الكاتب محمد مشبال يرصد صورة المصري في المخيال المغربي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

إلياس الطريبق(*)

ليست العلاقات المصرية المغربية، والآصرة الأخوية بين الشعبين المصري والمغربي وليدة اليوم، بل هي علاقات ضاربة بجذورها في أرضية التاريخ والعيش المشترك بين البلدين، بحيث تمتد هذه العلاقات إلى مئات السنين وأكثر، مخلّدة بذلك نموذجا من نماذج التقارب والتعايش، وروحا نابضة بأسرار التأثير والتأثر والتلاقح المستمر بين المشرق والمغرب.
نعرض هنا كتاب الناقد المغربي محمد مشبال «الهوى المصري في خيال المغاربة» (كتاب الهلال- أغسطس2014) وهو الكتاب الذي يعد ثمرة من ثمرات هذا التواصل بين ثقافتين اشتركتا في وشائج اللغة والدين والجغرافيا.

كتاب محمد مشبال هذا ليس كتابا في النقد على غرار كتبه الأخرى، بل هو كتاب يستعرض فيه تجارب المثقفين المغاربة الذين يمموا وجوههم صوب بلاد المشرق وتحديدا مصر؛ كل من أجل غايته وطموحه الشخصي، وإن كانوا جميعا في المقام الأول والأخير يجمعون على هدف واحد، هو الارتواء من ثقافة مصر وحضارتها عن طريق الدراسة في جامعاتها العريقة، على يد أساتذتها الأجلاء وأعلامها المرموقين، منطلقين من حوافزهم الذاتية، التي شحذها خيالهم وانطباعهم الذاتي، فتكّون لديهم ما سماه محمد مشبال، الهوى المصري الذي لا يعدله هوى آخر.

وفي هذا الصدد يقول المؤلف في مقدمة كتابه: «أردت أن أستوقف القارئ المغربي إزاء حقيقة تاريخية وثقافية، وهي أن الهوى المصري يشكل جزءا من كيانه الثقافي ومخيلته ووجدانه. وقد آن الأوان لكي يتدبر المثقف المغربي مختلف صيغ التواصل الكائنة والممكنة بين الثقافتين المغربية والمصرية، بعيدا عن أخلاقيات الإقصاء والتعالي واللامبالاة». وفي هذا القول أمران: الأول تنبيه إلى حضور الهوى المصري في الكيان الثقافي للإنسان المغربي ومخيلته ووجدانه، وتلك حقيقة تاريخية وثقافية يضعنا المؤلف أمامها، تدعمها روح الإبداع والتميز التي تمتع بها المصريون وما يزالوا يتمتعون بها، وأثرت في المغاربة بدون شك. الثاني وهو دعوة صريحة للتدبر في صيغ التواصل بين المثقف المصري والمثقف المغربي، من أجل إعادة النظر في هذا الإرث الحي، وهذا الزخم الزاخر، بعيدا عن كل ما يمكن أن يشكل حاجزا أو عائقا يحول دون التواصل الأسمى والفعال بين ثقافتين غنيتين في معناهما ومبناهما مهما كان مصدره أو شكله.

ولعل دعوة الكاتب هذه نابعة من الخوف على هذه الآصرة التاريخية، وهذه الحقيقة الثقافية من الجفاء والاندثار الكامل، الكفيل بمحوها وطمس آثارها مع مرور الأيام، بالنظر إلى غياب الهوى المصري بين الشباب المغاربة اليوم، وندرة أشكال التواصل بينهما، والتبادل المعرفي أو الفني لأسباب كثيرة، تطرح معها سؤال الدور الطليعي الذي كانت تلعبه مصر في فترات سابقة من تاريخها الحديث، في مجالات السياسة والفن والسينما والأدب والموسيقى، فمثلا روائع العندليب عبد الحليم حافظ، وأغاني أم كلثوم، والأفلام السينمائية الشهيرة مثل «الكرنك» و«اللص والكلاب» و«دعاء الكروان» و«المومياء». والمسلسلات التلفزيونية وروايات نجيب محفوظ ومؤلفات طه حسين، وتأثير المد القومي العربي لعبد الناصر في الستينيات، وصيحات الموضة في اللباس والأثاث وغيرها، كل ذلك كان له صدى واضح وتأثير ملموس في جيل الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، بالمقابل خفّت جذوته وانحسر صيته في هوى جيل اليوم وجيل التسعينيات، الذي أخذته روح التأثر بالآخر وثقافة الآخر الأجنبي، مآخذ أخرى بعيدة عن محيطه الأصلي وثقافته الأم ومنبعه الصقيل.

يقسم محمد مشبال كتابه «الهوى المصري في الخيال المغربي» إلى أربعة فصول؛ كل فصل يمثل تجربة حكائية سردية فريدة، لشخصية من الشخصيات المغريبة مع الهوى المصري عن طريق تجارب السفر والإقامة وطلب العلم والمعرفة، بحيث تمثل كل تجربة على حدة، نسخة من نسخ الهوى في حقبة زمنية معينة، فهذا عبد الكريم غلاب في الفصل الأول من الكتاب إبان سنوات الأربعينيات من القرن الماضي قبيل الاستقلال، يسافر إلى القاهرة طالبا في جامعتها، فإذا به يتحول إلى مناضل سياسي يناضل في سبيل تحرر بلاده ونيلها استقلالها واستقلال البلدان العربية التي كانت ترزح تحت الاستعمار. هذه التجربة السياسية التي تحولت في الوجدان الشخصي لعبد الكريم غلاب إلى تجربة إنسانية وسمها بعنوان «القاهرة تبوح بأسرارها».

أما الفصل الثاني الذي عنونه بالهوى المصري والمغامرة الجنسية، فقد خصّه للحديث عن «مثل صيف لن يتكرر» للكاتب الطلائعي محمد برادة، الذي التبست فيها مزالق الحب بالعاطفة والخيال بالذاكرة والهوى بالمغامرة، بحيث شكّلت كتاب سيرة ذاتية، يغلب عليه طابع السرد الاسترجاعي flash-back يسرد فيه محمد برادة تجربته لما كان طالبا في كلية الآداب في جامعة القاهرة، يدرس آداب اللغة العربية فيها في قسم الدراسات العليا، ولاحقا لما أصبح ضيفا عليها يحضر منتدياتها ومؤتمراتها، وما في ذلك من الحنين الجميل، والتذكر الغامر بفرح اللقيا وشوق اللقاء، الذي كان شاهدا حيا على روح الهوى المصري في الفؤاد والوجدان المغربي، مثله أحد رواد جيل الستينيات المغاربة، الذي فتح عينيه على الحداثة الأدبية بألوانها وصنوفها كافة، تجسد ذلك جليا من خلال ضروب الكتابة وأساليبها الجديدة في الرواية.

ثم يأتي الفصل الثالث الذي يختلف عن باقي الفصول الأخرى في الكتاب، وفيه نتوقف عند تجربة الناقد محمد أنقار، الذي لم يرحل إلى مصر ولم يسافر إليها، وإنما نسج معها علاقة أكبر من ذلك، هي علاقة من وحي الخيال، توجتها روايته «المصري» التي يستعير فيها الكاتب شخصية بطله «أحمد الساحلي» الموظف الذي أحيل على التقاعد. هذا الرجل المفتون حد الهوس بعبق الحياة المصرية ونسيجها الاجتماعي، سيطمح لأن يكون أديبا على غرار الأديب نجيب محفوظ صاحب الثلاثية المشهورة، لكن مع استبدال القاهرة بمدينة تطوان المغربية مدينة البطل، فيقرر أن يتفرغ لكتابة رواية الولع المغربي بأدب نجيب محفوظ، كما سماها الناقد المصري صلاح فضل. رواية يكتبها لتطوان كما كتب نجيب محفوظ للقاهرة، هذا الولع الذي دفع أحمد الساحلي بطل رواية المصري، إلى أن يحذو حذو نجيب محفوظ في تأمل قاهرته الخاصة، والنفاذ إلى عمق تفاصيلها الشاسعة والضيقة من أزقة وحواري ومقاهي وبيوتات ودروب وشخوص، هذا النفاذ البريء إلى روح المدينة وكنهها، الذي يحتاج إلى عين لاقطة ولحظ متيقظ دائم ومستمر، سيصطدم مع طبيعة المجتمع التطواني المحافظ والمنغلق على نفسه، إلى درجة كبيرة، بحيث سيرى في سلوك أحمد الساحلي تلصصا وهتكا للخصوصية، واقتحاما لحرمة الغير، وهو الأمر غير المعتاد في مثل هذه المدن العريقة، مما سيؤدي به حتما إلى الفشل الذريع، متوقفا عن حلمه الذي بدأه بالقراءة لأعمال نجيب محفوظ والتأثر البالغ بها، خاصة الثلاثية.

لكن الكاتب الحقيقي ألا وهو محمد أنقار سينجح في كتابة رواية ولعه بمصر، والأدب المصري، من خلال روايته «المصري» التي يشهد عنوانها على مدى الارتباط التاريخي للشخصية المغربية بالحياة المصرية والمصريين على العموم، سواء من خلال الأدب أو الفن أو السينما أو الموسيقى، هذه الأخيرة التي قال عنها محمد أنقار إنها كانت تتسرب إليه مع مسام جلده وهو يستمع إليها، بل هو هوى منشأه فؤاد مغربي متطلع على الدوام، ومنذ فجر التاريخ إلى نصفه الآخر المشرقي الذي يكن له أسمى أشكال الود والتقدير.
وأخيرا الفصل الرابع من الكتاب، وهو قراءة في تجربة الناقد رشيد يحياوي الذي يمثل كتابه «القاهرة الأخرى» صورة للهوى المصري في الثمانينيات؛ كتابه عبارة عن يوميات صاغها الكاتب بلغة، وإن كانت لغة واقعية محضة، إلا إنها تنبض بمشاعر إنسانية فياضة وجياشة ومتناقضة في أحيان كثيرة تتقلب ما بين الرجاء والأمل، والتمني والترقب، والحسرة والخوف، والقلق والانتظار، مشاعر إنسانية متضاربة تصور لنا قلق الذات إزاء غربة الوطن والبعد عن الأهل، في تجربة طلابية تأملية ما بين عامي 1984 و1986 كانت عنوانا قصيرا لكتابة الذات في المدينة، وكتابة المدينة في الذات كما قال الروائي محمد عز الدين التازي.

هذا كتاب من كتب الناقد محمد مشبال خصّه لتسليط مزيد من الضوء على هذه العلاقة الفريدة، وهذه الصداقة الوطيدة بين الشعبين المصري والمغربي، من خلال التركيز على صورة الآخر في المخيال المغربي، والآليات التي أدت إلى التأثر به أدبا وفنا وذوقا بوصفه أحد المثقفين المغاربة الذين عايشوا المجتمع المصري ودرسوا في الجامعة المصرية، على يد أساتذتها الأجلاء، أمثال نصر حامد أبو زيد، ومصطفى ناصف، وشكري عياد، وسيد بحراوي.

في النهاية هذا كتاب في المحبة وفي الهوى الذي أصاب المغاربة منذ القدم، وعبّروا عنه بالمحاكاة والتقليد تارة، والتنافس تارة أخرى وهذا شائع بين الأجيال السابقة، لكن نحن أبناء هذا الجيل، جيل الحداثة وما بعد الحداثة – خلافا لآبائنا وأجدادنا- لا يسعنا التفكير في روابط هذا الهوى والبحث عن جذوره، وتجديد الاعتراف به، ولعل هذا ما يطرح مزيدا من الأسئلة المتعلقة بمستقبل هذا الهوى المشرقي الذي نسج خيال المغاربة عبر التاريخ.

 كاتب من المغرب(*)

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...