الزلزال وغصّة الموت في الشمال السوري

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

شفان إبراهيم

 

 

شعر سكّان الشرق الأوسط بالهزّة الأرضية التي تلت الزلزال القوي الذي ضرب المنطقة فجر يوم الاثنين 6 فبراير/ شباط 2023. وعاش سكان تركيا لحظة الخطر بدرجات أكبر وأقوى. أما قاطنو الشمال السوري، فإنهم من دفعوا ضريبة وصول الارتداد إليهم، فهي منطقة غير مهيأة لاستقبال أي درجة من الزلازل، فتركيا، بكل ما تملكه من إمكانات هائلة وبنية تحتية متماسكة ومتطورة، رفعت حالة الإنذار إلى المستوى الرابع، أي مستوى طلب المساعدات الدولية، فكيف يمكن وصف الشمال السوري، والذي لا يتجاوز وصفه سوى بالمناطق المنكوبة أصلاً، حتى قبل الزلزال؟

استقبل الشمال الشرقي لسورية ارتدادات الزلزال والهزّات بدرجاتها الدنيا، وإن سلمت من انهيار المباني، لكن المشاهدات في أثناء وصول تلك الارتدادات، إلى القامشلي وغيرها من المدن، تُذكّرنا بقول المتنبي “وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ / فَعَلَى أي جَانِبَيْكَ تَمِيلُ”، فالأهالي هربوا من منازلهم والمباني، خوفاً من سقطوها عليهم، إلى الساحات والشوارع، ومن قرص البرد والمطر والبرك المتشكّلة في الشوارع، عادوا إلى الوقوف تحت المباني. مع ذلك، لا يحتمل الخوف والقلق الذي اجتاح الشمال الشرقي أي أوجه للشبه مع الشمال الغربي لسورية، فلا يمكن كتابة وصف أو رقم دقيق للخسائر البشرية للسوريين في غرب الفرات، لأن أي رقم يُكتب يجب أن يُلحق بسؤال: هل هذا الرقم قبل أم بعد كتابته؟ نتيجة الزيادة في أعداد المفقودين والقتلى والجرحى بشكل مستمر. كما أن صرخات العالقين تحت الأنقاض في عموم الشمال السوري تتعالى، وإن كانت فرق الإنقاذ تحاول ما في وسعها، لكن الأيادي لا تتمكّن بمفردها من إزالة الحُطام أمام ضعف وقلة الآليات، وضعف التجهيزات لرفع الكتل الإسمنتية والتراب والرمل والإسمنت عن صدور العراة تحت الحجارة.

لا تنتهي المأساة بانتشال الأحياء أو الجثث من تحت الأنقاض، فالكارثة التي تعقب الزلزال هي أين سيبيتون؟ وكيف سيعيشون؟ ومتى سيُعيدون بناء منازلهم؟

رُبما من حقّ السوريين المكلومين القول وتبنّي الاعتقاد الخاطئ بأن الزلزال تحالف مع الحرب في استهداف مجتمعهم المنقسم ما بين العيش في المخيمات العشوائية والنازحة إلى مختلف المناطق في تركيا والشمال الغربي لسورية، وما بين من بقي في بيته المتصدّع والآيل للسقوط جرّاء القصف خلال عقد، ومن لم يُدمّر منزله بالقصف دمّره الزلزال. وهي إضافاتٌ جديدة لمأساة السوريين، بعد فعل البشر خلال 12 عاماً، غدرت الطبيعة بمن بقي حالما بيوم جديد. مشاهد الدمار الحالي ليست جديدة على مخيلات السوريين وعقولهم، بل إنها عادت بالذاكرة إلى الأعوام الأخيرة من حياتهم، حيث التهجير والهجرة والموت والفناء. والجديد الوحيد في الموضوع أن أنقاضاً جديدة جاورت الأنقاض القديمة فحسب، ومشهد الزلزال مألوف، وكل تداعياته أيضاً مألوفة للأهالي، فالنتيجة والأضرار متشابهة مع مشهد آثار الصواريخ والحرب وتداعياتها على المدنيين، بل إن مأساة الزلزال فاقت مأساة الحرب، فإذا كانت الأعوام الـ12 دمرت سورية، فإن الـ40 ثانية التي استغرقها الزلزال علّمت السوريين درساً جديداً في المأساة والمظلومية، وأن الطبيعة أكثر قساوة من البشر إن غضبت. جاء الزلزال على مناطق واسعة من تركيا، وحصة سورية منه في محافظات اللاذقية وحلب وإدلب وحماه وأريافها، والغريب المميت أن المجتمع الدولي يهتم بتركيا ونكبتها، ويدير الظهر لكل تلك الأنقاض والجثث والموت في عموم سورية. والإعلام السوري الرسمي لم يقصّر أيضاً، فهو لم يأت على ذكر أن عفرين وحي شيخ مقصود وإدلب متضرّرة جداً، رُبما هي سورية التي تختصّ بفئات وشرائح معينة دون سواها، أو لا علاقة للإنسانية والحياد الإعلامي بمناطق لا تسيطر عليها الحكومة السورية، وتركيا وفرق الدفاع الوطني السوري المنتشرة في غرب الفرات لم تتعامل مع عفرين ونكبة جندريس بالسوية ذاتها. كان هذا واضحاً عبر صيحات النشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والأهالي والنازحين السوريين إلى عفرين، بضعف الإمكانات والحاجة لأعداد كبيرة من الآليات الثقيلة وفرق الإنقاذ، والنداءات لمساعدة أعزاز، عفرين، حارم، شرار، جنديرس، سرمدا، سلقين، شرار، مدينة إدلب، جسر الشغور، الرمادي، دركوش، فلا تزال الأنقاض على حالها.

لا يكفي وصف المشاهد ومقاطع الفيديو والصور الواردة والمنتشرة عبر “السوشيال ميديا” بـ”الصادمة”، وغالبيتها لأحياءٍ ما زالوا تحت الأنقاض منذ وقوع الزلزال، أو لأحياء أزيلت بالكامل، وتدوينات النعي لم تعد لأسماء أو لأشخاص نعرفهم، بل لأسر وعوائل كاملة لم يعد لها أثر. وتتوالى النداءات بعدم عودة الأهالي إلى منازلهم، وأي عودة تلك وغالبية الأبنية تتداعى للسقوط. حالة الإهمال/ التفضيل بينهم، وكأنها تحمل رسالة تجبر السوريين على التكيف تحت الأنقاض وقساوة رؤية الأبناء يموتون أمام أعين آبائهم، أو على من بقوا على قيد الحياة تحت ركام المنازل أن يعيشوا عزلتهم الاجتماعية، وليس لهم من معيل أو أمل سوى الصبر على مُصابهم، وبقائهم في زنزانة ضيقة خلال هذه الفترة.

السوريون محاصرون في كل مكان، ومطلوبون لكل شيء، للتجنيد، للحرب، للموت والأكثر فجاعة أنهم لا يموتون ميتة طبيعية

لا تنتهي المأساة بانتشال الأحياء أو الجثث من تحت الأنقاض، فالكارثة التي تعقب الزلزال هي أين سيبيتون؟ وكيف سيعيشون؟ ومتى سيُعيدون بناء منازلهم؟ وكيف سيثبتون أنسابهم وثبوتياتهم؟ عدا عن أن اللحظات التي تعقب الزلزال تفتك بالأرواح التي لم يصل إليها غدر الزلزال نفسه من حرائق وانهيار مبانٍ بقيت صامدة. هل يمكن للسورين أو غيرهم الهرب من الزلزال؟ أكثر سؤال تتداوله الألسن، لكن المؤسف أن الجواب الأصحّ أنهم لا يستطيعون فعل ذلك، فرغم كل التقدّم والتكنولوجيا التي وصلت إليها البشرية لا يزال الإنسان عاجزاً أمام جبروت الطبيعة، ولا يمكن معرفة ما إذا كان الزلزال سيحدُث مجدّداً أم لا.

فضح الزلزال المسؤولين والتّجار ومتعهدي البناء، خصوصاً في الأحياء العشوائية، والتلاعب بنسب مواد البناء، حيث شهدت مبان تشقّقات كبيرة أو هبوطاً جزئياً أو كلياً، في مناطق بعيدة عن الزلزال، نتيجة قلة المواد المستخدمة من الإسمنت والحديد وغيرها في البناء.

السوريون محاصرون في كلّ مكان، ومطلوبون لكلّ شيء، للتجنيد، للحرب، للموت، والأكثر فجاعة أنّهم لا يموتون ميتة طبيعية، ما عمّق جراحهم المثخنة بأوجاع الحرب، فاقدين أي أملٍ ممزوجٍ بنصر قريب أو خلاص وشيك. إنهم فريسة لكل شيء، للحرب وتجريب أنواع الأسلحة عليهم، لـ”مناقصة” إعادة الإعمار، لتوافق الروس والأميركيين على تقاسم النفوذ في بلادهم، واتفاق الدول مع روسيا على تمديد تفويض إدخال المساعدات الإنسانية وغيرها الكثير، لذا لا خجل ولا استحياء بالقول إن السوريين يعيشون هول الزلزال، ويفكّرون بمصيبة ما بعده، فمع الانهيار الاقتصادي، والبنية التحتية المدمّرة، والخدمات المفقودة، زار الزلزال منازلهم ليقضي على خيط الأمل الأخير الذي أقنعوا أنفسهم بالتعلّق به، وأمام صيحات الأمهات على أبنائهن، وبحث الآباء عن أبنائهم تصرُخ الإنسانية أين المفرّ للسوريين؟


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...