ليلى المالح
كاتبة سورية
أقامت منشورات تكوين (الكويت) في الثالث من يونيو/حزيران 2025 جلسة حوارية حول مجموعة الكاتبة والأكاديمية الكويتية مي النقيب The Hidden Light of Objects التي صدرت مؤخرا عن الدار، بترجمة إلى العربية بعنوان « نور الأشياء الخفي» (أكتوبر/تشرين الأول 2024) بعد مرور عقد على صدور المجموعة بالإنكليزية لأول مرة عن دار بلومزبري – مؤسسة قطر للنشر عام 2014، وأيامٍ على إعادة نشرها بالإنكليزية عن دار الساقي (لندن يونيو/حزيران 2025). بهذا أتت الجلسة الحوارية احتفاء بولادة جديدة للنسخة الإنكليزية وولادة لها بالعربية أيضا. والولادة تعني «هوية» و»تبنيا» للمولود الذي هو «كويتي» بحكم جنسية مؤلفته ومكان إقامتها: الكويت، وإن كان هجينا بحكم لسانه الأجنبي. فهل يقبله المشهد الأدبي الكويتي، كابن شرعي له، أم أن مسألة الكتابة بلغة أجنبية غير اللغة القومية ستعود مجددا إلى الواجهة وتغدو أمرا خلافيا كما حدث ماضيا؟
إن ظاهرة الأدب العربي الأنغلوفوني، أي الأدباء العرب الذين اختاروا اللغة الإنكليزية كأداة تعبير أدبي دون اللغة القومية، أو الوطنية هي ظاهرة ليست بالحديثة تماما، إذ ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر، وتمتد حتى الحاضر مع تنامي حركة الهجرة من المنطقة العربية، خاصة من بلاد الشام إلى الأمريكتين ومن ثم إلى بقية أصقاع الأرض. ما هو جديد هنا أن «نور الأشياء الخفي» هو إعلان عن انتقال هذه الظاهرة إلى منطقة الخليج العربي، خاصة الكويت. فحسب تقديري هذا أول عمل يصدر عن دار نشر عالمية (بلومزبري بالتعاون مع مؤسسة قطر) يحرز اعترافا وتقديرا عالميا، بل يحصد جائزة دولية مرموقة هي جائزة أدنبره لباكورة عمل مؤلف. والجديد في الأمر أيضا أنه مهد الطريق لمزيد من الإبداعات الكويتية، التي تلت والتي خطها مؤلفوها باللغة الإنكليزية.
تختلف ظروف اختيار الأنغلوفونية كلغة التعبير في منطقة الخليج العربي، عن تلك التي سادت بين المهاجرين العرب الأوائل، فالكتابة بلغة أجنبية أتت سابقا نتيجة للظروف التاريخية والسياسية التي فرضت استخدام لغات غير العربية، مثل الفرنسية والإنكليزية. أما في حالة الأدب الكويتي المكتوب بالإنكليزية مثلا فهو تمثّلٌ لانتشار اللغة الإنكليزية، محليا وعالميا كلغة التعلم والبحث والتعبير الأدبي، وأيضا شيوعها حتى كوسيلة تواصل اجتماعي، وهو انعكاس لواقع لغوي وثقافي واجتماعي جديد. فضلا عن جاذبية الكتابة باللغات الأجنبية في إيصال مؤلفيها إلى جمهور عالمي، واستقطابها اهتمام القراء خارج الحدود القومية بتوفيرها مصادر اطلاع ثقافي كبير بلغة متاحة كنافذة يطل منها الآخر على عالم ازدحمت فيه الأحداث السياسية، وتنامى معها فضول التعرف على فكر وحياة أهل الخليج العربي.
قمت بترجمة مجموعة مي النقيب القصصية إلى العربية، لاستكمال صورة المنتج الأدبي في الكويت خاصة، والعربي عامة، كي لا يبقى هذا الأدب الثرّ الوليد أسيرا للغة لا يتقنها العديد من القراء العرب. أردتها دعوة لاحتضان الأدب القومي للكتابّ المبدعين، بغض النظر عن اللغة التي يختارونها فتصبحُ الترجمة دربَ توطينٍ، ويصبح المترجمٌ وسيط تفاهم إنساني لا بين شعوب الأرض فحسب، بل أيضا بين أبناء شعبه. «نور الأشياء الخفي» عمل إبداعي مميز كتب بلغة مكثفة أنيقة تحارها شعرا أم نثرا. عنوان المجموعة يشي بمضمونها: أشياء عادية تلقاها صدفة في حياتك اليومية، لكنها تثير فيك مواجع الذكرى فتسترجع ما كان وتتملّى في ما سيكون. أبطالها شبان يافعون يضجون بفورة الحياة والأمل وإن تعاديهم ظروف المكان بحروبه (غزو الكويت، الحرب الأهلية اللبنانية، فلسطين)، أو تزمته (الصراع بين القديم والجديد)، أو نزواته أو أصفاده أو أقداره التي لا تُرَدّ كما هو الموت. في الكتاب كمٌّ من الفرح لكن حزنا موازيا ينثال من بين السطور واشياً بوجع الفقد والمرض والهزيمة والظلم. والعمل يتوسد مسائل عدة كمفهوم الوطن والعائلة، وتساؤلات الهوية والانتماء والإخلاص والحب والخيانة والرغبة، فضلا عن تجربة الأسر والسجن.
تحتوي المجموعة على عشر قصص وعشر إضاءات، ينير بعضها بعضا بإحالات ثابتة ومتحولة، تتواشج في ما بينها، تلمس فيها حذقا سرديا يراوغ القارئ أحيانا حتى يتمكنَ الأخير من القبض على المعنى المستهدف. هو سرد يراوح بين بساطة وبراءة الحدوتة أحيانا وطزاجتها، وحمولةٍ فكريةٍ ثرّة ولثرائها تتطلب تحديا للوصول إلى لب مقصديتها، بإحالاتها وإيماءاتها المتعددة. فالكاتبة بتسنّمِها أكثر من ثقافة ولغة تستحضر استراتيجيات سردية تنهل من أكثر من حضارة، فيتوسع لديها نطاق الرؤية ومنطوق التعبير، على نحو يستوجب التقدير. تتواشج الحكايات وتتناسخ في لبوس يتجدد. تبدو الحكايات مستقلة بذاتها، لكنها تتمظهر، ومن هنا إبداعُها، في صور متشابكة كحبل سري سردي لا ينفك، كالفوغا الموسيقية التي تتوالد ألحانها متشابكة الإحالات في دفق زمني يجدد ويعيد نفسه، كما في قصة المُسنِّ الياباني الذي يفتقد ابنته، التي تتواشج مع الإيراني الذي يفتقد ابنا استمات لتأمين إقامة له في الكويت ولم يفلح. وكما في إحالة القصص إلى شخصية إيكاروس التي تتماهى معها أكثر الشخصيات في المجموعة، «إيكاروس الذي سقط كما سقط من أُخرجوا من ديارهم حاملين أمتعتهم فوق رؤوسهم… سقط إيكاروس وتحطم كالبيضة. على ظهر السفينة لم تلُح لأحد منا ذكرى سقوط إيكاروس، أو سقوط فيلكا، أو سقوطنا، نحن نسخ إيكاروس المتكررة، تسقط من سماء باهرة».
مي النقيب صوت نسائي جسور ينقل للقارئ ظروف مكان/وطن في لحظات تشكل تاريخية ترصد تحوله اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وإنسانيا. جسور لأنه يقدم منظورا غير تقليدي للوطن بامتلاكه من الشجاعة ما يسمح له بصياغة رؤية جديدة تتجاوز الموصوفات التقليدية التي تسنّمت كتابات الآخرين. يخرج عن تقديس المألوف وإن لا يقطع الصلة به، فالماضي جميل تجد فيه فطرة وطزاجة روح لا تلمسها في الحاضر. أما الحاضر فيوقعك في حيرة وجودية. ربما هي الكتابة بلغة أجنبية ما يمنح النقيب مساحة من الحرية، تمكّنها من الاحتفاء بالمحلي وانتقاده في الآن ذاته من دون وجل، أو هو الصدق الذي يَسِمُ مجمل العمل، صدق هادف يحرض على حرية التفكير والتعبير. بحب عارم تتغنى الكاتبة بالكويت، بتفاصيلها وبحرها ورملها وأزقتها ورائحتها وألوانها، كما لم يفعل أو يصف من قبلها أحد، لكنها تبقى مدركة لتناقضاتها وحزينة جزعة لما ألم بها وبالمنطقة العربية من اعتداء جائر، واحتلال وحروب أهلية وتحول جذري في أنماط معيشتها. تتمثل شجاعة الكاتبة في انتقائها من الذاكرة الثقافية الجمعية قصصا مُغيَّبة تتجاهلها السرديات الرسمية. فما يستدعى عادة من الذاكرة ليس حياديا، أو بريئا، لهذا تستحضر مي النقيب أحداثا تربك هذه السرديات المتسيّدة وتسائل الخطاب المهيمن، وتبرز أهمية تعدد وجهات النظر، كما في قصتي «صدى التوأم» و»اللهو بالمتفجرات» على سبيل المثال لا الحصر.
قصة «صدى «هي واحدة من أجمل ما ورد في المجموعة وأكثرها ابتكارا وانفتاحا على إمكانيات تأويل لا تنتهي، تبرع الكاتبة في اللعب على تحولات الصوت والمنظور، وعلى تكرارٍ لكلام يغدو ثيمة بحد ذاته، بل إيقاعا موسيقيا يضبط السرد، ناهيك عما ينطوي عليه هذا التكرار من ترميز. صوتان رددا بعضهما حتى نقطة التلاشي ثم افترقا صوتيا/لغويا في آخر جمل نطقا بها بعد اكتمال الرؤية واختيار المسار. قصة «ماما حياة»، اليتيمة المهمشة التي تجرأت على إقامة علاقة عاطفية مع إنكليزي وفد للبلاد في بداية عهد التنقيب عن النفط، علاقة ثمرتها توأم بشعر أشقر ولغة غريبة عن المألوف ووالد يرفضه المجتمع فينهال عليه بالضرب المبرح والنفي. تفاصيل الحكاية تتجاوز كونها مجرد عناصر سردية، بل أدوات تقدم شخصية نسوية قادرة تناهض المجتمع الذكوري القمعي بجسارة باهرة.
في القصة الثانية « اللهو بالمتفجرات»، تمضي الكاتبة إلى ما هو أبعد، حيث تُفكّك مفاهيم الوطنية والتضحية. في سياق أصولي، يُحَضّر الموت كما لو كان قدرا مجيدا من خلال صوت مراهق فلسطيني يفجِّر عن غير قصد نفسه وحبيبته. نسمع اعترافات حية عن أحلام صغيرة، كأن يصبح طبيبا أو أستاذا جامعيا، وذكريات أول حب، وأشياء لم تُنجز. هنا لا تمجيد للاستشهاد، بل فضح صارخ لآليات غسل العقول واستلاب الطفولة وسرقة الأحلام باسم الجنة. إن استحضار هذه الأسئلة المسكوت عنها لا يتم إلا بقلم يجرؤ على زلزلة ما يُوصف زيفا بالمسلّمات.
أخيرا، لا يملك قارئ «نور الأشياء الخفي» إلا أن يُفتتن بجمالية اللغة، وبالصور المبتكرة التي تحفّز الحواس الخمس، فلكل صورة لون وجرس وإيقاع ورائحة حتى، تتمظهر في التوصيف المبدع للألوان بأطيافها وظلالها، في تشبيه تديّن «زينة» السمح وصلواتها بـ»سمكة ذهبية تسبح في بركة يابانية تحت جسر»، في الأخت الصغيرة التي تبدو «نقطة على خريطة»، في المغيب الذي «تصطبغ فيه السماء بلون يشابه لون الكدمة»، والشاب اليافع الذي «حضر كموجة بحر بلطيقي ترتجُّ في قلب ضوء موشى بالذهب».
«نور الأشياء الخفي» عمل يُجسّد كيف تتشكل الذكريات وتُستدعى، وكيف تُوظَّف لترتقيَ رمزياتٍ تنقل دلالاتِ مقاصدِها المستهدَفة. فهي ليست مجردَ تعداد جميل لما حدث يوما بل سلالم تفضي إلى عوالم أوسع وأرحب.





