يونس مسكين
لم تتأخر قرارات الرئيس الأمريكي القديم-الجديد، دونالد ترامب، في إثارة الزوابع والقلق والاضطرابات، سواء داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو خارجها.
أكثر هذه القرارات غرابة وإثارة للدهشة، ليست تلك المتعلقة بالحرب التجارية الفورية التي فتحها ترامب مع جاريه الشمالي والجنوبي، كندا والمكسيك، والعملاق الصيني، بل وحتى الاتحاد الأوربي؛ بل هي القرار المتعلق بالوكالة الأمريكية للتعاون الدولي، والتي وجد موظفوها أنفسهم صباح أمس الاثنين 03 فبراير 2025، ممنوعين من ولوج مكاتبهم، فيما اختفت المواقع الإلكترونية الخاصة بالوكالة وحسابها في موقع “إيكس” من الشبكة العنكبوتية، وباتت بذلك مئات المشاريع في أكثر من 120 دولة، محرومة من الموارد المالية اللازمة لاستمرارها.
عندما نقول الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي، فإننا نتحدث عن مؤسسة ضخمة تنفق عشرات الملايير من الدولارات سنويا (أكثر من 40 مليار دولار)، وتنجز مشاريع حيوية لعدد من شعوب العالم، بما فيها تلك الواقعة تحت حكم أنظمة معادية للولايات المتحدة الأمريكية أو غير مرتبطة بها بأية علاقات دبلوماسية.
كان تجميد الاعتمادات المالية الخاصة بالوكالة من القرارات الأولى التي اتخذها ترامب في يومه الأول في البيت الأبيض، أي يوم 20 يناير 2025، لكن الجميع اعتقد أنه مجرد قرار احترازي في انتظار مراجعة الميزانية والاطلاع على التفاصيل، مع احتمال إدخال تعديلات فيها وفي القائمين على تنفيذها، ليطلق الملياردير المتحالف مع الرئيس، مالك منصة “إيكس” إيلون ماسك، تصريحات صادمة ضد الوكالة الأسبوع الماضي، ذهب فيها إلى وصفها بالمنظمة الإجرامية.
عمليا، أصبحت الوكالة ابتداء من صباح الاثنين 03 فبراير 2025 تحت سلطة وزارة الخارجية الأمريكية، وعدد كبير من موظفي الوكالة والمتعاقدين معها باتوا في وضعية غامضة، حيث توصل بعضهم برسائل تخبرهم أنهم في عطلة إدارية، فيما بات جلهم ممنوعين من ولوج حساباتهم المهنية في المنصات الرقمية التابعة للوكالة.
لماذا كل هذا؟
لا تسعف المصادر الأمريكية المتاحة حتى الآن، بما فيها تقارير ومقالات الصحافة، في فهم خلفية هذا الاستهداف الغريب لوكالة أحدثت عام 1961 على يد الرئيس الأمريكي جون كينيدي، في سياق الحرب الباردة.
وتعود شهادة ميلاد الوكالة إلى قانون أصدره الكونغرس، ووظيفتها الأساسية كانت هي تمكين واشنطن من قوة ناعمة تسمح لها بمواجهة الدعاية السياسية التي يقوم بها المعسكر الشرقي.
وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة، استمر الرؤساء الأمريكيون في دعم هذه الوكالة، واحترام استقلاليتها التامة عن إداراتهم، باستثناء ما يفرضه الخضوع للقوانين الأمريكية.. وحده ترامب كان قد عبّر في ولايته السابقة عن عداء واضح تجاه الوكالة، دون أن يتمكّن من تجميد نشاطها، وهو ما يبدو اليوم عازما على تحقيقه.
المبرر الوحيد الذي يمكن تسجيله من خلال التصريحات والتفسيرات المتاحة، هو رغبة ترامب ومعه ماسك، في تقليص النفقات الفيدرالية، خاصة منها تلك الموجهة إلى السياسة الخارجية والتعاون الدولي، تجسيدا لشعار “أمريكا أولا” الذي رفعته حملة ترامب.
ونتيجة لهذه السياسة، سيجد ملايين الأشخاص عبر العالم أنفسهم في مواجهة انقطاع مفاجئ لموارد مالية تضمن احتياجات أساسية، بما فيها الاحتياجات الغذائية والدوائية…
ورغم أن المغرب لا يندرج ضمن البلدان التي تستفيد من دعم “إنساني”، إلا أن أنشطة الوكالة ومشاريعها في المغرب كبيرة ومتعددة، سواء منها تلك التي تنجز من طرف السلطات العمومية أو تلك التي يتولى المجتمع المدني القيام بها.
وفي غياب الموقع الرسمي للوكالة، ومواقعها الفرعية، يمكننا تعقّب المصالح المغربية مع هذه الوكالة من خلال استحضار عدد من المشاريع والبرامج التي تتولّى تمويلها، من قبيل:
• كانت الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي من أوائل المانحين الدوليين الذين قدموا مساعدة مالية للمغرب، حيث سارعت في الأسبوع الأول إلى الإعلان عن منحة بقيمة مليون دولار لفائدة المغرب للمساهمة في الجهد الإنساني المبذول حينها لفائدة الضحايا، ليتطوّر الأمر تدريجيا فوق عتبة 12 مليون دولار كقيمة إجمالية للمشاريع والبرامج التي تمولها الوكالة لفائدة المناطق التي ضربها الزلزال؛
• ترتبط الوكالة باتفاقيات عديدة مع قطاعات التعليم والتعليم العالي والتربية والتكوين في المغرب، حيث وقّعت في سنة 2021 اتفاقية مع وزارة التربية الوطنية بغلاف إجمالي يصل إلى 25 مليون دولار، يمتد العمل بها لخمس سنوات، موجّهة لدعم قدرات الموارد البشرية للوزارة، خاصة منهم الأساتذة،
• في سياق النشاط الاستثنائي الذي شهدته سنة 2024 في العلاقات بين المغرب والوكالة، استقبل وزير التربية الوطنية السابقة، شكيب بنموسى، مدير الوكالة في المغب شهر يوليو الماضي، وتباحث معه بخصوص هذا البرنامج وسبل دعم التلاميذ المغاربة في المستويين الابتدائي والإعدادي في مواد اللغة العربية واللغة الإنجليزية والعلوم…
• عندما زارت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، السيدة سامانثا باور، المغرب في شهر ماي 2024، حظيت باستقبال رسمي من طرف وزير الخارجية ناصر بوريطة، وهو ما يجسّد أهمية الوكالة بالنسبة للمغرب،
• في ندوتها الصحافية المشتركة مع بوريطة، أشارت المسؤولة الأمريكية إلى “الجهود الكبيرة” التي يبذلها المغرب لتعزيز تمكين الشباب ومكافحة التطرف، وهو ما ينطوي على إشارة إلى بعض البرامج التي تموّلها الوكالة في المغرب، كما تطرّقت إلى مشاريع المغرب في مجال الطاقة المتجددة ومكافحة التغيّر المناخي وتدبير تداعيات الزلزال… وهي كلها مجالات يشملها تدخّل الوكالة في المغرب؛
• على هامش زيارة سامنثا باور للمغرب، جرى الإعلان عن شراكة بين الوكالة ومجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، تتعلّق باتفاقيتين تهدفان إلى تحسين كفاءة ومردودية القطاع الفلاحي في القارة الإفريقية. يتعلّق الأمر بكل من مشروع “Space to Place” الذي يتمثل في جمع البيانات المحلية الدقيقة عن التربة والمناخ، و مشروع ”Rock Phosphate Amendment” الذي سيقوم بتقييم أثر استخدام الفوسفاط الخام والتركيبات الغذائية المبتكرة على مردودية الزراعات وخصوبة التربة.
• …
لنلاحظ كيف أن قرار إدارة ترامب المتعلق بالوكالة الأمريكية للتعاون الدولي، يقدّم نموذجا لكيفية انعكاس القرارات التي يتخذها ساكن البيت الأبيض على العالم برمّته، بما فيه المغرب. وبالتالي نحن لسنا أمام فرجة نتابعها ونتسلى بها من بعيد، بل كلّما أحدث ترامب زلزالا جديدا في “واشنطن دي سي”، وصلتنا تردداته بشكل أو بآخر…
الحافظ الله!
صوت المغرب