ذ.سلمان زين الدين
كاتب لبناني
تتكرّر عبارة «لن تستطيع معي صبراً»، عنوان الرواية الثالثة للكاتبة الإماراتية الشابة نورة عبدالله الطنيجي، الصادرة عن ثقافة للنشر والتوزيع، ما لا يقلّ عن عشر مرّات في متن الرواية. وهو تكرار يفيد تَمَحْوُر الأحداث حول شخصيتين روائيتين، المخاطب الذي يستبطنه الضمير المستتر في الفعل «تستطيع»، والمتكلّم الذي يحيل إليه ضمير المتكلم المتصل بحرف الجر «مع». المخاطب هو مهران بدر الجاروس، والمتكلم هو فائزة خالد الجاروس، ابنة عمه، الراوية للأحداث والمشارِكة فيها. وبين الراوية والمروي عنه تمتد الرواية، على مساحة 283 صفحة، تغطي ثلاثة وثلاثين عاماً من العلاقة بين الشخصيتين والشخوص الأخرى المتعالقة معهما، بشكل أو بآخر، وتدور رحاها بين أماكن روائية مختلفة في الإمارات العربية المتحدة والكويت وبريطانيا والولايات المتحدة وأفغانستان.
فضاء أُسَري
من خلال هذه العناصر، تتناول الطنيجي العلاقات الاجتماعية في فضاء أُسري ضيّق. وترصد التحوّلات التي تطرأ على الشخوص المختلفة، بفعل عوامل ذاتية أو خارجية. وتصدّر عن منظور روائي إيجابي، ذلك أن الرياح تجري بما تريد الشخصيات في نهاية المطاف، بعد مخاضات عسيرة تخوضها، ما يجعل النص درساً في الصبر وقوّة الإرادة وتحقيق الأهداف. وهو ما يتمظهر في الرواية من خلال تمسّك كل شخصية بحلمها وسعيها الدؤوب إلى تحقيقه، رغم المعوقات، الذاتية والموضوعية، التي تحول دون ذلك.
الفضاء الروائي في «لن تستطيع معي صبراً» هو فضاء أُسَري ضيق. تقتصر شخوصه، من حيث درجة قرابتها من الراوية، على الأب والأم والعم والخالة وابني العم والخال وزوجته وابنته. ولكلٍّ من هؤلاء دوره المختلف عن الآخر. وهي أدوار تغلب فيها الإيجابية على السلبية، باستثناء أدوار الخال وأسرته. وتتجلّى من خلالها أهمية الأسرة في المجتمع الإماراتي، وتطفو على السطح قيم التضامن الأسري التي تتمظهر في علاقات الأبوّة والأمومة والبنوّة والأخوّة والعمومة والخؤولة وغيرها.
علاقات ملتبسة
وعليه، في هذا الفضاء الأُسَري، وفي بيتين متجاورين، تنشأ فائزة وابنا عمّها حمود ومهران، لوالدين شقيقين هما بدر وخالد، ووالدتين شقيقتين هما حنان وعليا. ويترتّب على هذه النشأة علاقات ملتبسة بين الثلاثة، تتفق في الكم وتختلف في النوع. وتجمع بينهم ذكريات طفولة وغوايات صبا وأواصر صداقة وأخوّة، لا يحول افتراق الأسرتين لضرورات العمل دون استمرارها ونموّها وبلوغها خواتيمها المنشودة، رغم مرورها في مطبّات كثيرة؛ ففائزة ترى في مهران مشروع حبيب وتحلم بالارتباط به في المستقبل، وهو يرى فيها مجرّد أخت وصديقة، بينما يشغل حمود الذي تتفق معه في الفشل المدرسي والتحرّر من الأعباء والتخفّف من المسؤولية موقع الصديق وابن العم ورفيق الطفولة بالنسبة لها، ويشغل دور الأخ لمهران الذي يختلف عنهما في التحصيل العلمي والتهذيب والجدية والرصانة ، وهي صفات غريبة على عائلة الجاسور التي تؤثر سهولة العيش وتجنّب مشاق الحياة. على أن حياة كل من الشخوص الثلاثة تمرّ في مطبّات تنجح في تجاوزها في نهاية المطاف.
مفارقات مختلفة
تبني الطنيجي روايتها على مجموعة من المفارقات، الداخلية والخارجية، سواء على مستوى بناء الشخصية أو بناء الخطاب الروائي. فعلى المستوى الأول، تجمع فائزة بين: الحب حتى العشق وعدم إراقة ماء الوجه، النشأة في مجتمع محافظ، والتجرّؤ على طلب يد العريس، الصبر والمبادرة، الاستقلالية والبرّ بالوالدين، احترام الذات والسخرية منها، سمنة الجسد وحلاوة الروح، الانفصال عن الحبيب والمثابرة على حبه. وهذه الثنائيات المتضادة تتمظهر في الوقائع الروائية المسرودة، فهي، على سبيل المثال، لا تتورّع عن طلب يد ابن عمّها مهران، أمام أسرتيهما، بعد قليل من انفصاله عن خطيبته ناتاليا التي لم تزد خطبته لها عن شهر وعشرة أيام، ويكون لها ما تريد. وهي التي لا تتورّع عن طلب الطلاق من مهران بعد اقترانها به لأقل من ثلاثة أشهر حين لم يستطع التحرر من مشاعر الأخوة التي يكنها لها، دون أن يخمد ذلك ما يستعر في داخلها من مشاعر الحب. وهي التي لا تفقد الأمل من عودته لها، وهو ما يحدث بالفعل بعد نيّفٍ وخمسة عشر عاماً من الانفصال. وعلى إيجابية هذه الشخصية وصلابتها وقوة إرادتها، فإن تجرّؤها على طلب يد حبيبها هو مفارقة غير واقعية في مجتمع محافظ من جهة، واحتفاظها بمشاعر الحب لطليقها، طيلة سنوات الانفصال، تشكّل مفارقة أخرى. والمفارقتان كلتاهما تطرحان مسألة بناء الشخصية، على بساط البحث.
خيارات مدروسة
من جهة ثانية، يجمع مهران بين: النشأة في عائلة عادية والإقبال على التحصيل العلمي، الطفولة والرجولة، الحب والشعور بالكرامة، التسامح وعدم النسيان، الاستقلالية والامتثال لإرادة والديه، الحاجة وعزة النفس. وهو ما يتمظهر في الوقائع المسرودة. ولعل رضوخه لإرادة الأهل وقبوله الارتباط بفائزة التي يكن لها مشاعر الأخوة، وهو المتعلّم، الذكي، الجدّي، اللمّاح، تشكّل مفارقة تطرح بدورها عملية بناء الشخصية، على المحك. أمّا اختياره العودة إلى فائزة، زوجته السابقة وابنة عمّه، وقد تحوّلت مشاعره نحوها إلى الحب بعد عودته من السفر الطويل، من جهة. ورفضه العودة إلى ناتاليا، خطيبته السابقة وابنة خاله التي لم يستطع تحمّل فوقيتها وغرورها في حينه، ورفض عرض العمل المقدّم إليه من الخال الذي طرده منذ نيّفٍ وخمسة عشر عاماً، من جهة ثانية، فيشكّلان تصحيحاً لخطأ قديم ووضعاً للأمور في نصابها من جهة، وتصفية حساب متأخّرة مع الماضي من جهة أخرى. وهاتان الواقعتان معطوفتين على واقعة إنقاذ أخيه حمود من براثن الإرهاب الأصولي، تشكّل وقائع منسجمة مع قيم الشخصية ومبادئها وتسجّل في رصيد البناء المناسب للشخصية.
منظور إيجابي
الشخصية الثالثة المبنية على المفارقات في الرواية هي شخصية حمود، شقيق مهران البكر وابن عم فائزة. يختلف عن الأول في إيثاره دعة العيش وافتقاره إلى الطموح وعزوفه عن طلب العلم وانسجامه مع تاريخ العائلة. ويتفق مع الثانية في الثقافة المحدودة والاستيعاب المعدوم والضحكة الشقية والمرح وحب الحياة والسمنة. يجمع حمود بين: طيبة القلب وقلة الذكاء، السذاجة والاندفاع، التهوّر والندم، الميل إلى اللهو والانضمام إلى جماعة متشدّدة، الشقاء في الغربة والحنين إلى الوطن، انتسابه إلى الجلادين وتعاطفه مع الضحايا. هذه الثنائيات تفسّر التغرير به من رفقة السوء، وإخضاعه لعملية غسل دماغ، وإلزامه الذهاب إلى أفغانستان للجهاد، وتعريضه للتعنيف النفسي والجسدي، ومعاينته البؤس البشري والظلم الحكومي، واختباره تسخير الدين لمآرب المتديّنين، وشهادته على أهوال الإعدام الجماعي الكيفي. ولعل المفارقة الكبرى التي تقوم عليها هذه الشخصية تكمن في أنها، هي التي تتسم بالطيبة والسذاجة وحب الحياة، تكون عرضة للتهديد والوعيد والترهيب والتعنيف، وتخوض من التجارب ما لا يتناسب وميولها واستعداداتها. غير أن نجاح أخيه مهران، مستعيناً ببعض المنظمات الدولية، في إنقاذه ممّا يتخبّط فيه وإعادته إلى الأسرة، يضعه على جادة الصواب من جديد، فيتماثل للشفاء من محنته، ويبدأ في التفكير في بداية جديدة ولو متأخّراً سنوات، ما يشير إلى قدرة الشخصيات الثلاث على تخطّي مطباتها والوصول إلى برّ الأمان، ويحيل إلى منظور روائي إيجابي يتعلّق بأهمية التضامن الأسري في تخطي صعوبات الحياة وتحقيق الأهداف المرجوّة.
حداثة الخطاب
على المستوى الثاني المتعلق بالخطاب الروائي، تكمن المفارقة في أن الكاتبة تزاوج بين خطاب روائي حديث، مفكّك البنية، يتألف من اثنتين وعشرين وحدة سردية، تتصدّر كلاًّ منها عتبة روائية تتألف من عبارة مستلّة من الوحدة ومكان الأحداث وزمانها معبّراً عنه بيوم محدد باليوم والشهر والسنة، ما يجعلنا إزاء اثنتين وعشرين يومية تشكّل إطاراً زمنياًّ خارجياًّ لمجرى الأحداث. غير أن المفارق أن هذه اليوميات الممتدة بين عامي 1989 و2022 لا تراعي خطية الزمن، بل ترد وفق اعتبارات أخرى فنية تعتمدها الكاتبة، وبذلك، لا تقدّم النص للقارئ لقمة سائغة، وتترك له فرصة تركيب الحكاية من اليوميات المتعاقبة، وتجعلنا أمام بنية روائية حديثة أو ما بعد حديثة.
في المقابل، تستخدم الطنيجي لغة روائية بسيطة سلسة هي أقرب إلى الحكي الشفاهي منها إلى النص الكتابي، وهو ما يفسّره إكثارها من الاستدراك والالتفات والاعتراض والتراجع، فكأننا إزاء حكواتي شعبي أو شهرزاد شعبية تحكي حكاية لرفيقاتها، ما يمنح المادة السردية التلقائية والسلاسة والتدفق على رسلها. وهنا تكمن المفارقة بين اصطناع الخطاب وبداهة اللغة. على أن السرد في الرواية تقطعه خواطر ومشاهدات وانطباعات كتبتها إحدى الشخصيات وبعض الأغنيات الشعبية ما يكسر النسق السردي، واللغة تتخلّلها أمثال ريفية ومعتقدات شعبية وعادات وتقاليد تشي بالمرجع الذي تنطلق منه الكاتبة وتحيل إليه. وبين حداثة الخطاب وأسَرية الحكاية وتلقائية السرد وسواها من المكوّنات المستخدمة بمقادير مدروسة، تقدم نورة الطنيجي «طبخة روائية» طيّبة «لن يستطيع القارئ معها صبراً»، ويقبل على التهامها بشهية واضحة.