القابلية للعبودية والاستعباد

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

الدكتور شنفار عبدالله(*)

 

 

منذ زمن بعيد، وحتى وقت قريب؛ وإلى يومنا هذا؛ لم تكن العبودية والاستعباد تفرض على أحدٍ؛ بل تتم بمحض إرادة وطيب خاطر الإنسان؛ ولا يفرضها عليه أي أحد ولا تتم بالاكراه؛ بل حب الناس في الاستعباد والقابلية للعبودية والسخرة وخدمة الآخر؛ وبدون مقابل.

وفي هذا الصدد يمكن استحضار إحدى الطرائف؛ حيث يحكى أن عبداً قد فاز على خصمه في مبارزة. وكانت المكافأة مقابل حريته مع حصوله على مبلغ كبير من المال.
هذا؛ وعندما سألوه: ماذا سيفعل بكل هذا المال؟
أجابهم بأنه: سيشتري سيداً يعامله برفق..”

ففي ظل محدودية القابلية للعبودية والاستعباد والرِّف؛ وفي ظل محدودية القدرات الفكرية؛ ومختلف صور العجز المتعدد الأبعاد؛ يتعذر السفر بعيدًا إلى فضاءات مفتوحة لصنع المعجزات.
“مالك بن نبي رحمه الله؛ المفكر الجزائري العظيم؛ حاول أن ينزل تحت السردية المتداولة في زمانه وإلى اليوم؛ من تجاوز مستوى: معادلة (استعمار وتحرر) إلى مستوى العمق: (الاستعمار ومدى القابلية للاستعمار).
وهي قفزة نوعية في التفكير لم تصل للكثير من حواراتنا حتى اليوم.

فالتقابل ليس بين مُستعمِر ومُستعمَر؛ ولكن بين المستعمِر ومجتمعات بها شروط القابلية للاستعمار.
القابلية للاستعمار؛ هي حالة عقلية وسلوك؛ تطبع مجتمع ما؛ فتصيب نظام أفكاره وعلاقاته ببعضه البعض، ومن ثمة مشاريعه، فتولد إنسان الانتظار.
وإنسان الانتظار هو إنسان يبحث عن الخوارق والمعجزات التي ستمنحه ما يتمنى.
وتخلق نوعًا من البشر لا يظن أنه هو المسؤول عن أوضاعه؛ وعن بيته؛ وعن شارعه؛ وعن حيه.
إنسان الانتظار غير قادر على أن يحاسب نفسه على دائرة الممكن الذي تركه؛ وهو يعزو انتظاره بأن الخارج لم؛ ولن، ولا؛ يسمح له بالفعل.
إنسان الانتظار؛ هو طفولي النزعة بطبعه؛ فإن جاءته الثروة؛ كدس المال في عالم الأشياء التافهة ومظاهر ومصاريف الأُبَّهة؛ وكل ما يستطيع شراءه دون منطق ضابط لتصرفاته السفيهة هاته؛ سوى عنصر المظاهر.
إنسان الاتكالية والانتظار؛ يعتبر الجُهد العلمي ترف يمكن أن يشتري به المنتج؛ ولا يعنيه العلم الذي يقف خلفه.

حين يولد إنسان الاتكالية، ويتكون وينشأ مجتمع الانتظار، وقد يفلح المجتمع في إخراج المستعمر؛ ولكنه يعجز عن الدفاع على ذاته أو حمايتها. وغالبًا ما يرجع طالبًا العون من المستعمر الذي طرده الأجداد بالأمس؛ بل ويدفع المال من أجل عودته.
حين يولد مجتمع الاتكالية والانتظارية؛ فإن أزمته تكون عميقة وثورته وغضبه؛ إن لم يتجه لنقطة العمق التي أنشأت التخلف وحالة الانتظار في البداية؛ فجهده يذهب هباءً ومسعاه عبثًا وبوار.

مجتمع الانتظار فيه قوى متناقضة كأي مجتمع، وقوى تشير لمكمن الداء فيه؛ وقوى تعيده لنقطة الانتظار وتوجهه للتذمر من الظروف المحيطة والخارج والوقوف عند حائط المبكى.
فمهمة القوى الحية في بلد خضع للاستعمار؛ هي توجيه الجهد إلى مكمن الداء؛ وهو القابلية للاستعمار حتى لا نخرج المستعمر من النافذة ثم نعيده معززًا مكرمًا من الباب.

إن استئصال الوعي الزائف؛ هو المقدمة الصحيحة لإنشاء المجتمعات الجديدة الفاعلة.
لست أدري هل سنتمكن من ولوجها، أم قدرنا أن نبقى دائمًا في منطقة اشتباك خارج الصيرورة التاريخية؟
لكن ما معنى النصر بالمفهوم الحضاري؟
يذهب الاستعمار ويسقط الطغاة. بعض الأمم ذخيرتها المعرفية والأخلاقية تكفي لمواجهة ما يعقب الانتصار. ولكن بعضها تبدأ مشاكلها الحقيقية عند تلك النقطة!
تجارب التحرر من سيطرة الاستعمار كثيرة؛ ولكن تجارب إقامة العدل والسلام والتنمية والتقدم؛ هي الأقل والمحك والمعيار.
تلك إحدى التحديات، فمن يصل ولم يؤمن بالحرية والمشاركة؛ لن يهئ المجتمع ولو بعد حين.
وتبقى طبيعة المشاركة مرهونة بمعادلة ذلك البلد.

فكرة المتغلب والمنتصر حضاريًا؛ تنشأ معه علاقة فصام غريبة ومركب عجيب من التناقضات يقوم على متلازمة: “أنا لا بحبو، ولا أقدر على بعده”.
فحينما يكون منسوب المهانة الحضارية عالي جدًا؛ تتولد عنه رغبة التشفي في الخصوم بنسبة أعلى بكثير من معالجة قضايا المستقبل وبناء غد مأمول.(**)
فالهزيمة الحضارية تختلف بكثير عن الهزيمة العسكرية. الهزيمة الحضارية تورث القابلية للاستعمار. وهي في جوهرها معادلة مركبة من الحب والتعلق والحاجة والكراهية.
فمن جهة تكال للمستعمر كل أنواع السباب والشتائم؛ ومن جهة أخرى تكون الحاجة إليه والتعلق به في كل أشكال التكنولوجيا والمنتجات الغذائية والعمران والملبس… وغيرها.

فإذا حضر لُعِن وإن غاب طُلب.
علاقة الكراهية والحب والتعلق والحاجة؛ علاقة غريبة تولد فصاماً في الشخصية وفي الخطاب وفي السلوك ومختلف التصرفات؛
فقد يحارب المستعمر في أرض ما؛ وفي زمان ما؛ وإن ضاقت به الأرض؛ فرَّ لديارهم يطلب اللجوء.
هذا العجز المركب والمتعدد الأبعاد؛ يولد غضبًا عارمًا؛ ولكن لا يتم تصريفه وتنزيله في مسالك التكنولوجيا والمنتجات والسلع والغذاء والعمران؛ وإعمال جهد وفعل لإيجاد الحلول للمشاكل والقضايا الحضارية المطروحة؛ ولكن يوجه لمزيد من التذمر والاستياء وتدمير الذات.. (auto-destruction).

نحن في منطقة شمال افريقيا؛ نبحث عن شيء من العقل والتعقل والمنطق؛ واحتمال إيجادهما؛ كاحتمال أن تجد (فيروز) (شادي).(*)
ففي الوقت الذي نأمل فيه زيادة الكتلة العاقلة المتزنة؛ نجد أن ظاهرة الزَّرْبَه والخفة لم تختفِ بعد؛ حيث بقيت لصيقة بمنحنى التوزيع الطبيعي والجغرافي لبعض الأنظمة.
والعجيب في الأمر أن الطفل (شادي) لم يكبر وظل صغيرًا يلعب بالثلج؛ وقد يكون العقل هو الآخر قد تحجر؛ وبالتالي توقف عن النمو؛ ولعل أنه أصبح غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ؛ (رحم الله أبو العلاء المعري.)
______
_ (*)– كاتب وراصد ومفكر مغربي.
_ (**)– محاضرات فكر النهضة للدكتور محمد جاسم سلطان.
_ (*) -أغنية أنا وشادي؛ هي إحدى الأغاني الجميلة للمطربة اللبنانية فيروز؛ كتبت العام 1968 وكان حينها قد مرت 20 سنة على النكبة. حيث تمت كتابة هذه الأغنية كتحية مهداة إلى الشعب الفلسطيني.
أغنية تسرد لنا فيها قصة الطفل الحالم (شادي) الذي قتل بسبب مناوشات بين عدد من الأطراف المتنازعة. هذه الحادثة المفجعة ترويها لنا بكامل تفاصيلها، من خلال حركة الزمان، لقصة طفولية، بشكل درامي، وقمة في الحكي.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...