نهاية أسطورة “الاتحاد الاشتراكي” المغربي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

علي أنوزلا
صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم”.

 

 

نهاية الأسبوع الماضي، عقد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (المغربي) مؤتمره الثاني عشر في مدينة بوزنيقة جنوب العاصمة الرباط، في حدث مرّ بهدوء غير معهود بالنسبة لتاريخ حزبٍ كان، ذات يوم، أحد أهم الفاعلين السياسيين داخل المشهد السياسي المغربي. لم يكن ينتظر من المؤتمر الكثير بعد أن تحول الحزب نفسه إلى رقم عادي داخل المعادلة السياسية المغربية، تحول إلى لحظة رمزية مكثّفة لمعنى موت السياسة في المغرب. فالحزب الذي كان يوماً ضمير اليسار المغربي وعقله المفكر، قاد المعارضة عقوداً في وجه السلطة، وصاغ بلغة المثقفين والعمّال والطلبة حلم “المغرب الممكن”، بات اليوم يثير السخرية والشفقة أكثر مما يثير النقاش، وفي مؤتمره أخيراً كشف عن جوهر الأزمة التي قتلت العمل الحزبي في المغرب: غياب الديمقراطية الداخلية، وتحوّل الأحزاب إلى مِلكية خاصة تُدار بمنطق الولاء لا بالكفاءة، وبالانضباط لا بالحوار والنقاش وبالمبايعة لا بالانتخاب والتصويت.

ما أثار الاستغراب ليس مجرّد استمرار إدريس لشكر على رأس الحزب، بل الطريقة التي مُدّدت له بها الولاية الرابعة عبر تعديل القانون الداخلي، في لحظة تكثّفت فيها أزمة الديمقراطية الداخلية وتحطّم القيم المؤسِّسة التي قام عليها الاتحاد منذ نشأته. فقد جرى انتقاء المؤتمرين بعناية من بين الموالين والأتباع، وجرت عملية التصويت برفع الأيدي وبإجماع يكاد يذكّر بمشاهد الأنظمة الشمولية حين يُمدّد “للزعيم التاريخي” بالتصفيق والزغاريد. أعاد الخطاب الذي ألقاه لشكر بعد “مبايعته” إنتاج المفارقة نفسها التي باتت سمة ملازمة للحياة الحزبية المغربية: زعيم يعلن أنه لم يرشّح نفسه، بل “انضبط لقرار القاعدة الديمقراطي”، في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أنه أدار معارك داخلية شرسة 13 عاماً لإقصاء كل منافسيه أو إخضاعهم.

من منظور سوسيولوجي، يمكن قراءة ما يجري داخل “الاتحاد الاشتراكي” بوصفه تجسيداً لظاهرة أعمّ في المشهد الحزبي المغربي، حيث تتحوّل التنظيمات التي وُلدت من رحم النضال الديمقراطي إلى أدوات للولاء السياسي أكثر من كونها فضاءات لإنتاج الفكر والبرامج أو بلورة المشاريع المجتمعية. فإدريس لشكر، الذي لم يكن من القيادات التاريخية التي دفعت ثمن مواقفها سجناً أو منفى، استطاع أن ينسج عبر السنوات شبكة من التحالفات داخل “الدولة العميقة”، مكّنته من البقاء في القيادة رغم التراجع المتواصل لحزبه في النتائج الانتخابية منذ تولى قيادته. فمنذ 2012، سنة توليه الكتابة الأولى (الأمانة العامة)، عرف الحزب أسوأ مراحله تمثيلاً وتنظيماً، لكنه ظلّ يحافظ على موقعه الرمزي، ليس بفضل ما تبقى من اسمه التاريخي، وإنما بارتباطه بشبكات النفوذ داخل الدولة والمجتمع، لا بقاعدته الشعبية التي تقلصت إلى مجموعة من الأعيان وتجار الانتخابات واللاهثين وراء المناصب والكراسي.

الحزب الذي كان يوماً ضمير اليسار المغربي وعقله المفكر، بات اليوم يثير السخرية والشفقة أكثر مما يثير النقاش

أما التبرير الذي قدّمه لشكر، أن التداول على القيادة هو سبب أزمات الحزب، فهو من الناحية التحليلية قلبٌ للمنطق السياسي والمؤسسي. فـ”الاتحاد الاشتراكي”، منذ انشقاقه عن حزب الاستقلال سنة 1959 تحت اسم “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، قام على فكرة المراجعة والنقد الذاتي والتجديد الفكري. وعندما عقد مؤتمره الاستثنائي سنة 1975، كان بصدد إعادة تعريف ذاته الأيديولوجية عبر ما سُمّي “التقرير الأيديولوجي”، وهي الوثيقة الوحيدة التي منحت الحزب رؤية فكرية متماسكة، إذ حسمت انتقاله من “الخيار الثوري” والعمل السرّي إلى “النضال الديمقراطي” والمشاركة المؤسّساتية. غير أن ما مثّل في حينه خطوة تقدّمية نحو التحديث السياسي، صار اليوم مجرّد ذكرى بعيدة، بعد أن تكلّست البنية التنظيمية وتحوّل الحزب إلى جهاز انتخابي تحت تصرف “الزعيم”.

يقدّم تاريخ الاتحاد الاشتراكي منذ تجربة حكومة التناوب التوافقي عام 1998 مثالاً واضحاً على المفارقة التي تواجه الأحزاب الإصلاحية في الأنظمة الانتقالية: المشاركة في السلطة تؤدّي إلى فقدان الرصيد النضالي بدل تعزيزه، فقد دخل الحزب الحكومة باسم الديمقراطية وخرج منها فاقداً قاعدته الاجتماعية، بعدما ارتبط في الوعي العام، في أثناء مرحلة تسييره الشأن العام، بالتنكّر لمبادئه أيام كان في المعارضة، وبالفساد الذي لطّخ سمعة بعض أعضاء قيادته، دون أن يترك أي أثر لمشاريعه الإصلاحية أو لبرامجه الانتخابية التي كان يعد بها. وخلال فترة مشاركته في الحكومة برزت الطموحات الأنانية لقياداته واحتدم الصراع بين أجنحته، وتفتّتت هياكله النقابية والشبابية، ومزّقته الانشقاقات والانسحابات الداخلية، وتفرّقت نخبُه الفكرية والسياسية إلى تيارات صغيرة عاجزة عن إعادة إنتاج الفكرة الاشتراكية في سياق مغربي متحوّل.

ليست الأزمة الراهنة للاتحاد الاشتراكي حالة معزولة، بل هي من أعراض تآكل فكرة الحزب السياسي نفسها في المغرب الحديث

أتاح هذا الانهيار البنيوي لشخصٍ مثل لشكر أن يبسط سلطته التنظيمية المطلقة، في وقتٍ فقد فيه الحزب كل منافسة داخلية حقيقية، فبدل أن يكون الاتحاد الاشتراكي قوة معارضة فكرية ومجتمعية، اختار التموضع في منطقة رمادية قريبة من السلطة، متبنّياً ما سمّاه زعيمه “معارضة صاحب الجلالة”، أي معارضة في خدمة النظام أكثر مما هي في خدمة المجتمع. من الناحية النظرية، يشير هذا التحول إلى تلاشي الحدود بين الحقلين الحزبي والسلطوي في المغرب، وإلى تغليب منطق التوافق العمودي على منطق التعددية الأفقية، ما جعل الحزب يتحوّل تدريجياً إلى مؤسّسة داخل الدولة وليس حزباً داخل المجتمع.

ليست الأزمة الراهنة للاتحاد الاشتراكي حالة معزولة، بل هي من أعراض تآكل فكرة الحزب السياسي نفسها في المغرب الحديث، حيث تراجعت السياسة إلى مستوى الأداء الرمزي، وغابت عنها الوظيفة التمثيلية والتعبوية التي كانت تؤطّر المجتمع وتقوّم الدولة في آن واحد. فالحزب الذي وُلد ذات يوم صوتاً للطبقات الوسطى والدنيا، وصاغ خطاب العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة، تحوّل إلى هيكل بلا روح، يقتات على شعارات قديمة عفى عليها الزمن كمن يردد تعاويذ طقوس تقليدية تحت قبة خيمة سياسية خاوية. لذلك، فإن السؤال الحقيقي لم يعد: لماذا يمدّد إدريس لشكر لنفسه؟ بل: لماذا لم يعد هناك ما يمنع أي زعيم حزبي في المغرب من أن يفعل الأمر نفسه بعد أن تحوّلوا إلى أشباه “ملوك” داخل أحزاب أضحت ضيعات عائلية وزوايا حزبية، لا يختلف في ذلك الاشتراكي عن الشيوعي ولا الليبرالي عن الإسلامي؟

ما نشهده اليوم ليس سقوط حزبٍ وحسب، بل انهيار سردية كاملة عن “المعارضة الإصلاحية” في المغرب، وانكشاف الفراغ الذي تركته الأسطورة حين تهاوت، بلا فكرة، بلا مشروع، وبلا حلم.

بهذا المعنى، يمكن القول إن المؤتمر الثاني عشر لحزب “… القوات الشعبية” سابقاً لم يكن سوى لحظة رمزية لإعلان وفاة مشروع سياسي كان يُفترض أن يكون رافعة للتحديث الديمقراطي في المغرب، فالحزب الذي كان يُعدّ مدرسة للنضال الديمقراطي انتهى إلى نموذج مختبري لكيفية تحلّل الحركات الإصلاحية وتحولها إلى أدوات محافظة، تُعيد إنتاج البنية ذاتها التي وُلدت لمواجهتها. ولذلك، لم تعد العبارة التي تتردّد اليوم بين من تبقّوا من مناضليه القدامى، “إكرام الميت دفنه”، شتيمة، بل تشخيصاً ملموسا دقيقاً لواقع سياسي فقد فيه الحزب آخر مبررات وجوده.

في النهاية، يبدو أن “الاتحاد الاشتراكي” الذي بنى مجده على خطاب المعارضة لم يكن في جوهره سوى أسطورة سياسية صنعتها الحاجة التاريخية إلى معارضٍ نبيلٍ في مواجهة سلطةٍ صلبة، أكثر مما صنعها فعل سياسي متجذّر ومتجدّد أو مشروع مجتمعي متماسك. أسطورةٌ نسجت حولها أجيالٌ من المغاربة أحلامهم عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فتحوّلت مع الوقت إلى جزء من الذاكرة الجماعية للمغرب المعاصر، تماماً كما تتحوّل الرموز إلى أساطير أكثر مما هي وقائع. لكن حين تتحطم الفكرة المؤسسة للأسطورة ، أي فكرة النضال من أجل التغيير، ينهار معها كل البناء الرمزي الذي أُقيم حولها: الزعماء، الشعارات، الوثائق، وحتى الوجدان الجمعي الذي كان يراها مرجعاً أخلاقياً. ما نشهده اليوم ليس سقوط حزب وحسب، بل انهيار سردية كاملة عن “المعارضة الإصلاحية” في المغرب، وانكشاف الفراغ الذي تركته الأسطورة حين تهاوت، بلا فكرة، بلا مشروع، وبلا حلم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...