دبلوماسية الكرة بين أردوغان والسيسي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

محمود علوش

 

 

أبهرت قطر العالم بتنظيمها المذهل حفل افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم، لكنّ الحفل لم يعكس سوى جانب من المكانة الإقليمية والدولية الصاعدة لقوةٍ سطع نجمها منذ مطلع العقد الماضي على وجه الخصوص. كان بالإمكان ملاحظة هذه المكانة بوضوح بعيداً عن العرض الاحتفالي، عندما رتّب أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، بعناية مصافحة استثنائية بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي، على هامش مشاركتهما في الحفل. كانت المصافحة مفاجئة وغير متوقعة، حتى لأكثر المتفائلين في أنقرة والقاهرة، فهي جاءت في خضم انتكاسة مُني بها أخيرا مسار المحادثات الاستكشافية بين أنقرة والقاهرة، بسبب تجدّد الخلافات بينهما في ليبيا، وبعد أيامٍ قليلة فقط من حديث أردوغان عن إمكانية إصلاح العلاقات بعد الانتخابات التركية المقرّرة منتصف العام المقبل. وهو ما بدا أنه تجميدٌ لهذا المسار في الوقت الحالي. في حين أن الظروف المباشرة والمحيطة بالمسار التركي المصري لا تزال غير ملائمة حالياً لتحقيق خرق جوهري في الأزمة، فتحت دبلوماسية الكرة آفاقاً جديدة لم تكن محسوبة.

الأزمة التركية المصرية عميقة ومرتبطة بمجموعة من القضايا المُعقدة بدءاً من وقوف البلدين على طرفي نقيض من الربيع العربي وعلاقة أنقرة بجماعة الإخوان المسلمين إلى دخولهما في تنافس إقليمي أوسع، مروراً بانخراطهما في الصراع الليبي، لكنّ الطابع الشخصي في الأزمة، والمُتمثل بالعداء الحاد بين أردوغان والسيسي، شكّل عائقاً أساسياً أمام إمكانية إنهاء القطيعة في ظل وجودهما في السلطة. بينما يُشير اللقاء السريع والمصافحة في الدوحة إلى أن الرئيسين قرّرا أخيراً تجاوز هذا العائق، فإنهما منحا بذلك دفعةً قويةً لمسار المفاوضات من جديد. ولا يزال الوصول إلى نتيجة جيدة وقريبة صعباً، وتعترضه الخلافات الأساسية بينهما في المسألة الليبية، إلا أن من شأن رفع التواصل الدبلوماسي بينهما إلى مستوى القادة أن يُشجّع الجانبين على اتخاذ قرارات جريئة بخصوص المصالحة في المستقبل. رغم أن القاهرة لم تُقابل في الفترة الماضية خطاب التودّد التركي، وتخلّي أنقرة عن علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين، بخطوات مشابهة، إلا أن مصافحة الدوحة تعكس تخلّي السيسي عن تردّده في الانفتاح الصريح على أردوغان.

بدت القاهرة شبه وحيدةٍ في الموقف إزاء أنقرة بعد تخلي الرياض وأبوظبي عن خصومتهما مع أنقرة

علاوة على الدور المهم الذي لعبه أمير قطر في ترتيب المصافحة، بدا السيسي مُدركاً أكثر من أي وقت مضى أهمية إزالة العقبة الشخصية مع أردوغان لاعتبارات عديدة. أولاً، أصبح موقف مصر في ليبيا، أخيراً، أكثر ضعفاً بفعل رهانها الخاسر على دعمها حكومة فتحي باشاغا من أجل قلب موازين القوى الليبية لصالحها، بعدما فشل في دخول العاصمة طرابلس وإطاحة حكومة عبد الحميد الدبيبة. ثانياً، يؤدّي هذا الرهان إلى تعميق العلاقة بين أنقرة وحكومة الدبيبة بشكل متزايد، وهو ما يزيد من تهميش المصالح المصرية في ليبيا. وثالثاً، ضعف موقف القاهرة في معادلة الصراع على شرق المتوسط بعد نجاح أنقرة في تكريس دورها في ليبيا، وتفكيك تكتل إقليمي بمشاركة مصر بهدف عزلها، من خلال إصلاح علاقاتها مع إسرائيل والإمارات ومساعيها الراهنة المصالحة مع تل أبيب إلى تعاونٍ في مجال الطاقة. رابعاً، بدت القاهرة شبه وحيدةٍ في الموقف إزاء أنقرة بعد تخلي الرياض وأبوظبي عن خصومتهما مع أنقرة. في ضوء ذلك، فإنّ الخيار المربح والأكثر واقعية أمام مصر هو الالتفات بشكل أكبر إلى مصالحها مع تركيا بمعزل عن تموضعها الإقليمي الذي لم يعد مؤثراً في تعزيز موقفها، كما كان الحال قبل العامين الماضيين، إذ يزيد من ضعفها بقدر أكبر مما هو الحال عليه بالنسبة لأنقرة.

لا تزال تركيا تُبدي حساسية واضحة تجاه المصالح المصرية في ليبيا

من غير المُرجّح أن تؤدّي مصافحة السيسي أردوغان إلى نتائج فورية على صعيد عكس المسار السلبي لعملية إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين، وإزالة الخلافات بشأن ليبيا، لكنّ التطورات الإقليمية والدولية المُحيطة بهذا المسار تعمل بشكل متزايد في الضغط على القاهرة لتعزيز الأرضية التي بنتها مع أنقرة منذ إطلاق المحادثات الاستكشافية قبل أكثر من عام، والبناء عليها للدخول في مفاوضات رفيعة من أجل إيجاد أرضيةٍ مشتركةٍ للتعاون في ليبيا. بالنظر إلى أنّ انخراط البلدين خلال السنوات الماضية في الاستقطاب الليبي لم يؤدّ سوى إلى تعميق الأزمة بينهما، بينما استفادت قوى أخرى من هذا الاستقطاب بقدر أكبر، فإن من المنطقي القول إن أنقرة والقاهرة ترغبان في الاستفادة من دروس الماضي، لتجنّب العودة إلى هذا الانخراط والبحث بدلاً من ذلك عن سبل لدفع مسار التسوية السياسية الليبية، بما يُحقّق مصالح الطرفين. انطلاقاً من أن لدى الجانبين مصلحة مشتركة في إنجاح المرحلة الانتقالية الراهنة، فإنّهما بحاجة أيضاً إلى التعايش في ليبيا، والنظر إلى الفوائد التي يُمكن أن يجنياها من هذا التعايش. لا تزال تركيا تُبدي حساسية واضحة تجاه المصالح المصرية في ليبيا، وتتجنّب إظهار أن دورها في هذا البلد يهدف إلى إضعاف هذه المصالح.

من شأن العلاقات الجديدة التي أقامتها تركيا مع إسرائيل والسعودية والإمارات أن تساعد في تعزيز مسار الوساطة

على الرغم من أنّ أردوغان بدا أخيراً أكثر واقعية من خلال منح وقت أطول لإجراءات بناء الثقة مع القاهرة، إلّا أنّه لا يزال يرى مصلحةً في إنهاء سريع للمقاطعة مع القاهرة، ويتطلع إلى إبرام اتفاقية معها لترسيم الحدود البحرية. لكنّ استمرار عجز الطرفين عن إيجاد قاسم مشترك لإدارة خلافاتهما في ليبيا، يُشكل عائقاً أساسياً أمام إعادة إصلاح العلاقات. أثبتت الديناميكية المرنة للسياسة التركية في ليبيا والإقليم وشرق المتوسط فعاليتها في تحويل تركيا إلى لاعب إقليمي بارز. على عكس السنوات الماضية التي ساعدت فيها مشكلات تركيا مع محيطها الإقليمي في تعزيز موقف مصر، تجد الأخيرة نفسها اليوم مع حلفاء قليلين وأقل أهمية. بالإضافة إلى دور الوساطة الذي تلعبه قطر، والذي سيحظى بحيّز أكبر في المرحلة المقبلة، فإن من شأن العلاقات الجديدة التي أقامتها تركيا مع إسرائيل والسعودية والإمارات أن تساعد في تعزيز مسار الوساطة.

يبدو الوضع الإقليمي الجديد مناسباً لتركيا أكثر من مصر، وهو ما يجعلها أقلّ حاجةً لتقديم تنازلات في ليبيا مقابل المصالحة مع القاهرة. كما أن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على نظام الطاقة العالمي منحتها تأثيراً أكبر على مشاريع التعاون المحتملة في مجال الطاقة شرقي المتوسط. يكمن الافتراض التركي في أنّ الشراكة المصرية الإماراتية في ليبيا قد انهارت، ولا تستطيع القاهرة الإصرار على مطالبها المتشدّدة إزاء تركيا في المسألة الليبية بالقوة نفسها التي كانت عليها في السابق. أخيراً، وبالنظر إلى التأثير الإيجابي الذي لعبه التقارب المصري التركي قبل عام ونصف العام في دفع المسار السياسي في ليبيا، فإن مصلحة البلدين لا تزال تكمن في التعاون الثنائي بينهما لإنجاح هذا المسار الذي يُمكن أن يؤدّي تلقائياً إلى معالجة تضارب المصالح في ليبيا. سيُساهم مثل هذا النجاح في معالجة الهواجس الأمنية المصرية من استمرار الانقسام الليبي، وسيضمن، في الوقت نفسه، مصالح تركيا في ليبيا. عكس ذلك، سيؤدّي إلى تعزيز الاستقطاب الليبي، بما يؤدي إلى إضعاف مصالح البلدين. تبرز عقبة أخرى في مسار المصالحة التركية المصرية، وتتمثل في انتخابات تركيا، إذ بدت القاهرة تميل إلى انتظار نتائج الانتخابات لتحديد حجم المكاسب والخسائر المحتملة من أي تحوّل في العلاقة مع تركيا، لكنّ كسر الجليد بين أردوغان والسيسي يُساهم في إزالة هذه العقبة، وتشجيع القاهرة على التخلي عن تردّدها.

 

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...