«أمنية القرد»

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*حيدر المحسن

 

 

هي أكثر قصص «المملكة السوداء» إمتاعا، وأوسعها انفتاحا على بقية الأمم، ولو شئنا ترجمة قصة واحدة من السرد العراقي إلى جميع اللغات لوقع الاختيار مباشرة على هذه الأمنية «السخيفة التي لا تُطاق»، مثلما يقول الغجري صاحب القرد، التي توحد جميع بني البشر، وتشملهم كذلك مع البهائم والسباع والطير.
حيوات عديدة تحفل بها هذه القصة، مع طقوس حرمان كثيرة، وكان أداء القرد باهرا وهو يقلد ما تقوم به زوجة السلطان، لكن هذا المشهد منقول من أفعال الغجر الذين يدورون في المدن للكدية والسؤال، وقام محمد خضير بتوظيفه في متن القصة، وأعطاها بعدا حكائيا وأخلاقيا وأسطوريا.

الأهم في هذا النص، في رأيي، هو الحوار، فهو قطعة فنية يمكن تقديمها أنموذجا للتحادث بين الشخصيات القصصية، وهذا يُعد من أصعب التقنيات الفنية، والتحدي الحقيقي الذي يواجه القاص، ويحتاج النبوغ فيه إلى توفر حاسة أدعوها بحاسة الحوار، والكاتب الذي يمتلكها بغنى وإجادة يقدم نصا عظيما مهما كان معناه ضئيلا أو قليلا أو تافها.

إليزابيث بوين قاصة وروائية إنكليزية حددت الشرط الأهم في الحوار في القصة: «يجب أن يبدو الحوار واقعيا، دون أن يكون كذلك». لا يمكن شرح هذا الكلام، بل تصوره، لكنه التعريف الشامل لفن الكلام في القصص. يمكننا التفلسف قليلا والقول إنه عطايا وجه الكائن في واقعه النصي، وهو مكتوب بفنية تتعمد إظهاره بشكل غير فني، ولهذا اختلف كلام الممثل على خشبة المسرح عن حديث الشخصية في القصة، فالأول يحتاج إلى فضاء مسرحي يراقب فيه النظارة الممثل الذي يرتدي قناعا يخفي ملامح وجهه، بينما يتحقق الحوار القصصي على الورق، يلاحظ القارئ فيه وجه الشخصية بكل ما فيه من انفعالات وغضب أو دماثة وغير ذلك. هنالك وصف طريف للحوار يقدمه لنا السيناريست الأمريكي إلمور ليونارد: «أفترض دائما أن القارئ مَلول ونافد الصبر، ومع ذلك فهو لا يستطيع تجاوز قطعة حوارية»، ومعنى هذا أن الحوار يقع في بؤرة عين القارئ، وهنا تقع أهميته، وبالنسبة إلى علم النقد، وبما أن الحوار هو جزء من القصة أو الرواية، فيمكننا القول إنه المعيار السهل لقياس جودة القصة، فما عليك سوى أن تفتح الكتاب على أي صفحة فيها حوار، وتختبر جِدة قلم الكاتب مباشرة. إن هندسة الحوار وليدةُ فكر سام متمعن، ولا يتمكن كل من كتب «كانَ وكنتُ» و»قالَ وقلتُ» التصدي لهذه المهمة بنجاح. كان الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير يرى أن للنثر قوانين في النغم مثل الشعر، أي أن ما يحكم بناء الجملة هو الموسيقى، التي تشدها وتشكلها وتصيرها أخيرا بالصورة التي يراها القارئ مطبوعة أمامه على الورق. إن قياس جودة الحوار في القصة والرواية يتبع ضبط الكاتب لسلمه الموسيقي أثناء الكتابة، وأي خلل في هذا يؤدي إلى تنافر وعدم انسجام ونشاز يبين وقعه في سمع القارئ، تماما مثلما يؤدي عازف موسيقاه بواسطة آلة غير مضبوطة الأوتار.

كان الصديق القاص محمود عبد الوهاب، يحل ضيفا عليّ قادما من مدينة البصرة، وكنا نقضي أكثر الوقت نقرأ صفحات لا على التعيين من فن الأدب. أقرأ له سطرين وثلاثة سطور، تعقبها فترة صمت نختبر فيها معا موسيقى الألفاظ التي مرّت، ونستحسن أو نعين مواقع الزلل في النص. لم يكن الأمر اختيالا أدبيا حسب، لكنها أيضا إحدى طرق المحافظة على النوع، فمن أجل أن تحوز تصديق القارئ وإعجابه عليك أن «تُدوْزن» أوتار آلتك الموسيقية أولا.

يمثل الحوار القصصي كذلك الآثار الكامنة والمختزلة لخطوط القوة في حضارة الأمة، صار الإنسان سيد الحيوانات بفضل امتلاكه اللغة، وهذه تعطيه القدرة على التفكير وصياغة أشعار ومعتقدات ومناظرات، وغير ذلك، والحوار هو لغة الإنسان مع الإنسان في بيت الحضارة، كلما كان صافيا وعذبا علا مقام البيت، وارتفعت مكانته وعلا شأنه بين بقية البيوت في الحي. نازك الملائكة الشاعرة المعروفة، أخذت عائلتها اللقب من تسمية أطلقها أهل الحارة على بيت أهلها، إذ لا صوت يُسمع من ساكنيه، وكأنهم في جمال الصوت والعبارة يشبهون الملائكة.

فائدة أخرى للحوار هي أنه يثبت في الذاكرة ويدل على العمل أكثر من المشاهد الوصفية والسردية، ويحتاج هذا إلى موهبة كبيرة لأجل سبكه في جملة قصيرة تخلد صاحبها، والمثال الأسهل والأقرب هو خاتمة رواية «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، فقد تحول القرَد البشري إلى علامة مضيئة في فن الرواية لا يمحوها الزمن. ولدينا شاهد آخر في رواية الحب في زمن الكوليرا»، وهو ما تقوله (فيرمينا داثا) لعاشقها (فلورنتينو أريثا) بعد أن طلب يدها: «أوافقُ على الزواج منك إن أنت وعدتني بألا تجبرني على أكل الباذنجان».

بطلتا قصة «أمنية القرد» فتاتان تعملان في معمل للخياطة، تستيقظان في يوم عطلتهما الأسبوعي، الجمعة، وكانت إحداهما تلف جسدها بغطاء فراش أصفر ذي مربعات سود. قالت الفتاة الأخرى لها: – إنه صباح دافئ، وأنت تتغطين بغطاء كريه. يا له من صباح لذيذ! الأصفر والأسود لونا ثياب المساجين، فالفتاة إذن كانت سجينة في بيتها، وفي يوم راحتها، ومن هذه النقطة المركزية يقوم محمد خضير بإدارة فرجاره حولها راسما دائرة نصه. تغادر الفتاة الأولى إلى السوق، تاركة صديقتها سجينة في الشقة التي تسكنانها معا، وسبب بقائها أن رجليها تؤلمانها من الكد طوال أسبوع عمل. تتملى السجينة الظلال الكثيفة في الغرفة، وتلجأ إلى النافذة، ويصادف أن يمر غجري يقود قردا بسلسلة. يحيي الفتاة السجينة، ويقول لها:
– هل تطلب الأميرة شيئا من القرد ليفعله؟
ينادي الغجري قردَه باسمه: (أبو اللوز)، ويطلب منه أن يقلد مشية الرجل المَدِين، ثم السكران، و»قال الغجري للقرد أخيرا، وهو يرفع عينيه إلى الشرفة:
– (والآن أبو اللوز)، كيف تنام زوجة السلطان؟»

أترك للقارئ متعة فحص الأسطر العديدة التي يصف فيها القاص ما يجري بين الحيوان والفتاة والغجري، التي هي كل جسد القصة إن كان لها جسد، وأعود إلى دراسة الحوار بين الفتاتين، لأنه الأهم في هذا المقال، كما أنه الثياب التي تجمل كائن القصة، وتعطيه مظهرا لائقا في الحضارة، وهو العتبة كذلك التي يبدأ منها نفاذ القارئ إلى النص. تهبط الفتاة الأولى إلى الحمام كي تستحم، وتجلس الأخرى عند أعلى السلم، ويجيئها صوت صديقتها من الأسفل، كأنما من وراء الظلام:
– مريم هادي. أنت محطمة.
وقالت الفتاة الجالسة في أعلى السلم:
– إن رجليّ تعبتان وتؤلمانني. قالت فتاة الحمام:
– بإمكانك أن ترتاحي أياما وتتركي العمل خلف الماكنة. وسمعت الفتاة في الأعلى صوت المياه المنسكبة في الأسفل، ثم صدر صوت من هناك:
– حدثيني بصوت عال. إن السماء صحو كما أراها من نافذة الحمام. هل ستخرجين معي إلى السوق؟
– لا.. أي سوق؟
– سوق الجمعة. ألا تعلمين أنه يوجد مثل هذا السوق؟ – أبدا.. أهو السوق الذي تشترين منه هذه الأشياء القديمة؟ إنها كثيرة، ولم تعد في الغرفة مساحة كافية للتنقل، وأنا أمر بصعوبة بينها خشية أن يسقط شيء منها ويتهشم، فهي أشياء قديمة وليست ذات فائدة. ثم تقول فتاة الحمام:
– من حقي في يوم أتسلى فيه وأغادر مكاني وأتحرك وأنام كثيرا دون إزعاج. يرعبني أن أكون على الدوام وسط عالم ضاج بالمكائن. طاق… طاق… ضجيج مكائن العالم كله…

لا يمكن نقل الحوار كاملا، واجتزاؤه يقلل كثيرا من صدقه وجودته، وهو يتضمن كذلك ثروة للمحللين الاجتماعيين والنفسيين، وأنا سعيد بتركها لهم، وأختتم هذا الفصل بما تقوله هذه الفتاة:

– هل يظهر كل شيء حولي حقيقيا؟ إني أتساءل ماذا سيحدث لي بالضبط. ولكنه سيحدث.. آه.. أجل سيحدث هذا بالتأكيد. لا بد من أن يحدث مثل هذا بالضبط. لا بد من ذلك. يصف بعض النقاد صنع الحوار بالعمل المختبري، لأنه يتطلب من المؤلف المفاضلة بين مجموعة من الحوارات، وهذه تشبه درجات مختلفة من اللون الرمادي، لا تستطيع غير العين الخبيرة التفريق بينها، ويقود هذا العمل الحس أكثر من عمل الذهن، ويمكننا القول إن القارئ يواجه في منطقة الحوار موهبة الكاتب وجها لوجه. السرود عامة بين الكتاب، تقريبا، وكذلك الأوصاف والحبكة والموضوع أو الثيمة، وفي المركز من هذه الدوائر تقع نقطة الحوار، فهي مرمى الهدف إذن، إن طاش عنها السهم ضاع الجهد كله، وصار من أفعال العبث.

صدرت مجموعة «المملكة السوداء» التي تضم هذه القصة لأول مرة عام 1972، ونُشرت ثلاث مرات بعد ذلك، وهنالك طبعة صوتية منها، وطبعة خامسة منتحلة لا يعرف المؤلف عنها شيئا.

*كاتب عراقي

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...