الشمس السوداء

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

هاجر أوحسين

 

 

تلك الفتاة الطويلة السمراء نظرت نظرة خاطفة و رحلت في حال سبيلها.
تلك المجموعة توقفت إلى جانبها و التقطت بعض الصور و رحلت.
ذلك الرجل الضخم، ذو القبعة الحمراء، مر ولم يتكبد حتى عناء النظر.
هنالك فتاة قادمة، وقع كعبها العالي يقترب، عطرها الزكي يتخلل في ثنايا الإطار.. توقفت لبرهة تدقق في التفاصيل، بما تتضمنه من أفراح و أحزان.. من تماه و تناقضات.. لقطات عشوائية.. متفرقة.. مشوشة.. دون أية روابط جلية..
سيل من الزوار في معرض اللوحات، إنه أهم عرض في السنة على الإطلاق.
فتح الباب الرئيسي، هاهو ذا يدلف بشموخ و فخر..
تقدم..
هناك يقف الجمهور في حلقة يصفقون و يهتفون. عم الصمت، تقدم على مضض إلى المنصة الرئيسية واثقا منتصبا، ألقى خطابه المنمق، تحدث عن فنه، عن معاناته، عن أحلامه. بكى و انتحب. قال أن الفن دواءه و الريشة رفيقة دربه. صفقوا له بحرارة و تأثر.

” تم اليوم الكشف عن هوية الفنان الغامض المجهول صاحب لوحة: الشمس السوداء، في معرض المدينة.. و قد ظهر الفنان الغامض بعدما نشر لوحته الشهيرة و لوحات أخرى تحت اسم…”
ضرب بقبضته الطاولة، انسكب كأس قهوته على ورقة بيضاء كان يخط فيها شتات أفكاره.. أطفأ التلفاز و صرخ: ” ماذا؟ كيف حدث هذا؟؟؟؟”
صاح غضبا في وجه التلفاز، انتفض واقفا و بدأ يلف و يدور و يتمتم في تلك العلية.
لوحات مركونة في الزوايا، مجموعة خناجر والده القديمة في الرفوف، أكوام من الأوراق هنا وهناك.
فوضى عارمة تعم المكان، و صرخاته تعلو وسطها شيئا فشيئا.. يدور في حلقة مغلقة : ” لا! لوحاتي! إنها لوحاتي أنا.. لوحاتي أنا.. من هذا الذي تجرأ على هذا الفعل الشنيع.. ؟ من هذا الذي سرق صغاري.. ؟ “

اعتكف في تلك العلية منذ حوالي 5 سنوات.. منذ أن فر هاربا من مدينته.. من ضغط حياته القديمة.. و منذ ذلك الحين لم يعرف شخصا و لم يحضر مناسبة قط. رافق الفن و رافقه الفن.. ساندا بعضهما البعض، بكيا معا، ضحكا معا، اندهشا معا..
حمل جهاز التحكم، شغل التلفاز من جديد.
“إنها الليلة الحدث ! سيكون معنا الفنان شادي على خشبة المسرح الكبير مساء اليوم ليقدم لنا أشهر لوحاته، و يحكي لنا عن سر الشمس السوداء…”
صرخ: “شادي؟ من شادي؟ إنه علي! شمسي السوداء أين أنت؟ أين؟”
أسرع باحثا عن اللوحة: “آه ها أنت هنا يا عزيزتي! “
حملها و أخفاها تحت السرير: ” نعم! أنت لي.. ستكونين بأمان هنا! “

“طق.. طق.. طق.. ” سمع علي صوت طرقات بابه لأول مرة. فلم يزره أحد من قبل أبدا.
في حركات ثقيلة مترددة، توجه نحو الباب و أدار المقبض: ” هذا أنت! كيف و ما الذي تفعله هنا..؟ “
“نعم هذا أنا.. أقتفي أثرك منذ أعوام.. منذ عرضك لأولى لوحاتك.
ممم المهم، لدي عرض مغر لك.. سأقدم لك مبلغا يكفيك طوال حياتك.. أعطني فقط لوحة الشمس السوداء الأصلية لأقدمها اليوم على المسرح.. من يعلم قد نشتغل سويا من اليوم فصاعدا.. و أعدك، لن تندم ما حييت.. “
“إنها شمسي أنا.. إنه سوادي أنا.. لن أسمح بهذا أبدا.. يا لهاته الوقاحة..”
أسرع إلى الرف، حمل خنجرا و غرزه في قلب الرجل فأرداه طريحا.. و قال : “إنها شمسي أنا.. شمسي أنا.. إنها مصدر نوري الوحيد.. لن يبعدها أحد عني..”
تركه جثة هامدة وهرول مسرعا يجري في شوارع المدينة، يجري و يصرخ: ” لن يأخذك مني أحد، أنت نوري و ظلمتي أنا.. “

ركض و ركض.. إلى أن وجد نفسه في المسرح الكبير، توجه إلى الخشبة و صعد تحت دهشة الحاضرين. هتف البعض: “من هذا المجنون؟”، “من هذا؟”، “هيا أبعدوه من هنا قبل قدوم السيد شادي..” ، “ما الذي يجري؟؟”.
نزل من المسرح و طاف يحيي الجمهور و يسألهم الواحد تلو الآخر:
“من أنا؟”
“من أكون؟؟”
“أنا؟؟”
“أنا صاحب النور.. ”
“نعم.. نعم.. “
“لا.. لا… ”
“أنا صاحب السواد.. “

إيطاليا تلغراف

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...