قضية الصحراء تدخل زمن الغموض البنّاء

إيطاليا تلغراف

 

 

 

علي أنوزلا
صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم”.

 

اعتمد مجلس الأمن في نهاية الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) قراراً بشأن قضية الصحراء الغربية، جدّد ولاية بعثة الأمم المتحدة (المينورسو) سنة إضافية، بلغة مختلفة، تحمل دلالات سياسية عميقة، لمّا نص، لأول مرة بشكل صريح، على أن المقترح المغربي، منح سكان الإقليم المتنازع عليه حكماً ذاتياً واسعاً تحت السيادة المغربية، هو الأساس الذي ينبغي أن تُبنى عليه المفاوضات المباشرة بين طرفي النزاع، أي المغرب وجبهة بوليساريو. كذلك دعا القرار الأطراف إلى الدخول في مفاوضات مباشرة ودون شروط مسبقة. وبذلك، يكون مجلس الأمن قد تجاوز اللغة التقليدية التي كانت تكتفي، طوال السنوات الماضية، بالدعوة إلى “حل سياسي واقعي ودائم ومقبول من الطرفين”، من دون تحديد مرجعية واضحة لهذا الحل.

واعتبر المغرب هذا التحول انتصاراً دبلوماسياً كبيراً بعد نصف قرن من النزاع، إذ سارع الملك محمد السادس إلى إعلان أن المملكة ستعمل على “تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي” التي سبق أن قدّمتها سنة 2007، لتكون “الأساس الوحيد للتفاوض”. وأكّد، في خطاب موجّه إلى الأمّة، أن المغرب لا يسعى لحل يقوم على الغلبة، بل لحلٍّ يحفظ ماء وجه الجميع، داعياً “إخواننا في مخيمات تندوف إلى اغتنام هذه الفرصة التاريخية لجمع الشمل والمساهمة في بناء مستقبل مشترك في إطار المغرب الموحّد”. وقد خرجت، عقب صدور القرار والخطاب الملكي الذي تلاه، مسيراتٌ احتفاليةٌ في مختلف المدن المغربية، تعبيراً عما اعتُبر لحظة اعتراف أممية بالمقاربة المغربية.

غير أن هذا “الانتصار المغربي” يثير في العمق سؤالاً أخلاقياً ظلّ مسكوتاً عنه: إلى أي حد يمكن فصل هذا الإنجاز الدبلوماسي عن خلفيته السياسية التي تعود إلى اعتراف إدارة دونالد ترامب في ديسمبر/ كانون الأول 2020 بسيادة المغرب على الصحراء مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟ يرى كثيرون في المغرب أن ما تحقق اليوم نتيجة مباشرة لذلك القرار الأميركي، وأن الدور النشط لواشنطن في صياغة القرار الجديد امتداد طبيعي لصفقة 2020 التي بدّلت موازين الملف رأساً على عقب. وقد نقلت وسائل إعلام مغربية بياناً منسوباً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، يهنئ الرباط على “انتصارها الدبلوماسي”، ما دفع معارضي التطبيع في المغرب إلى التحذير من استغلال السلطة هذا القرار الأممي، لتبرير استمرار العلاقات مع تل أبيب ثمناً ضرورياً للاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الإقليم المتنازع عليه. وهكذا تطرح لحظة النصر المعلنة أسئلة محرجة بشأن الثمن الأخلاقي والسياسي لأي إنجاز دبلوماسي في سياق معقّد تتداخل فيه الشرعية الوطنية مع الحسابات الجيوسياسية الكبرى.

فُسّر الامتناع الجزائري عن التصويت في مجلس الأمن على نطاق واسع رسالة احتجاج دبلوماسية ضد ما تعتبره “انحرافاً في المسار الأممي”

في المقابل، رأت جبهة بوليساريو في القرار “انحيازاً واضحاً وغير متوازن”، مؤكّدة تشبثها “بحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير نحو الاستقلال”. أما الجزائر، فبدأ موقفها حاداً حين اعتبر ممثلها في الأمم المتحدة، عمّار جامع، أن القرار “غير متوازن” و”يخلّ بمبادئ الأمم المتحدة”، قبل أن يتراجع وزير خارجيتها أحمد عطّاف بعد أيام ليصف القرار بأنه “متوازن لأنه يشير إلى الحكم الذاتي وإلى مبدأ تقرير المصير في الوقت نفسه”. وقد عكس هذا التذبذب حرج الجزائر بين محاولة الحفاظ على خطابها التقليدي في الدفاع عن “بوليساريو”، وواقع التوازنات الدولية الجديدة التي تميل بوضوح لصالح الرباط.

وبالنسبة إلى الجزائر، التي حوّلت قضية الصحراء إلى ركيزة عقيدتها الدبلوماسية منذ السبعينيات، فهي اليوم في وضع لا تحسد عليه: بين ضرورة إرضاء الرأي العام الداخلي الذي يرى في الملف مسألة كرامة وسيادة، والتزامها الدولي المعلن بأنها “ليست طرفاً في النزاع”، لكنها، في الواقع، الطرف الأكثر تشدّداً في صياغة مآلاته. فبينما تصر على موقف الحياد الشكلي، كانت الجزائر الوحيدة التي امتنعت عن التصويت داخل مجلس الأمن على القرار الأممي الذي حظي بتأييد 11 عضواً من دون اعتراض من أي دولة دائمة العضوية. وقد فُسّر الامتناع الجزائري عن التصويت على نطاق واسع رسالة احتجاج دبلوماسية ضد ما تعتبره “انحرافاً في المسار الأممي”، لكنه، في الوقت نفسه، يعكس مأزق الدبلوماسية الجزائرية بين خطابها المبدئي المساند “حقّ تقرير المصير للصحراويين” وحساباتها الإقليمية التي تجعلها في مواجهة مباشرة مع المغرب. هذا التناقض بين “الادّعاء بعدم الانخراط” و”الممارسة السياسية المتشددة” يجعل من الجزائر طرفاً فاعلاً بقدر ما هي طرف معرقل في نظر مراقبين كثيرين.

كانت الولايات المتحدة، صاحبة القلم في صياغة القرار، الأكثر وضوحاً في قراءتها المرحلة، فقد اعتبر مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن القرار “تاريخي لأنه يكرّس المقترح المغربي أساساً واقعيّاً للتسوية”، مشيراً إلى أنه في الوقت نفسه “يؤكد مبدأ تقرير المصير بوضوح، والمغرب قبل به، وهو ما يشكل خطوة متقدمة نحو سلام دائم”. وأوضح بولس أن هذا القرار “بداية رحلة الألف ميل نحو حل مشكلة عمرها نصف قرن”، في إشارة إلى أن واشنطن تسعى لتحويل الجمود الطويل إلى عملية تفاوضية مباشرة ومنتجة.

واشنطن وحلفاؤها لا يريدون حلاً نهائياً قد يُحدِث توازناتٍ جديدة غير متحكّم فيها

ورغم اختلاف موجات هذه النبرات التفاؤلية التي رافقت القرار، لن تكون المفاوضات المنتظرة سهلة، فالمغرب، وإن كان في موقع مريح نسبياً بفضل الزخم الدولي الذي كسبه مقترحه، سيجد نفسه مطالباً بتقديم تفاصيل دقيقة بشأن كيفية تجسيد الحكم الذاتي على أرض الواقع، ومدى استعداده لنقل صلاحيات فعلية إلى مؤسسات الإقليم المنتخبة ديمقراطياً، فتنفيذ هذا النموذج سيصطدم بعدة أسئلة عميقة: إلى أي مدى يمكن أن يقبل المركز بتقليص سلطته فعلياً؟ وما تأثير هذا النموذج ببقية مناطق المغرب؟ وهل سيُسهم في تعزيز الديمقراطية المحلية، أم سيظل شكلاً إدارياً من دون مضمون سياسي حقيقي؟ أسئلة تضع المغرب في مواجهة اختبار ديمقراطي حقيقي أمام أنظار العالم، لأن الحكم الذاتي لا يُقاس بالنصوص وحدها، بل بمدى احترامها لمبدأ المشاركة والمساءلة والشفافية.

أما جبهة بوليساريو، فإن أي مقاطعة منها للمفاوضات ستؤدّي إلى عزلها دولياً، وربما إلى فقدانها ما تبقى من تعاطف معها في بعض الدوائر الدولية، خصوصاً مع وجود إدارة أميركية تضغط باتجاه تسوية سريعة. لذا، من المرجّح أن الجزائر ستدفعها إلى الانخراط في المفاوضات، مع العمل على مساعدتها في الكواليس على ضمان أن يبقى مطلب تقرير المصير مطروحاً ورقةً تفاوضيةً أساسيةً، وإن كانت فرص فرض هذا المبدأ عملياً محدودة، بعدما تجاهله القرار الأممي الصادر أخيراً. في المقابل، تجد الجزائر نفسها أمام معادلة دقيقة بين خطابها الداخلي الذي يرفض أي تنازل في القضية وواقعها الدبلوماسي الذي يفرض عليها المساعدة في الحل لا عرقلته، خصوصاً وهي تصر علناً على أنها “ليست طرفاً مباشراً” في النزاع.

حلّ نزاع الصحراء لن يكون ممكناً من دون مصالحة مغربية جزائرية حقيقية

يدرك المراقبون أن القرار الأممي الجديد بشأن الصحراء الغربية لا يمنح نصراً كاملاً لأي طرف، بل يعيد إنتاج الغموض أداة لإدارة النزاع، فواشنطن وحلفاؤها لا يريدون حلاً نهائياً قد يُحدِث توازناتٍ جديدة غير متحكّم فيها، بل يسعون لتثبيت المنطقة في حالة “انتظار مستقر” تضمن استمرار النفوذ الغربي وحماية المصالح الاستراتيجية، غير أن هذا الغموض نفسه قد يفتح هامشاً جديداً للتحرّك السياسي إذا أحسن الأطراف استثماره، فالمعركة المقبلة لن تكون فقط على الأرض، بل أيضاً على مستوى الخطاب والرواية، حيث يسعى كل طرفٍ لفرض رؤيته مرجعية شرعية للتاريخ والمستقبل معاً.

دعا الملك محمد السادس في خطابه مساء الجمعة الماضية الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون إلى “حوار أخوي صادق لبناء علاقات جديدة قائمة على الثقة وحسن الجوار”، مؤكّداً أن المغرب لا يعتبر هذه التحولات انتصاراً لإشعال الصراع، بل مناسبة لطيّ صفحة الخلافات. وهي رسالة تصالحية تحمل إدراكاً بأن حلّ نزاع الصحراء لن يكون ممكناً من دون مصالحة مغربية جزائرية حقيقية. لكن التاريخ القريب للمنطقة يعلّم أن كل فرص التقارب كانت تُجهض عند أول اختبار، ما سيطيل توقف قطار الاتحاد المغاربي في محطة الانطلاق التي لم يبارحها منذ تأسيسه عام 1989، ما لم يتحرّر من رهينة الخلاف حول الصحراء. لذلك يمكن القول إن ما شهده العالم ليلة التصويت لم يكن نهاية النزاع، بل بداية فصل جديد منه، فما لم تتوفر الإرادة السياسية والنيات الحسنة لدى المغرب والجزائر، سيظل القرار الجديد مجرّد محطّة أخرى في حرب انتظار طويلة يتناوب فيها الأمل واليأس، ويبقى السؤال مفتوحاً: هل تكون هذه المرّة بداية تسوية حقيقية، أم مجرّد هدنة جديدة في نزاع لا يريد أن ينتهي؟

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...