المنهج النبوي في معالجة الأزمات الاقتصادية.. دروس وعبر

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*د. علي الصلابي

 

 

 

أدت هجرة المسلمين إلى المدينة، إلى زيادة الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق الدولة الناشئة، وشرع القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم يحل هذه الأزمة بطرق عديدة، وأساليب متنوعة، فكان نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء الصفة التابعة للمسجد النبوي؛ لاستيعاب أكبر عدد ممكن من فقراء المهاجرين، واهتم صلى الله عليه وسلم بدراسة الأوضاع الاقتصادية في المدينة؛ فرأى: أن القوة الاقتصادية بيد اليهود، وأنهم يملكون السوق التجارية في المدينة، وأموالها، ويتحكمون في الأسعار والسلع، ويحتكرونها، ويستغلون حاجة الناس، فكان لابد من بناء سوق للمسلمين؛ لينافسوا اليهود على مصادر الثروة، والاقتصاد في المدينة، وتظهر فيها آداب الإسلام، وأخلاقه الرفيعة في عالم التجارة، فحدد صلى الله عليه وسلم مكانا للسوق في غرب المسجد النبوي، وخطه برجله، وقال “هذا سوقكم، فلا ينتقصن، ولا يضربن عليه خراج” [ابن ماجه (2233)] .

وقد قامت السوق في عهده صلى الله عليه وسلم رحبة واسعة، وقد حظيت السوق باهتمام النبي صلى الله عليه وسلم ورعايته، فتعهدها بالإشراف والمراقبة، ووضع لها ضوابط، وسن لها آدابا، وطهره من كثير من بيوع الجاهلية المشتملة على الغبن والغرر والغش والخداع، كما عني صلى الله عليه وسلم بحريتها، وإتاحة الفرص المتكافئة فيها للبيع والشراء، بين الجميع على السواء. (الدرويش، 1989، ص36)

وقد أرسى صلى الله عليه وسلم آدابا كثيرة، وحرمات عديدة لسوق المدينة؛ لكي تصان ولا تنتهك، وتحفظ فلا تخدش، ولا يستهان بها، ولكي يصبح قدوة لأسواق الأمة على مر الدهور، وكر العصور، وتوالي الأزمان، فمن سيرته يمكننا أن نستنبط جملة من الآداب التي كان يأمر بها، أو ينهى عنها أثناء دخوله إلى السوق، وإشرافه عليها، ومتابعته سير المعاملات فيها، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرى منكرا إلا غيره، وأزاله، ولا معروفا إلا أقره، ورغب في المواظبة عليه، والالتزام به، مستمدا كل ذلك من توجيهات، وتعليمات ربه سبحانه، قال تعالى: “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ” [النجم: 3 – 4].

ومن هذه الآداب:
يسن في حق الداخل إلى السوق أن يذكر الله – تعالى- ابتداء، ويحمده، ويثني عليه؛ وذلك لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة، وبنى له بيتا في الجنة” [الترمذي (3428) وابن ماجه (2235) والحاكم (1/538)].
«وإنما خص السوق بالذكر؛ لأنها مكان الغفلة عن ذكر الله، والاشتغال بالتجارة، فهو في موضع سلطنة الشيطان، ومجمع جنوده، فالذكر هنا يحارب الشيطان، ويهزم جنوده؛ فمن قال ذلك فهو خليق بما ذكر من الثواب”. (المباركفوري، دت، 9/386)

يكره لمن دخل السوق أن يرفع صوته بالخصام واللجاج؛ فقد ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أنه “ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، ويغفر” [البخاري (2125)]. فالصخب مذموم بذاته، فكيف إذا كان في الأسواق؛ التي هي مجمع الناس من كل جنس؟
ينبغي المحافظة على نظافة الأسواق، والابتعاد عن تلويثها بالأقذار والأوساخ، لكي لا يؤذى المسلمون في حركة سيرهم، ولا بالروائح الكريهة، وقد حث صلى الله عليه وسلم على النظافة، وخاصة في طرقات الناس وأسواقهم، قال صلى الله عليه وسلم “اتقوا اللعانين” قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: “الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم” [مسلم (269) وأبو داود (25)].

الاحتراز في حمل السلاح لمن دخل السوق، ومعه سلاح؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال “إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا، ومعه نبل فليمسك على نصالها -أو قال: فليقبض بكفه- أن يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء” [البخاري (7075) ومسلم (2615)]. ويقاس عليه الأسلحة، مع ما فيها من خطر محقق عند أدنى ملامسة لها. (الدرويش، 1989، ص41)

الأمر بالوفاء بالعقود والعهود وسائر الالتزامات، والتحذير من نقضهما، أو الغدر فيهما، قال تعالى “وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون” [النحل: 91].
السهولة واليسر والمسامحة في البيع والشراء ونحوهما من صنوف التجارة، قال صلى الله عليه وسلم “رحم الله عبدا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا اقتضى” [البخاري (2076) والترمذي (1320) وابن ماجه (2203)].

إن المنهج الرباني، عالج المشكلة الاقتصادية عن طريق القصص القرآني، لكي يتعظ الناس، ويعتبروا بمن مضى من الأقوام، ولم يترك الجانب التشريعي التعبدي، الذي له أثر في البناء التنظيمي التربوي، فقد كان المولى -عز وجل- يرعى هذه الأمة وينقل خطاها، لكي تكون مؤهلة لحمل الأمانة، وتبليغ الرسالة، ولا فرق في وسط هذه الدولة بين الأمور الصغيرة والأمور الكبيرة لأنها كلها تعمل لرفع بنائها، ووقوفها شامخة أمام الأعاصير التي تحتمل مواجهتها، ومن هذه الشعائر التعبدية التي فرضت في السنتين الأوليين من الهجرة الزكاة وزكاة الفطر والصيام، ونلاحظ سنة التدرج في بناء المجتمع المسلم، ومراعاته لواقع الناس، والانتقال بهم نحو الأفضل دون اعتساف أو تعجيل، بل كل شيء في وقته. (الشجاع، 1999،ص168)

مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه،2004م،ص615-619.
أحكام السوق في الإسلام لأحمد الدرويش، دار عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1409 هـ 1989 م.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري، مطبعة الاعتماد، نشر محمد عبد المحسن الكتبي، تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان.
عبد الرحمن الشجاع، دراسات في عهد النبوة، دار الفكر المعاصر – صنعاء، الطبعة الأولى، 1419هـ 1999م.

*مؤرخ، فقيه، ومفكر سياسي ليبي

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...