عزالدين نجيب… الحرية والمقاومة والبعث

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*إبراهيم عبد المجيد

 

 

هناك أشخاص تقابلهم في الحياة فتشعر بأن كنزا انفتح على الأمل. في سنوات شبابي الأولى قبل أن انتقل إلى القاهرة في أواسط السبعينيات من القرن الماضي عرفت عز الدين نجيب، من خلال ما ينشره من أعمال قصصية كأحد المجددين من كتاب الستينيات. حين انتقلت إلى القاهرة التقيت به كثيرا، وزرت معارضه في القاهرة، بل كثيرا ما زرته في مرسمه في المسافر خانة التي احترقت في ما بعد بما فيها من مراسم للفنانين ومنها مرسمه.

رحلة عز الدين مع الفن والوطن طويلة، أطال الله في عمره، ويمكن تلخيصها في أن الفن لا يعزلك عما حولك، بل عليك أن تتيح لكل الناس الحرية، وهذا ما كان يفعله في كل منصب ثقافي أو فني تولاه، بل قد تدفع ثمن هذا من حريتك حين تطويك سجون الظلم، وحدث معه ذلك أيضا أكثر من مرة. لقد خرج من كل المرات التي تم القبض عليه فيها، وابتسامته تتسع للدنيا وخاب أمل من اقتادوه إلى ما بين الجدران، فالحرية والمقاومة والبعث هي ثلاثية حياته.

عز الدين نجيب من مواليد الثلاثين من إبريل/نيسان عام 1940 في محافظة الشرقية وحصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة عام 1962 ثم الدبلوم في قسم التصوير. عيد ميلاد عز الدين نجيب في الثلاثين من شهر إبريل حرك فيّ رغبة بحجم الكون في أن أتقدم له بشاهد بسيط من المحبة، كم تمنيت أن تكون كتابا، فمهما دونا أقوياء فقد كانت قوتنا من قوته، وما يكتبه أو يرسمه أو يباشره من عمل أو يعانيه بين الجدران.

المناصب التي تولاها في حياته في وزارة الثقافة مشرفا فنيا، أو مديرا، عديدة مثل قصر ثقافة الأنفوشي في الإسكندرية وقصر ثقافة بور سعيد ومديرا لقصر ثقافة كفر الشيخ 1966-1968 ومديرا لقصر ثقافة المسافر خانة ما بين 1969- 1976 وغيرها كثير لا يكفيها المقال، وكلها ساهم في تطويرها وجعلها في مقدمة المشهد الفني، كما فعل حين صار مشرفا عاما على مراكز الفن التشكيلي «مركز الجرافيك ـ مركز النحت ـ مركز الخزف في الفسطاط «. معارضه الفنية زادت عن العشرين معرضا، ومعارضه خارج مصر كثيرة مثل معارضه في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمجر واليونان وروسيا والكويت والإمارات وتونس وبغداد وسوريا والسعودية وغيرها، مساهما أساسيا أو ضيف شرف. نال العديد من التكريمات في المعارض في مصر وخارجها، والأمر نفسه في الجوائز مصرية ودولية.

الطبيعة ملهم أساس له يقول عنها «كانت الطبيعة رافدا أساسيا لمراحل تجربتي الفنية، عبر مواقع مصر النائية والمعزولة جغرافيا، على امتداد حقب تاريخية، مثل أسوان والواحات وسيناء وسيوة والمناطق الصحراوية والساحلية في مختلف المناطق، التي تختزن أبعادا حضارية، غير أن المكان بخصائصه الطبيعية لا يكفي لإشباع الرؤية التعبيرية لأعمالي، إنما تكتمل هذه الرؤية بتفاعل المكان مع الشحنة التعبيرية المحركة لإبداعي، وتجمع بين الحس الخيالي والأسطوري، والمنظور الفكري، الذي يتضمن وعياً بالتاريخ وبحركة الواقع، ويتواصل مع جذور الهوية الحضارية وروح العصر في آن واحد، محققاً بعدا رمزيا ودرامياً معاً، وغالبا ما تتم الترجمة الجمالية لهذه الأبعاد على سطح اللوحة بعضوية الطبيعة والجمادات، أي بإحالتها إلى كائنات عضوية حية، تتحرك وتتنفس وتتواصل مع بصيرة المتلقي للعمل الفني قبل بصره، بصورة أقرب إلى التجليات الصوفية أو الحلم».

لم يكتفِ عز الدين نجيب بالفن التشكيلي فقط، لكن كما قلت كان سباقا مع جيل الستينيات في القصة والرواية، كما كتب الكثير في الفن تاريخا وواقعا وعن الفنانين والمثقفين وقضايا الفن والثقافة، أي مارس كل ما يجعله حالة عظيمة لمثقف لا يريد أن ينعزل في فن واحد، رغم أنه قدم فيه كل جمال. أراد مبكرا أن يحتوي العالم رسما وكتابة.

من دراساته في الفن «فجر التصوير المصري الحديث» و»فنانون وشهداء» و»الإبداع والثورة» عن الفنان حامد عويس و»فنان وعصر» عن الفنان محمود بقشيش و»موسوعة الفنون التشكيلية» في ثلاثة أجزاء و»جميل شفيق بين الحلم والأسطورة» و»الأنامل الذهبية» عن الحرف اليدوية في مصر تاريخا وروحا و»النار والرماد في الحركة التشكيلية المصرية» وغيرها كثير.

من أعماله الأدبية رواية «المسافر خانة» ــ ومجموعات قصصية مثل «المثلث الفيروزي» و»عيش وملح «، أما عن خبراته وسيرته فيكفي ان تقرأ «الصامتون تجارب في الثقافة والديمقراطية في الريف المصري». يقول عن كتابه «النار والرماد في الحركة التشكيلية المصرية»: «ثمة مشاعل قليلة من الماضي لا تزال تحتفظ بوهجها وتضيء حياتنا، وأخرى كثيرة انطفأت وباتت رماداً لا يجدي فيها النفخ لتشتعل من جديد في ظل المتغيرات الكاسحة، وربما يجد القارئ أن الكتاب يتركه في نهاية صفحاته، واقفًا وسط الساحة التشكيليّة المرتبكة حائرا أمام أزمة مستعصية، دون أن أحاول رسم صورة ورديّة للمستقبل، لكن حسبي أنني حاولت قدر استطاعتي تشخيص هذه الأزمة وتحليل أسبابها، ووصف الحلول الموضوعيّة للخروج منها إلى مستقبل أفضل».

من أهم ما صدر له كتاب عن تجربته فى سجن طرة، وفيه يسرد ذكرياته مع ثلاثين من الكتاب والمثقفين، الذين اعتقلوا معه، والكتاب مصحوب بمجموعة رسوم خطية وبورتريهات لعدد من النزلاء قام بتنفيذها على أوراق مهربة داخل السجن، وصدر الكتاب عام 2012 وعنوانه «رسوم الزنزانة» يقول عنه: «هي صفحة واحدة من سفر عظيم لسجن المثقفين المصريين والعصف بهم على امتداد أكثر من نصف القرن الماضي. وهو سفر يحتوي على فصول أعمق وأغنى مما يضمه كتابي، إنه سفر مليء بالعذابات التي تليق بالأنبياء وبالملاحم البطولية التي تبلغ حد الأساطير.. لكن حسبي أني انتشلت هذه الصفحات من غبار النسيان بعد مرور 36 عاما على حدوث وقائعها، معتمدا على الذاكرة التي لا بد من أن تكون أسقطت الكثير، في ما عدا هذه الرسوم بالحبر الأسود التي أنجزتها في الزنزانة رقم 20 وفي كل ما حولها في عنبر التأديب بليمان طرة. وأكاد أشعر بأنني رسمتها بالأمس. وقد أضحت وجوه أبطالها الذين اختطفهم الموت شهادات حية على شرفهم وعطائهم لوطنهم، وعلى أنهم لا يزالون أحياء في ضمائر الشرفاء والمخلصين من أمثالهم».

في كل كتاباته شاهد حي على أحوال المثقفين والسلطة، لا يغالي ويعتبر كل ما جرى له ولغيره ثمنا لا بد من أن يدفعه الأوفياء للوطن وللحرية والديمقراطية. لقد أقيم له معرض استيعادي مؤخرا في «دار ضي» منعني المرض عن حضوره، وأحب أن أختم حديثي بشيء مما قاله الكاتب الكبير محمد سلماوي عنه:

«يقول الفنان فى تقديمه للمعرض: «لدى استعراضي للوحاتي بمراحلها الزمنية المختلفة، وجدت أن الخيط الرفيع الذي يربط بينها جميعا – رغم اختلاف موضوعاتها وتعبيراتها – هو ثلاثية الحرية والمقاومة والبعث، وهذه المتلازمة هي الأصل في جوهر الطبيعة والوجود». عشرات الأعمال تطالعك على مدى القاعات الفسيحة بالألوان الزيتية أو المائية أو الجواش أو الباستيل، بالإضافة لعدد من الاسكتشات الفنية ذات التقنية العالية التي لا يملكها إلا فنان مقتدر. وقد توقفت طويلا أمام بعضها الذي طالت أطرافه ألسنة النيران وقت احترق مرسم الفنان في المسافرخانة، وكانت ثلاثية «الحرية والمقاومة والبعث» هي بالفعل عنوان مشواره فى الحياة كما في الفن، فهو الفنان الباحث دوما عن الحرية كالنجم الثاقب وسط الظلمات، حتى خلال سنواته في السجن، والملتزم دوما بمقاومة القهر والاستبداد على المستويين السياسي والثقافي على حد سواء، ثم الساعي دوما إلى البعث من خلال إبداعاته الفنية الثرية المجمعة لأول مرة في هذا المعرض الذي أرى أنه من أهم معارض الموسم الحالي، إن لم يكن أهمها جميعا».

*روائي مصري

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...