سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.
منذ سقوط النظام السوري البائد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، لم يكفّ السوريون عن التداول بالشأن العام وإطلاق الأحكام والرؤى التحليلية والآراء، ولم يكفّ الواقع الموّار بالأحداث عن تقديم القضايا الإشكالية، أو التي يجعلها السوريون إشكالية. هذا طبيعي، وإن كان الرأي والتعبير يُمارسان اليوم من دون قيود، ومن دون أسسٍ تبنى عليها التحليلات والآراء في المقابل، إذ لا يمكن إغفال عقود من الأدلجة الفكرية والحكم الشمولي وشلّ الحياة السياسية، وسنوات أربع عشرة من العنف والحرب غير المسبوقة، وما خلفت من انهيار على مستوى المجتمع ومؤسّسات الدولة، واستباحة المجال العام السوري، بجوّه وبحره وبرّه وترابه، وفضائه الإنساني من قوى عديدة وخطابات وأفكار متنوعة، زادت في شرذمة المجتمع، ودقّت أسافين الانقسام والتفرقة بين فئات الشعب.
سقط النظام، هذه حقيقة وليست وهماً، انزاح كابوس جثم على صدور السوريين عقوداً. لكن، ومع كثير من الأسف، ترك ما يشبه الشيفرة التي تعيد إنتاجه في عقول نسبة مؤثرة من الشعب، فبدا، بل يبدو كل يوم، كما لو أنه يستنسخ نفسه في نفوس شرائح عديدة ومتنوّعة بين السوريين. ظهرت مفرداتٌ جديدةٌ لتوصيف ظاهرة انبثقت كالفطر منذ البدايات “التكويع”، وانتعشت أخرى كانت مستخدمة بغزارة في ما مضى “التشبيح”، وراح أفراد الشعب يعيّرون بعضهم بعضاً بها من دون توافر مستوى من الوعي بمفردات الحوار وثقافة الاختلاف. ليس هذا فحسب، بل يمكن القول، من دون تردّد، إن مفاهيم اشتغل عليها علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والباحثون في التاريخ، بل حتى الفلاسفة، توصّف المجتمعات البشرية، أو تصنف نماذج عيش الشعوب وإدارتها نفسها على مدى قرون، يبدو شعبنا في غالبيته جاهلاً بها، أو أنه يفهمها ويمارسها بشكل منقوص أو بحسب نوازع تمكنت منه عبر التاريخ، مفاهيم الأمة والشعب والهوية الوطنية، والدولة أيضاً.
كيف يمكن تصنيف السوريين؟ هل هم أمّة؟ شعب؟ ما هي هويته الوطنية، وهل يتفق في ما بينه على شكلها وسبل تحقيقها؟. … يتجاوز المفهوم الحديث للأمة، إلى حد بعيد، الإطار العرقي أو القبلي، فهو ينبع بالأحرى من مجموعة معقدة من الروابط التي تشكل شعوراً بالانتماء المشترك. وهي مضمرة ومنقولة من جيل إلى آخر. ولكي تفرض نفسها، تفترض أيضاً وجود إرادة مستمرّة للعيش داخل مجموعة واحدة، ولكن ما يظهر اليوم من أداء السوريين بعيد كل البعد عن هذا المفهوم. لقد أحدثت قرون التبعية والاستعمار، وعقود الاستبداد بعد إجهاض نهوض سورية بعد الاستقلال وفشل مشروع بناء الدولة الحديثة، شروخاً في المجتمع السوري، ونكوصاً ماضويّاً، وتعزيز الانتماءات الطائفية أو القومية، بل والقبلية أحياناً، وهذه كلها تعود إلى مراحل ما قبل الدولة، لذلك نرى أن مفهوم “الأمة” بما هي “روح الشعب”، وهوية جماعية لاواعية نابعة ونافذة من أعماق التاريخ، غائب عن وعي السوريين ووجدانهم.
ما يُشكّل أمة ليس التحدّث باللغة نفسها، أو الانتماء إلى مجموعة عرقية مشتركة، أو اعتناق ديانة ما أو اتباع مذهب معين، بل هو القيام معاً بأعمال عظيمة في الماضي والرغبة في القيام بمزيد في المستقبل. الأمة تقوم على ماضٍ مشترك وعلى إرادة التضامن، وترتبط فكرة الأمة نفسها بتاريخ كل بلد. … فمن يملك التاريخ؟ ومن يحق له تغيير الوقائع التاريخية “المتحققة”؟ سورية ليست دولة حديثة، والشعب السوري ليس وليد أمس، حتى لو كانت آخر خريطة لسورية نتيجة اتفاقية سايكس بيكو، إلا أنها عريقة، بل وضاربة في عمق التاريخ، وعلى أرضها نشأت بواكير الحضارات الإنسانية، وتاريخها حافل بالممالك والشعوب والحروب والغزوات والانتصارات والهزائم، والديانات والثقافات وكل ما ينجم عن نشاط المجموعات البشرية. سورية ليست جغرافيا فحسب، بل هي تاريخ، والوطن لا يكون إلّا بالجغرافيا والتاريخ معاً.
كل أمة (خاصة في عصرنا الحالي) بطبيعتها متعددة الثقافات، والمشكلة السياسية تكمن في معرفة ما إذا كان التنوع الثقافي، من حيث الدين، والاختلافات الاجتماعية، والانتماء الوطني، يمكن تجاوزه من خلال مشروع مشترك. هذا مسؤولية الحكومة التي على عاتقها تنفيذ العقد بين المجتمع والدولة، وفي تعزيز ثقافة الانتماء إلى الوطن وحماية منجزات التاريخ وتنوع الثقافة في المجتمع.
من المنطقي من أجل تعزيز الدولة، وتوطيد أركان التعايش والسلم المجتمعي، ألا يشعر أي مكون من مكونات الشعب بالتهميش، وألا تكون الأحقّية قائمة على أغلبية دينية أو طائفية أو إثنية
اشتعل السجال مرّة أخرى في الأيام القليلة المنقضية بين فئات الشعب السوري، وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي ومنصّات متنوعة بالمرسوم الرئاسي الذي عدّل قائمة الأعياد الرسمية والعطلات في الدولة، ليس بسبب إضافة مناسبتين، هما الثامن من ديسمبر/ كانون الأول، وسمّاه عيد التحرير، والثامن عشر من مارس/ آذار وسماه عيد الثورة. فهما مناسبتان أخمّن أن غالبية الشعب السوري تفرح بهما، خاصة عيد التحرير، وإنما بسبب إلغاء عيدين لهما مكانة اعتبارية ورمزية كبرى في وجدان الشعب. السادس من أكتوبر، ذكرى حرب تشرين 1973، والسادس من مايو/ أيار، ذكرى إعدام مجموعة من الرجال والشباب السوريين واللبنانيين المناضلين للتحرّر من السلطنة العثمانية في هذا اليوم من العام 1916. ولم يشمل المرسوم عيداً يعدّ رمزاً كبيراً لمجموعة قومية مهمّة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل في الواقع السوري الحالي “السوريون الكرد”.
شارك في صناعة المناسبتين الشعب السوري بكل مكوّناته، ولا علاقة لهما بنظام سياسي، حتى أن حرب تشرين تحظى بمكانة قديرة في وجدان الشعب العربي عموماً، وليس في سورية وحدها، بعد هزيمةٍ كانت قد أصابت هذا الشعب في صميم قلبه وكرامته في 1967. تشكّل العمليات التاريخية الرئيسية ركيزة مهمّة في ذاكرة الشعوب، وتعدّ من الرموز التي تساهم في رسم الهوية الوطنية، الهوية التي ما زلنا تائهين عن رسم ملامحها، عدا الخلط بين الهوية السياسية التي غالباً ما يتدخّل النظام الحاكم في تحديد خطوطها الرئيسة، والهوية الوطنية التي تعكس رؤيتنا ذواتنا وما راكمناه عبر التاريخ، وتضم تحت جلدتها هويات فرعية متعددة وطبقات تراكمت عبر مسيرة كل مجموعة في هذا التجمع الكبير، وهي (الهوية الوطنية) تتطوّر باستمرار وتتشكل كل يوم، خاصة في المجتمعات التي تتميز بـ”فسيفساء ثقافية” مثل سورية تغني الهويات وتعزز متانة الهوية الوطنية عندما تتفاعل بعضها مع بعض بطريقة تؤثر بشكل مختلف على السياسة التي يمكن لها، إن تدخلت بطريقة تتجاهل معها هذه الفسيفساء، أن تؤدي، في حال زعزعة الترابط بين هويات وفئات مختلفة، إلى تهميش أو منح مزايا لأفراد و/أو مجموعات معينة.
مفهوم “الأمة” بما هي “روح الشعب”، وهوية جماعية لاواعية نابعة ونافذة من أعماق التاريخ، غائب عن وعي السوريين ووجدانهم
تعزيز هذه المفاهيم تقع مسؤوليته الكبرى على الحكومات، ومن المنطقي من أجل تعزيز الدولة، وتوطيد أركان التعايش والسلم المجتمعي، ألا يشعر أي مكون من مكونات الشعب بالتهميش، وألا تكون الأحقّية قائمة على أغلبية دينية أو طائفية أو إثنية وغيرها، وألا ترتبط هذه الأحقية بفكرة المظلومية/ سواء كانت قديمة أم حديثة، بل بترسيخ مفهوم المواطنة لدى “الشعب”، المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات بضمانة القوانين المنبثقة من دستور تساهم كل شرائح الشعب في صياغته. هذا لا يتحقق من دون تحقق فكرة “الشعب” في الواقع، الشعب الذي هو بتعريف مختصر “مجموعة من الأشخاص يشكّلون أمة، يعيشون على الإقليم نفسه ويخضعون للقوانين نفسها وللمؤسسات السياسية التي انتخبوها”. والواقع المؤلم يظهر بكل فجاجة مدى تشرذم هذا الشعب وانقسامه.
من دون أن نفهم كيف تطوّر الماضي لا يمكننا فهم الحاضر، ولا أن نتنبأ بالغد ونخطط له أيضاً، لذلك فإن حذف تواريخ معينة منه شارك الشعب، بغالبيته، في صنعها لا يخدم فكرة رسم هوية وطنية متماسكة، ولا مشاعر مضمرة بأمة يفخر الأفراد بالانتماء إليها، ولا تمكين الشعب من تحقيق ما يضمن ازدهاره وتطوّره وتقدّمه متجاوزاً التصدّعات الكبيرة التي تعرّض لها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف