تجسيد المشاعر في أقاصيص «كان ثمة عتبة»

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*موسى إبراهيم أبو رياش

 

 

«كان ثمة عتبة» هي المجموعة القصصية السادسة للأديبة الأردنية مجدولين أبو الرُّب، تضمنت اثنتين وأربعين أقصوصة، صدرت عن دار دجلة في عمّان، في 78 صفحة. ويلاحظ بوضوح تنوع أقاصيص هذه المجموعة من حيث الموضوعات والتقنيات، وهذا ما أشار إليه الشاعر حميد سعيد في تقديمه للمجموعة: «وفي لغتها، كان ميزانها دقيقا، في التعبير عن الموضوعات التي تناولتها، إلى توسعها في ما تتناول من قضايا وموضوعات، كما أنها في مجال التقنية، لم تحاصر نصها بتقنية واحدة، أو بعدد قليل من التقنيات، بل كانت تعدد تقنياتها، ما منح عملها هذا، حيوية وجمالًا». وهذا ما يلمسه القارئ عبر تنقله بين أقاصيص سريالية وفانتازية ووجودية وواقعية وعبثية، تتمتع بقدرة فائقة على الإدهاش والمفارقة واللغة الدقيقة الفاتنة. واللافت في هذه المجموعة إبداع الكاتبة في تجسيد المشاعر والعواطف، وما يعتمل في النفس، لكأن القارئ يراها رأي عين، لا مجرد إحساس فقط، وتتناول هذه المقالة باقة من أقاصيص المجموعة التي توضح ذلك.

نزوات شيخوخة

ما إن رأى العجوز الذي كان في سكرات الموت، جارته الفتاة التي كان يعاكسها، حتى تحولت نظراته إلى هيام وافتتان، ثم «فارق الحياة، وعيناه مشرعتان، يتلألأ فيهما بريق ساحر، وما زالت فيهما تلك النظرة التي تعرفها الصبية جيدا». إنها صورة دقيقة ومعبرة عن حالة الهيام التي كان العجوز يعيشها في لحظاته الأخيرة، مات، وفضحت عيناه خبيئة قلبه، الذي لم يستسلم حتى الرمق الأخير. إنها صورة طريفة لبعض كبار السن المشاكسين، أصحاب القلوب الطرية دائمة الشغف بالجمال الفتي، رغبة منهم – ربما- في استعادة شبابهم، أو الشعور بأنهم ما زالوا شبابا قادرين على إغواء الصبايا ونيل إعجابهن، وهو يعبر عن عدم رغبتهم في الخضوع والاستسلام لأحكام العمر ومتطلباته. وليس لنا أن نحكم عليهم أو نحاسبهم؛ فهم لا يحسنون إلا الكلام، والنظرات الهائمة، دون أن تترجم إلى أفعال أو سلوكيات.

عصافير وأسلاك

تقول أقصوصة «عصافير وأسلاك»: «العصافير التي حطت على أسلاك الهاتف، فرت فزعة.. لم تطق أرجلها الرقيقة فيض الثرثرة في الأسلاك». إنه نص قصير جدا، لكنه محمل بالكثير الكثير، وكأن الثرثرة التي تتدفق في الأسلاك تحولت إلى أصوات فوضوية متداخلة أزعجت العصافير ولم تستطع تحملها، ففرت فزعة، وربما فرت من هول ما تسمع من نميمة وغيبة وخسة وشتائم ودسائس وأحقاد ومؤامرات وشكاوى وتذمر وتحاسد وتباغض وصراخ وأنين وبكاء وعويل. وأيا كان، فما يجري في الأسلاك أزعج العصافير وأفزعها. وعلى النقيض، نحن البشر، نسمع كل ذلك، ونادرا ما ينزعج أحدنا، بل يستمتع ويتلذذ ويستزيد. ويا ويحنا، فقد أصبحت العصافير أكثر حساسية وإنسانية منا.

الطارق

تجسد أقصوصة «الطارق» حالة الخجل والحرج والتردد والارتباك التي وقع فيها رجل يطرق بابا مرات ويتوارى خجلا، ثم جاهد نفسه ليطلب بعد ارتباك وهو ينظر إلى الأرض عنقود حصرم، ولما أحضر له ثلاثة عناقيد، وسأله عن سبب حاجته لها، «أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع، حيث تقف امرأة حبلى في انتظاره». إنها صورة إنسانية رسمت بمهارة، لامرأة حبلى تتوحم على حصرم، فاضطر زوجها لأن يطرق الباب ويطلب، مع ما وقع فيه من موقف لا يحسد عليه؛ لقد تنازل عن وقاره وعزة نفسه من أجل زوجته، وربما خوفا على طفله إن لم يلبِ حاجتها، كما تقول الروايات الشعبية المتوارثة.

اشتباك

تستجيب الجدة لرجاء حفيدتها لركوب القطار معها في مدينة الملاهي، تقول: «أخذ القطار يسرع ويعلو حتى قمة السكة، فانفرجت شفتاي بابتسامة خجلة تكشف عن أسناني الاصطناعية، فيما تطلق حفيدتي صرخات امتزجت بالضحك. لم تخجلني سنوات عمري بقدر ما أخجلتني نظرات الناس المحتشدين حول الألعاب يرقبون أطفالهم.. ابتهجت بالأعلام والأضواء الكثيرة الملونة التي صارت تحت قدمي. هبط القطار من قمة إلى قاع، فارتجف قلبي خوفا وفرحا. جُنَّ القطار بين علو وهبوط، وصار فضاء الملاهي يعج بصراخ وضحكات، كان الضحك يفلت مني، حتى أسال دموعي في فرحة لم أندم عليها». إنه تجسيد جميل ودافئ لمشاعر الجدة التي استجابت لتوسلات حفيدتها، واستعادت برفقتها طفولة هجرتها منذ عمر، ورغم ما شعرت به من حرج، إلا أنه كان حرجا عابرا، مقابل ما عاشته من لحظات فرح ومرح وطفولة. إننا نعود أطفالا مع أحفادنا، ونخلع رداء الهيبة والجدية والوقار؛ لأننا بحاجة لاستعادة براءتنا وعفويتنا وبساطتنا وتلقائيتنا ولو للحظات معدودة، إنها لحظات جميلة لا تقدر بثمن، والمحروم من حرم منها، وعندما تقيدنا قيود الحرج من الناس وتمنعنا من ممارسة طفولتنا؛ فإنما نعاقب أنفسنا، ونحكم على أنفسنا بشيخوخة مضاعفة؛ شيخوخة الروح والجسد.


مجدولين أبو الرُّب

قمرة، شمس، نجوم

تنبه الأم طفلتها أن لا تلعب في الحارة، وأن تبقى ملابسها نظيفة مرتبة، وشعرها مصففا، حتى يظل مظهرها مثل الأميرة، لكن الطفلة وبكل عفوية، تقول: «من قال لك إنني أريد أن أكون مثل الأميرة؟! أنا أريد أن ألعب مع الأطفال في الحارة». ثم تخرج بهدوء مع حبل اللعب، وتهرول ضاحكة وهي تهزج: «شبرة، أمرة، شمس نجوم». وسط ذهول الأم وشعورها بلطمة قاسية على وجهها «كان الباب يحملق بي، ينتظر أن أقول شيئا. لم أستطع التفوه بكلمة». منطق الطفولة قوي ومقنع وبسيط، هي طفلة ومن حقها أن تلعب مع أترابها في الحارة، ولا تستطيع أن تفهم رغبة أمها في حبسها في البيت نظيفة مرتبة كأنها عروس من شمع، وما نفع أن تكون أميرة مقيدة لم تعش طفولتها، والحرية والانطلاق أجمل وأمتع وأدعى للسعادة. هذه الأقصوصة توجه رسالة للوالدين أن لا يضعا أطفالهما في أقفاص ذهبية خوفا عليهم، فإن في ذلك حرمانا لهم من طفولتهم، وليتركا لهم فسحة من الحرية واللعب مع الآخرين، مع حقهما في المراقبة من بعيد.

إشراقة

تشعر الموظفة مع اقتراب نهاية الدوام بشوق ولهفة إلى البيت، ولمسات أمها في ترتيبه، وتوقها إلى التمطط على السرير مثل قطة كسول، والرغبة في دخول المطبخ لمعرفة ما أعدته أمها من أصناف الطعام، وفجأة تستعيد حاضرها الصادم: «أي بيت هذا الذي تظنين أنك عائدة إليه؟ لقد غادرته منذ عشرين عاما». هل يعقل أن ينسى المرء واقعه، ويعيش لحظات في زمن فات؟ يحدث، عندما يرتبط ذلك ببيت جميل وحضن دافئ وعلاقات وثيقة، نعود إلى هناك لنهرب من واقعنا الأليم، رغبة في استعادة ذلك الماضي الذي أصبح حلما، تقول: «أدركت أن ما عشته، قبل قليل، كان لحظة شاردة من الماضي، أفلتت من حصون معتقلاته، ونفذت إليّ وحلت بي مثل ومضة، وبحجم إشراقة سرعان ما ذوت».

الجسر

تفتح مكتوبه وهي تصعد درجات الجسر، تقرأ كلماته مصدومة، وهي تصفعها بإجهاض أحلامها، تقول: «هبطت درجات الجسر من الجهة المقابلة، كنت أهبط نحو حيرة وخيبة لا قاع لها.. من يومها، ظلت قدماي تهبطان درجات لا مستقر لها. وإذا رفعت رأسي ووقع نظري على ذلك الجسر المعلق، تمسك غصة قديمة بأسفل عنقي، وأتساءل: كيف استطاع ذلك الجسر أن يحمل وجعي؟». وما أوجع وأقسى أن يصفعك أقرب الناس إليك، أو من كنت تظنه كذلك، تكونان معا، أنت ترسم قوس قزح، وهو يخطط لتمزيق اللوحة بكل شراسة، دون رأفة أو مراعاة، أو حتى تمهيد لبق، وإنما لطمة قاسية في وقت تنتظر أن تزهر أحلامك.

نبوءة

ترى أباها الأجمل والأكمل والأبهى والأذكى، كان يرسم لها الطريق فتسير مطمئنة، وإن تاهت تستدل عليها من حبات الحنطة التي تركها لتستدل بها، وعندما فقدته تشعبت بها الطرق ونأت وتاهت، أما الحنطة «فقد نقرتها الطيور.. ومن يومها، لا أعود، لا أعود.. لربما كانت المسافة إلى باب دارك أطول بكثير من المسافة بيني وبين زحل.. المركبة الفضائية احتاجت سبع سنوات كي تصل إلى زحل، وأنا أسير منذ عشرين عاما، ولا أصل إليك». الحياة بعد الأب ضياع وتيه، ولا أجمل من دروب شقها لنا الأب، وعبدها بالحب والحنان ودم القلب، والدروب بعد الأب موحشة طويلة متشعبة، تتحول إلى متاهات وسراب. لكن ليتنا ندرك ذلك في حياة الأب، ونستشعر قيمتها وأهميتها وجمالها، وغالبا ما ندرك عظيم صنيع الأب بعد فقده، فنشعر بحجم الخسارة التي لا تعوض ولا تستدرك.

*كاتب أردني


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...