الصحراء المغربية… من نزاع الرمال إلى أفق الاتحاد

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

نور الهدى سعودي
كاتبة وباحثة مغربية، ماجستير في الفلسفة.

 

لا تقاس الأوطان بمساحاتها، بل بقدرتها على رواية حكاياتها. والنزاعات الترابية في زمن ما بعد الاستعمار ليست استثناءً عربياً، بل هي القاعدة العالمية، من كشمير إلى قبرص، ومن السودان إلى كوسوفو. غير أن ما يميّز بعضها تجاوزها منطق الحدود لتصبح أسئلةً حول الهويَّة والشرعية ومعنى الدولة الحديثة في سياقات تاريخية معقّدة.
ليست قضية الصحراء مجرّد رقعة أرض، بل مختبر لأسئلة أكبر: كيف تتعامل الدول الناشئة مع إرث الاستعمار؟ ما الذي يشكّل الشرعية التاريخية في مقابل الشرعية القانونية الحديثة؟ وإلى أيّ حدّ يمكن أن تكون التنمية بديلاً من الاستفتاء؟

ما زالت قضية الصحراء، في صيغة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، في طور الترسّخ مشروعاً سياسياً مكتملاً

منذ انسحاب الاستعمار الإسباني عام 1975، لم يتعامل المغرب مع صحرائه ملحقاً جغرافياً، بل بوصفها استكمالاً لمشروع الدولة ذاته. دولةٌ تعرف أن السيادة لا تمنح بالتصويت، بل تصان بالعمل، وأن الاعتراف الدولي نتيجة طبيعية لتراكم طويل من الاستقرار والبناء والشرعية.
ظلّ هذا الملفّ مفتوحاً على تفسيرات متعدّدة. بعضهم يراه نزاعاً على السيادة، وآخرون يرونه قضيةَ تحرّر وطني، فيما يقرأه فريق ثالث تعبيراً عن صراع إقليمي أوسع. المثير للاهتمام ليس تعدد التفسيرات فقط، بل الطريقة التي يعيد بها كل طرف إنتاج روايته عن الأرض والانتماء.
تنطلق القراءة المغربية للملفّ من فرضية أن الاستعمار قطع ما كان متصلاً، وأن الاستكمال ليس ضمّاً، بل استعادة. منطقٌ يستند إلى شبكة من الروابط الاجتماعية والدينية والثقافية يصعب تجاهلها في أيّ قراءة موضوعية للتاريخ. فالبيعة التي بايعت بها قبائل الصحراء سلاطين المغرب وملوكه (عبر قرون) لم تكن طقساً شكلياً، بل تعبيراً عن انتماء سياسي وروحي يتجاوز حدود الخريطة الحديثة.
في المقابل، تستند القراءة المعارضة إلى منطق حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهو حقّ أصيل لا جدال فيه. لكن السؤال هنا: من هو هذا الشعب المعني؟ وكيف نحدّد انتماءه في سياق جغرافي عُرِف دائماً بالحركة والترحال وعدم الاستقرار على حدود ثابتة؟ هذا ليس سؤالاً بسيطاً، بل جوهر الإشكال القانوني والسياسي الذي ظلّ معلقاً عقوداً.
ما حدث أخيراً في مجلس الأمن، حين حظيت مبادرة الحكم الذاتي المغربية بدعم غير مسبوق، يعكس تحوّلاً في منطق المجتمع الدولي. لم يعد السؤال من يملك الحقّ القانوني، بل ما هو الحلّ الواقعي القابل للتطبيق. ليس هذا التحوّل مجاملةً دبلوماسية، بل استجابة لواقع ميداني: من استثمر في الأرض؟ من بنى البنية التحتية؟ من أوجد استقراراً في منطقة تواجه تهديدات أمنية متزايدة؟
في هذا السياق، يصبح الاستقرار وحده غير كافٍ لصناعة الشرعية. فالتنمية ليست بديلاً من الإرادة الشعبية، لكنّها مدخل لبنائها. ما فعله المغرب في أقاليمه الجنوبية من مشاريع كبرى يمكن قراءته رهاناً على أن الانتماء لا يفرض بالقوة ولا بالقانون، بل يبنى بالممارسة اليومية وتحسين شروط العيش.
إطالة أمد النزاع من دون أفق واضح تخدم منطق الصراع الإقليمي الذي يتجاوز مصلحة السكّان المحليين. فالتاريخ يعلّمنا أن النزاعات المجمّدة تتحوّل مع الوقت جروحاً نازفةً تستنزف الجميع وتؤخّر التنمية. لكن القرار الأخير لمجلس الأمن لا يضع نقطة النهاية. إنه يفتح فصلاً جديداً يحتاج فيه الجميع إلى تجاوز منطق الربح الكامل أو الخسارة الكاملة. كما قال الملك محمّد السادس في خطابه: “لا غالب ولا مغلوب”. الحلّ الواقعي ليس مثالياً لأيّ طرف، لكنّه الحلّ الممكن الذي يمكن أن يعيش ويتعايش معه الجميع. فما نشهده في المنطقة المغاربية مفارقة مؤلمة، بلدان تتشارك اللغة والدين والتاريخ والثقافة، لكنّها تتنازع خطوطاً وهمية رسمها المُستعمِر. ربّما آن الأوان لإعادة التفكير في معنى السيادة في القرن الحادي والعشرين. ليست السيادة أن تمنع الآخر من دخول أرضك، بل أن تبني داخلها ما يجعل الناس يختارون البقاء فيها.

المغرب العربي ليس مجرّد مصطلح جغرافي، بل مشروع حضاري مؤجّل، عطّلته نزاعات لم نصنعها

ما زالت قضية الصحراء، في صيغة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، في طور الترسّخ مشروعاً سياسياً مكتملاً، غير أن ما يلفت النظر ليس اقتراب نهاية الملفّ، بل ما يفتحه من أفق أرحب: حلم اتحاد مغاربي حقيقي يضمّ الدول الخمس الممتدّة من طرابلس إلى طنجة، ومن نواكشوط إلى تونس. لحمةٌ طال انتظارها، وآن أوان تحقّقها. فالوحدة، حين تبنى على احترام التنوّع لا على طمسه، تصنع فضاءً قادراً على مواجهة تحدّيات عصره. فالمغرب العربي ليس مجرّد مصطلح جغرافي، بل مشروع حضاري مؤجّل، عطّلته نزاعات لم نصنعها. وربّما يكون طيُّ ملفّ الصحراء بدايةً لتفكير جديد في معنى السيادة، فتتكامل الإرادات بدل أن تتنافر.
وحين تستعيد الجغرافيا عقلها، تكفّ الأرض عن أن تكون ساحةَ خصومة، وتغدو فضاءً للحياة. فالقوة الحقيقية للمغرب الكبير لا تنبع من حدوده، بل من قدرته على تحويل تنوّعه طاقةَ بناءٍ لمصير مشترك داخل قدر جغرافي واحد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...