابة، بمعنى آخر، الزواج وأثره في الإبداع، وكانت النتيجة على عكس ما يبغي شوقي بزيع في كتابه هذا “زواج المبدعين”.

فلنقرأ الصورة أوضح لعلنا نقرر ونستخلص ما يلزمنا بعد قراءة طويلة وموسعة وجادة. لأن بناء فكرة على هذا النحو إستراتيجية خاطئة، ولها مردود سيئ في تدمير فكرة الزواج وتكوين الأسرة إذا ما أحب أحدهم أن يقلد هؤلاء الشعراء الفاشلين في الزواج، لأنهم غير قادرين على تحمل تبعات قانونية، لكنهم قادرون على التفلت من القانون وأخلاقيات العلاقات المتعددة، لأنها خارج إطار مؤسسة مرعية، فلا يعاقب عليها القانون، كما حدث مع درويش مثلا، فهل هذا الشاعر الذي تريده البشرية ليكون مثالا يحتذى؟

شوقي بزيع خاطئ بلا شك في ما ادعى واستنتج وكتب، وهي نظرة قاصرة جدا، ولعله يحاول أن يرى الآخرين من المبدعين بناء على نزق شخصي يعاني منه، فبحث عمن يشبهه في الحالة والتصرف، وأهمل الحالات الأخرى، وهي القاعدة لزواج المبدعين، أو على الأقل، فإن الحالات التي حلل حياتها الشخصية هي مجرد حالات طبيعية لا أكثر ولا أقل كما أسلفت، ولا تتعدى هذا المنطق، ولا علاقة للإبداع في هذا الوهم كله، ليقول إن الواقع/ الزواج فقير وحالة نثرية، والعزوبية تخيل ثريّ، لكنه مع ذلك يبقى كتاب الشاعر شوقي بزيع كتابا جيدا في بابه، وفريدا لكن دون تعميم الفكرة، لتكون استنتاجا عاما، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما يوحي أحيانا بذلك مقالات الكتاب. كتاب مهم لدراسة تلك النماذج لا أكثر من ذلك، ولا أبعد عن هذا الأفق، دون أن يكون هناك إيحاء أن الشعر أعلى من النثر قيمة وإبداعاً، كما قد يتوهم من العنوان الفرعي، بناء على قراءة سياق الكتابة، في مجملها، وهنا قد يقع الشاعر في انزلاق إبداعي لا تحمد عقباه، فمن قال إن النثر مرتبط بالواقع الفقير الذي هو الزواج، يعني- ولو تأويلا- أن النثر أقلّ، ولا يحتاج لمخيلة كمخيلة الشاعر خصبة. إن في هذا التصور حطّ من شأن النثر الذي يتطلب مقدرة عالية وتصورا يفوق الشعر، وهنا أعني “النثر الفني” وليس مجرد الثرثرات العابرة التي لا تعد أدبا أصلاً.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...