د. أميرة فؤاد النحال
كاتبة في الشأن السياسي
في مثل هذه الأيام قبل عام، لم يكن يحيى السنوار مجرّد قائدٍ استُهدف في معركةٍ غير متكافئة؛ إنّما كان عنواناً لتحوّلٍ في الوعي الفلسطيني والعالم أجمع، ورمزاً لولادة مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة مع الاحتلال، صاغتها المقاومة بدمها، ووقّع عليها السنوار بنفسه وهو على خطوط النار في تلّ السلطان، فلقد مثّل ارتقاءه لحظةَ تَكثيفٍ للتاريخ، حيث التقت سيرة الرجل بمسار القضية، وتحوّل الفرد إلى فكرةٍ لا تُستأصل، وإلى نموذجٍ يُعيد تعريف القيادة في زمن الإبادة.
كان السنوار عقل الطوفان ومهندسه، ربط بين الفكر والميدان، وبين السجن والقيادة، حتى صار نموذج المقاتل المفكّر الذي يختصر جيل المقاومة الجديدة، وبعد عامٍ على رحيله، يبدو أن العدوّ الذي احتفل باغتياله قد خسر معركته الأعمق، معركة الوعي، فالفكرة التي حملها السنوار صارت بنيةً ذهنية في كل فلسطينيّ يرى أن البقاء مقاومة، وأن الحرب الأخيرة لم تُنهِ الطوفان، بل رسّخته كحقيقةٍ سياسية وتاريخية لا رجعة عنها.
إرث الطوفان.. من الفكرة إلى المشروع
جاء طوفان الأقصى كعملية تتويج لمسار فكري وتنظيمي طويل أشرف عليه يحيى السنوار بعقل القائد الذي يرى ما بعد الميدان، ويُدير المقاومة كمنظومة وعي قبل أن تكون منظومة نار، فقد أدرك السنوار أن لحظة التحرير تولد من بناء الوعي الذي يرفض الهزيمة ويصنع توازن الإرادة في وجه آلة الاحتلال.
منذ خروجه من الأسر عمل السنوار على هندسة المقاومة كمشروع وطني شامل، يدمج بين الأجنحة العسكرية والسياسية والاجتماعية، ويعيد تعريف الفعل المقاوم باعتباره استراتيجية بقاء ومراكمة قوة، فكان يرى أن الطوفان ليس نهاية إنّما بداية، وأن المعركة الكبرى هي معركة الوعي والهوية والبقاء، لا معركة السلاح وحده.
تجلّت رؤيته في البنية التنظيمية للمقاومة التي قاومت الحصار والإبادة لعامين كاملين دون أن تتفكك، وفي قدرتها على تحويل كل ضربةٍ إلى رصيدٍ جديد في ميزان الوعي الوطني، وهكذا تحوّل الطوفان من حدثٍ في الجغرافيا إلى منعطفٍ في التاريخ الفلسطيني، ومن مواجهةٍ عسكرية إلى مشروعٍ تحريري مفتوح تتوارثه الأجيال بوصفه عنواناً جديداً للمرحلة.
السنوار.. القائد الذي أعاد تعريف القيادة
لم يكن يحيى السنوار قائداً بالمفهوم التقليدي الذي تُسنده الرتبة أو المنصب، بل كان مفهوماً جديداً للقيادة نفسها؛ قيادة تتخفى لتظهر، وتصمت لتفعل، وتترك أثرها في الميدان لا في الشاشات، فلقد أسّس السنوار لمدرسة يمكن وصفها بالقيادة الغاطسة، حيث يذوب القائد في الجماعة، ويمنح حضوره شرعيته من صلابة المبدأ.
في زمنٍ سادت فيه ثقافة الخطابة والظهور، قدّم السنوار نموذج الرمز الصامت الذي يتحدث بالفعل، ويقود من قلب الميدان لا من علوّ المكتب، فكان وجوده الميداني جزءً من بنية وعيه القيادي؛ إذ لم يرَ نفسه أعلى من الجندي، بل امتداداً له في المعركة نفسها، ومن هنا لم يكن اختياره للبقاء في غزة رغم علمه بأنه المطلوب الأول، قراراً ميدانياً فقط، إنّما قراراً قيمياً يُجسّد فلسفته في القيادة بالقدوة، لا بالإدارة.
تصف القناة 12 الصهيونية، على لسان المؤرخ هرئيل حوريف، هذه الحالة بدقة حين قال: «السنوار كان قادراً على إيجاد مكان يختبئ فيه أفضل من المنزل الذي قُتل فيه، وفي وضعٍ ذهنيّ قدريّ كهذا، لم يبق أمامه سوى أن يحرص على أن يترك وراءه إرثاً يكون فيه صلاح الدين الفلسطيني»، هذه الشهادة تكشف كيف قرأ العدو سلوك السنوار على أنه اختيارٌ واعٍ للشهادة لا هروبٌ من المصير، وأنه كان يدرك أن القيمة الحقيقية للقائد لا تُقاس ببقائه، بل بما يتركه من وعيٍ ومشروع، لقد أراد أن يُعيد تعريف البطولة الفلسطينية في زمنٍ كانت تُختزل فيه البطولة في المواجهة فقط؛ فحوّلها إلى معنى يتجاوز الفرد، ويُشرعن الفكرة بالدمّ والوعي معاً.
أما ما قاله المحلل الصهيوني يوآف ليمور في صحيفة يسرائيل هيوم: «السنوار هو من جلب على إسرائيل أعظم كارثة في تاريخها، وعلّمها درسين مهمين: لا تحكم على العدو من أقواله بل من قدراته، ولا تستهِن به أبدًا، المسلحون في غزة الذين يرتدون النعال تبين أنهم أعداء مدربون، خطرون، وأهم من ذلك، أذكياء»، فهو شهادة أخرى على أن القيادة التي صنعها السنوار هندست الفعل المقاوم بذكاءٍ غير مسبوق، فخلخلت منظومة الإدراك الصهيوني ذاتها، وأجبرت المؤسسة الأمنية على إعادة تعريف مفهوم العدو، لقد حوّل السنوار المقاومة من سلوك احتجاجي إلى نظام تفكير يربك الخصم ويكشف هشاشته من الداخل، حتى غدت النعال التي يسخر منها إعلامهم رمزاً لعجز جيشهم أمام الإرادة.
لكن الشهادة الأعمق جاءت من يسرائيل زئيف، رئيس قسم العمليات السابق في جيش الاحتلال، حين قال: «نبوءة السنوار تتحقق، من عمق قبره يقف أمام نصرٍ كبير على إسرائيل»، هنا تتجلى المفارقة التاريخية، فالقائد الذي أراد العدو أن يدفنه، صار في موته منصة سياسية وأخلاقية تعلن انهيار صورة “إسرائيل” أمام العالم، فلقد تجاوز السنوار معادلة الحياة والموت ليؤسس لمعنى أوسع، بأن القائد الحقيقي يظل يقاتل حتى وهو في غيابه، وأن القيادة ليست استمرار الجسد، بل استدامة الفكرة.
هكذا أعاد يحيى السنوار تعريف القيادة التحريرية الفلسطينية على نحوٍ نوعي من قيادةٌ تُقاوم الأنانية السياسية، وتنتصر للمبدأ على المنصب، وتُعيد الاعتبار للقدوة بوصفها الفعل الأعلى في زمنٍ استُهلكت فيه الشعارات، وفي ارتقائه اكتمل هذا التعريف، حين تحوّل القائد إلى ضميرٍ ممتدّ في وعي شعبه، لا إلى ذكرى في أرشيف الحرب.
الوعي المقاوم بعد السنوار
حين ارتقى يحيى السنوار ظنّ العدوّ أنه أغلق القوس الأخير من معركةٍ أنهكت مؤسساته الأمنية والنفسية، لكن ما جرى كان عكس ذلك تماماً؛ فقد انفتح التاريخ على مرحلة ما بعد الاغتيال، مرحلةٍ تشكّل فيها وعيٌ جديد يَعتبر أن غياب القائد لا يُفرغ الميدان، بل يملؤه بالمعنى.
لقد تحوّل ارتقاء السنوار إلى عقيدة وعي مقاوم، تجاوزت البعد العسكري إلى بعدٍ ذهني وثقافي يعيد إنتاج القائد في كل بيتٍ من بيوت غزة والضفة والشتات، ويُكرّس فكرة أن القيادة مشروع جماعي لا يُغتال، وهذا التحول نبع من عمق البنية الفكرية التي تركها السنوار وراءه؛ فقد بنى قيادة تدرك أن الاغتيال في منطق الاحتلال أداةٌ لإعادة تشكيل الوعي الفلسطيني، بينما في منطق المقاومة هو مولِّد للوعي ذاته، ومن هنا يمكن القول إن عقيدة ما بعد الاغتيال التي تبلورت خلال العام الماضي كانت منهجاً إدراكياً تتعامل به المقاومة مع كل خسارةٍ كفرصةٍ لإعادة إنتاج الذات.
القارئ الصهيوني أدرك هذا التحوّل، وإن لم يعترف به علناً، ففي مقاله على قناة N12، كتب مئير بن شابات، أحد أبرز رجال الأمن الصهيونيين: «لا تعتقدوا أن حماس ماتت؛ ومع كل ما تقدم، لا نستطيع إعلان نهاية حماس التي أثبتت قدرتها على مواجهة الأزمات الصعبة»، هذا الاعتراف الصادر من داخل المؤسسة الأمنية يكشف أن ما غاب هو الجسد لا الحركة، فالطوفان الذي هندسه السنوار كان معمار وعيٍ متكامل أوجد لنفسه القدرة على البقاء رغم ضرب الرأس، لقد كان بن شابات يتحدث بلغة المخابرات، لكنه في الحقيقة كان يُقرّ بلغة الفشل.
ويضيف بن شابات في فقرة أخرى من مقاله: «من المتوقع أن ينتقل مركز صنع القرار في حماس إلى القيادة في الخارج؛ لكن ما دامت دماء عائلة السنوار حيّة، فمن المحتمل أن تظل المواقف أكثر صرامة»، وهنا يتضح البعد الثاني للوعي بعد السنوار: الوعي الموروث، فالفكرة لم تعد حكراً على جيلٍ بعينه، بل تحولت إلى ميراثٍ نضالي تنتقل رمزيته داخل العائلة، والحركة، والمجتمع الفلسطيني، فلم يعد السنوار شخصاً في القيادة، بل بنية وعيٍ متداخلة تحكم سلوك التنظيم والشعب على حد سواء.
في السياق ذاته، كتب الجنرال عاموس يادلين، الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية، في تحليلٍ نشرته قناة N12 أيضاً: «بعد القضاء على السنوار، يجب القضاء على رؤيته بشأن وحدة الساحات»، هذه الجملة وحدها تكفي لإثبات أن السنوار لم يُغتال بالكامل؛ فالرجل الذي رحل قبل عام لا يزال يقضّ المؤسسة الأمنية الصهيونية بفكرته، إنهم يريدون قتل الرؤية بعد أن قتلوا صاحبها، لأنهم يدركون أن أخطر ما تركه السنوار ليس بندقيته، بل معادلة الوعي الموحّد التي جعلت من فلسطين ساحةً واحدة، لا جبهاتٍ متناثرة.
لقد كان مشروع وحدة الساحات الذي أراده السنوار أخطر على الاحتلال من كل الصواريخ؛ لأنه أعاد تعريف الجغرافيا الفلسطينية بوصفها فضاءً واحداً للانتماء والمواجهة، ومن هنا يمكن القول إن المرحلة الراهنة تمثّل امتداداً لهذا المشروع، إذ يعيش الفلسطينيون اليوم في وحدة وجدان، تسبق وحدة التنظيم، بفضل الفكرة التي زرعها السنوار في وعيهم.
لقد أثبتت التجربة أن عقيدة ما بعد الاغتيال التي تركها السنوار هي منهج بقاءٍ سياسي ونفسي في وجه الإبادة والحصار، فالفكرة التي خطّها بدمه، صارت الآن لغة أجيالٍ فلسطينيةٍ صاعدة، تنتمي إلى المقاومة كهويةٍ ووعيٍ وحقٍّ طبيعي في الوجود.
بين الغياب والحضور.. السنوار في معركة الزمن
ارتقاء يحيى السنوار كان تجسيداً لمعركة الوعي والزمن التي يخوضها الفلسطيني منذ النكبة، ففي لحظةٍ بلغت فيها الإبادة ذروتها، وحاول فيها الاحتلال أن يفرض موتاً رمزياً يوازي الموت المادي، انقلب المشهد ضده، ارتقى القائد لكن الفكرة نهضت أشد حضوراً، فاغتياله كان جزءً من محاولةٍ صهيونية لاغتيال الذاكرة، لطمس صورة الرجل الذي خطّ الطوفان بدمه وفكره، وجعل من غزة مختبراً لتجديد الوعي المقاوم، لكن حساب الزمن لم يكن في صالح العدو؛ لأن الزمن في التجربة الفلسطينية ليس خطاً مستقيماً، بل دائرةٌ تعيد أبطالها إلى الوعي كلما حاول الاحتلال دفنهم.
في معركة الإبادة الكبرى، أراد الاحتلال أن يُعلن نهاية القصة باغتيال بطلها، فوجد نفسه أمام قصةٍ جديدة تولد من رماد الأولى، ومن هنا يمكن القول إن السنوار لم يرحل من المشهد، بل تحوّل إلى زمنٍ مقاوم، إلى معيارٍ يُقاس عليه الثبات والولاء والانتماء.
لقد أراد الاحتلال أن يحقق نصرًا بإغتيال السنوار، يُعيد به شيئاً من توازنه المفقود بعد الطوفان، لكن ما حدث هو العكس تماماً؛ إذ سقطت مقولة الردع الصهيونية سقوطاً مضاعفاً، فحين يُغتال قائدٌ في قلب المعركة وتبقى فكرته تملأ الساحات، لا يعود الاغتيال نصراً بل وثيقة هزيمةٍ مؤجلة.
في اللحظة التي أعلن فيها الاحتلال اغتيال السنوار، كان الفلسطينيون في كل مكان يرفعون صورته كما لو أنهم يعلنون ميلاداً جديداً للمقاومة، لقد تحوّل الغياب إلى فعل حضورٍ يوميٍّ في الخطاب، في الأغنية، في المخيم، وفي عيون الأطفال الذين حفظوا ملامحه قبل أن يُغتال.
وهنا تتجلى معركة الزمن التي فشل الاحتلال في خوضها، فزمن المقاومة لا يُقاس بالساعات والأيام، بل بمدى رسوخ الفكرة في وعي الناس، والسنوار، الذي خرج من السجن بعد 22 عاماً ليقود الطوفان، ثم ارتقى في ذروة الحرب، صار علامةً زمنية فاصلة بين مرحلتين؛ ما قبل الوعي وما بعده.
تلّ السلطان.. الجغرافيا التي ختمت السيرة وفتحت التاريخ
في ذاكرة الشعوب هناك أماكن لا تبقى مجرد رقعة على الخريطة، إنّما تتحوّل إلى نصٍّ مفتوحٍ للمعنى، يُعاد قراءته جيلاً بعد جيل، هكذا غدت تلّ السلطان بعد ارتقاء يحيى السنوار فيها، أكثر من موقعٍ جغرافيٍّ على أطراف رفح؛ غدت آخر توقيعٍ بدم قائدٍ ختم سيرة المقاومة وفتح سجلّ التاريخ من جديد.
تلّ السلطان كانت مسرحاً لاختيار القدر، أن يرتقي القائد بين صفوفه على خطّ النار، هناك حيث تتقاطع الأرض والهوية، تحوّلت البقعة الصغيرة إلى مختصر فلسطين كلّها؛ ميدانٌ يتواجه فيه الحديد والإيمان، والاحتلال وفكرة البقاء.
في قراءة رمزية للمشهد، تمثّل تلّ السلطان جغرافيا المعنى الفلسطيني، فهي نقطة التقاء الجنوب المحاصر بالشمال الصامد، وارتقاء السنوار فيها لم يُنهِ مسيرته، إنّما كرّس قاعدةً جديدة في الوعي المقاوم مفادها أن الجغرافيا لا تموت ما دامت تُروى بالدمّ الحرّ، فلقد أراد الاحتلال أن يحوّل المكان إلى شاهدٍ على اغتيال، فإذا بالمكان يتحوّل إلى نصّ تأسيسيّ في الذاكرة الوطنية، كعين جالوت جديدة تُستحضر كلّما اشتدت المعركة.
على تخوم تلّ السلطان سقطت آخر أوهام الاحتلال بقدرته على إغلاق الحكاية، فمن رحم الركام خرجت جغرافيا جديدة، تُعيد تشكيل الخارطة وفق إرادة المقاوم لا الغازي، لم تعد رفح مجرد مدينةٍ جنوبيةٍ في قطاع محاصر، إنّما عاصمة رمزية للعقيدة القتالية الفلسطينية التي صاغها السنوار وورّثها جيلاً بعد جيل.
لقد تحوّلت تلّ السلطان إلى أيقونة وطنية للمقاومة المعاصرة، توازي في رمزيتها صور غزة المحاصرة وجنين المقاتلة والقدس المنتفضة، إنها عنوانٌ للتكامل بين الميدان والفكرة، بين الأرض التي تحتضن الشهداء والفكر الذي ينهض منهم، ففي كلّ مرةٍ يُذكر فيها اسم تلّ السلطان لا تُستدعى الجغرافيا، إنّما يُستدعى الوعي المقاوم الذي أعلن من هناك أن الاغتيال لا يُنهي القائد، بل يخلّد الفكرة.
وهكذا، صارت تلّ السلطان نقطة تلاقي الزمنين، زمن الدم الذي كتب به السنوار خاتمته، وزمن التاريخ الذي بدأ بعده، ومن هناك خرجت الرسالة الأخيرة أنّ الأرض التي يختم فيها القائد حياته تُصبح حجر الأساس لبناء وطنٍ جديد في الوجدان.
من دم القائد إلى قدر الأمة
عامٌ كامل مضى على ارتقاء يحيى السنوار، لكنّ الفكرة التي خطّها بدمه لم تغب لحظةً عن الوعي الفلسطيني، فكان استشهاده ولادةً ثانيةً لمشروعٍ وطنيٍّ تحريري استعاد المعنى الأصلي للمقاومة، فلقد أراد العدو أن يجعل من الاغتيال نصراً يُعلن طيَّ صفحة الطوفان، فإذا به يُعيد بعنفوان الدمّ كتابة التاريخ من جديد، ارتقى القائد في لحظة الإبادة الكبرى، ليثبت أن القيادة في فلسطين لا تُوارى في الأرض، بل تُزرع فيها، ومن رماد الحرب خرج وعيٌ جديدٌ أكثر اتّقاداً، وأجيالٌ تحمل ملامحه وتُكمل لغته السياسية والعقائدية في الفعل والموقف.
السنوار اليوم هو فكرة في الزمن الفلسطيني؛ فكرةٌ تربط الميدان بالعقيدة، والقيادة بالناس، وتحوّل الوعي الشعبي إلى ساحةٍ أخرى للمقاومة، من غزة إلى جنين، ومن رفح إلى الشتات، تمدّدت روحه في كلّ من لم يرَ في الموت نهاية، بل معبراً نحو البقاء.
إن مآلات المشروع الوطني بعد عامٍ على اغتياله تكشف أن “إسرائيل” رغم اغتيالها الجسد، فشلت في اغتيال الإرادة، وأنّ الطوفان كان تحوّلاً استراتيجياً في الوعي الفلسطيني، جعل من كلّ جبهةٍ ساحةَ وعيٍ، ومن كلّ بيتٍ جدارَ مقاومةٍ جديدة.
هكذا تتجاوز سيرة يحيى السنوار معناها الفردي لتغدو عنواناً لزمنٍ فلسطينيٍّ جديدٍ لا تُقاس فيه الانتصارات بالمسافات، بل بالبصيرة، زمنٌ تُكتب فيه خرائط القوة بأقلام الوعي، وتُقاس فيه موازين التاريخ بقدر ما يخلّفه الشهداء من وعيٍ لا يموت.
ففي غيابه ازداد الحضور كثافة، وفي موته، ازداد المشروع حياة، ذلك هو معنى السنوار في التاريخ الفلسطيني: رجلٌ ختم الطوفان بدمه، وترك للأمة أن تُكمل ما بدأه، بإيمانٍ لا يُغتال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف