رواية «الطفل الموهوب»… حين تنتصر الروح لنفسها

إيطاليا تلغراف

 

 

 

سامر حيدر المجالي

 

 

كاد الحبُّ يفتح أفقا جديدا في حياة الشاب هانز جيبنرات، لولا أن الآمال التي عوَّل عليها حين أحب، ارتدَّت به إلى الحضيض، وفاقمت مأساته الشخصية.
تنتمي رواية «الطفل الموهوب» لهيرمان هسه إلى بواكير تجربة الروائي والشاعر الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1946. وهي في مجملها عمل كلاسيكي سيطر على مفاصله راوٍ عليم بدا في كثير من الفقرات جزءا من الأحداث، يُدلي بوجهات نظره، وينبه القارئ إلى ما يجدر به التنبه له.
يقول فؤاد كامل مترجم الرواية الصادرة عن دار «آفاق» عام 2017: «وهذه الرواية التي نقدمها للقارئ تتضمن إدانة للنظم التقليدية في مجال التربية والتعليم، فهي قصة صبي نابغة، تتحطم روحه تحطما منتظما بواسطة أبويه ومعلميه، إذ لما كانوا يحرصون دائما على نجاحه، فإنهم يتناسون دائما التفكير في صحته وسعادته».
لعل هذه الإدانة، آخذين بعين الاعتبار زمن صدور الرواية، الذي يُرجَّح أنه في نهاية القرن التاسع عشر، أو بواكير القرن العشرين (وُلد هيرمان هسه عام 1877)، لعلها إذن بعضٌ من الجو العام الذي كان سائدا بين نفر من المفكرين الكبار، نيتشه مثلا أدان النظم الاجتماعية والدينية التقليدية، فرأى أنها تحطّم روح الإنسان وتسير به إلى الخنوع، وتنبأ – من ثم – بظهور الإنسان السوبر الذي يثور على هذه النظم ويصعد بذاته إلى المكانة التي تستحق.
ومن بين الروائيين، وجه دوستويفسكي نقدا لاذعا للمجتمع الصناعي، الذي غلبت عليه النزعة الاستهلاكية والتقدير المبتذل للأنماط تحت ستار شيء اسمه العلم.
ولا بد أن هسه الشاب تأثر بنيتشه ودوستويفسكي مباشرة، بل هذا واضح أتم الوضوح، فجاءت هذه الرواية في الإطار نفسه، وحملت كثيرا من تجارب كاتبها وآرائه الشخصية.
يعيش هانز؛ بطل الرواية، في مدينة صغيرة اسمها «سوابيا»، ويُظهر منذ حداثة سنه نبوغا في دراسته؛ الأمر الذي يؤهله لدخول امتحان شامل على مستوى البلاد يتمكن الناجحون فيه من الالتحاق بأهم الكليات اللاهوتية. يبرع هانز في اللاتينية واليونانية والرياضيات وعلوم الكتاب المقدس، ويحرز مرتبة متقدمة في الامتحان، فينضم إلى ركب الطلاب النخبة الملتحقين بتلك الكلية.
قبل ذلك يتلقى دعم أبيه ومعلميه في سوابيا، فهم ينظرون إليه بوصفه فخر المدينة، المؤهل لأن يحتل في المستقبل مكانة مرموقة في السلم اللاهوتي. هذا يعني – بوجه ما – أنهم حدَّدوا له في أنفسهم سقفا يسير إليه؛ سقفا تقليديا بطبيعة الحال، يوافق الأنماط التي تعودوها في حياتهم.
والد هانز، على سبيل المثال، ذو دهاء فطري، لكنه حسب الرواية: «دهاء محصور ضيّق الأفق وبراعة خاصة في ما يتعلق بالأرقام». وهو ذو عداء غيور «نحو أي شيء غير عادي أو خارج عن المألوف، أي شيء يمت للثقافة بصلة». لم يخرج أحد من تلك البقعة الضيقة إلى العالم، لذا لم يكن لأحد علاقة بما امتاز به الصبي ووصفته الرواية بأنه «الجذوة الغامضة التي تتنزل من الأعالي». كان جميع المحيطين بهانز كذلك؛ الأب والمعلمون وأهل المدينة، لذا لم يدرك الشاب الفتي حقيقة ما يمتلك من موهبة، فانصاع لكل ما طُلب منه، وبدا مسالما وهادئا إلى أبعد حد. الشيء الوحيد الذي شكل علامة فارقة في بواكير حياته الأولى تعلقه بالطبيعة، ووجد الراحة النفسية وهو يجول في الغابات أو يمارس الصيد في البحيرة القريبة. هناك تنطلق روحه ويشعر بمتعة غامرة. وقد أبدع هيرمان هسه في وصف الطبيعة؛ فتلك إحدى أهم ميزات أسلوبه؛ إذ له قدرة هائلة على تصوير المكان بدروبه وغاباته وأشجاره وأزهاره وطيوره وحيواناته وفصوله وطقسه ومظاهره الاجتماعية.
وصفُ المكان عند هسه بديع وحي، والمشاهد نابضة ومليئة بالحركة والألوان.
«وهناك على حواف الغابة تسطع صفوف طويلة فخمة من نبات آذان الدب ذي الأوراق الصفر الملساء، وأطول منها تتأرجح حشائش الصفصاف الوردية على سوقها النحيلة الطويلة، بحيث تحيل سفوح التلال إلى بحر من الأرجوان، وكانت الغابات زاخرة بتغريد العصافير الذي لا ينتهي، والسناجب الحمراء في غابة الصنوبر ترتع فوق قمم الأشجار، والسحالي الخضراء تتألق وتزحف سعيدة على الحواف والجدران، وفي الحفر الجافة، وفوق الغياض ترتفع سقسقة شحارير الحصاد الحادة التي لا تعرف الكلل».
هذا هو أسلوب هيرمان هسه المعروف عنه؛ وهو أسلوب كلاسيكي على كل حال، لكنه يمتلك هنا أهمية استثنائية لأنه يوضح تلك المفارقة التي انتُزع هانز بسببها من عالمه الجميل هذا، الذي تنطلق فيه روحه، ليلتحق بعالم الكلية اللاهوتية الخانق والكابت للأرواح. ينتظم هانز بدروسه ويُبدي نباهة تلفت الأنظار إليه؛ بيد أن روح الشاب الهادئ المسالم، تجد محفزات تخرجها من حالها الذي كانت عليه إلى نشدان المعنى والبحث عن قيمة الذات. يصادق هانز زميلا له اسمه «هايلنر» فيمارس هذا الأخير تأثيرا عليه. كان هايلنر شاعرا فذّا، وصاحب روح متمردة. يقع هانز تحت تأثيره ويشعر معه بأن للحياة وللروح آفاقا أخرى غير تلك التي فرضها عليه المدرسون ونظام الكلية. وحين يُفصَل هايلنر من الكلية يفقد هانز شغفه، وتنتابه حالات من الحمى والوساوس، بل ينطلق خياله ويصير قادرا على مزج الواقع بالخيال، ورؤية الخيال والأفكار، كما لو أنها حقيقة متجسدة أمامه. وينتهي الأمر بفصله من الكلية وإعادته إلى مدينته. ببساطة حطم نظام الكلية شخصا عبقريّا، وهو ما شنَّ هسه عليه هجوما لاذعا في الرواية بالقول:
«وهكذا يتكرر مشهد المعركة الدائمة بين التنظيم والروح في كل مدرسة بدورها. ونستمر في مراقبة الدولة والمدرسة تواقين في الانشغال إلى أن نقصف في البرعم حفنة البذور الواعدة المبشرة والأرواح النبيلة التي تنمو عاما بعد عام».
ومهمة المدرس الذي يمقت الطالب النجيب في هذا النوع من المدارس هي تخريج أشخاص «يتقنون اللاتينية والرياضيات وحمقى أمناء طيبين». هكذا فحسب! وإذ يعود هانز إلى سوابيا يسيطر عليه الاكتئاب ويفكر جديا بالانتحار، فيضع السيناريو المناسب لذلك، ويختار الحبل وجذع الشجرة المناسبين، بيد أنه يحجم عن هذا الفعل؛ جبنا ربما، أو أملا بشيء مقبل، أو تأثرا بجمال الطبيعة التي تحتضنه من جديد، فيقضي ساعات طويلة في أرجائها. هنا يظهر الحب في حياة هانز؛ يصادف «إمّا» قريبة جاره الإسكافي الذي هو أحد رعاته الروحانيين، الذين خنقوه من قبل. تقترب منه الفتاة اللعوب، تذيقه شهد شفتيها، تُنيله شيئا من اللذات الجسدية، تسيطر على كيانه سيطرة تامّة ثم ترحل عن المدينة، دون أن تخبره برحيلها، أو تحسب لمشاعره حسابا. يفاجئه رحيلها ويشعر نتيجة الفقد بالكارثة، يعرف الحب على حقيقته؛ إنه مليء بالمرارة. يتأرجح هانز بين فتوته وصباه ويشعر بأن كل شيء جميل في الحياة قد فُقد إلى الأبد.
ما العمل إذن؟ يلتحق بورشة ميكانيك صبيّا متدربا بين أقرانه، الذين كان ينظر إليهم من علٍ، لكنهم اليوم تقدموا عليه بخطوة في مضمار المهنة. على حياته التافهة من الآن أن «تُستوعب في إيقاع واحد عظيم». لعل هذا شكل من أشكال الاستسلام الذي تُبديه هذه الشخصية؛ فهي رغم عبقريتها وذكائها، لم تجد فرصا حقيقية سانحة للتحليق. استهلكها المجتمع والمدرسة والكلية اللاهوتية طوال سنوات عمرها، وكانت آفاقها خاطفة، مجرد ومضات تظهر وسرعان ما تنوس. «هايلنر» و»إمّا» كانا حلمين أُبعدا عنه؛ الأول قهرا والثاني خداعا، لا الحب ولا الصداقة استطاعا أن ينتشلاه من واقعه البائس.
حين تنزف الروح في واقع كهذا تلجأ إلى آخر حيلها الدفاعية؛ أي الرضوخ، ومن ثم الانخراط في مهنة تأخذه إلى الواقع الرتيب، الذي هو وحياة الروح ضدان لا يلتقيان. «كانت أفكار هانز وأحلامه تتحرك الآن في هذا العالم الذي كان غريبا بالنسبة إليه فترة طويلة من الزمن، بحث عن ملاذ من خيبة أمله ويأسه في أيام الماضي الجميلة التي كان يعتز فيها بآمال، وها هو يقف الآن مرة أخرى عند المدخل المستسر، ولكنه مطرود هذه المرة ولما يزل مفتونا إليه بفضول كسول».
إنه المحطَّم الذي يحاول أن يبحث عن ملاذه في الطبيعة. هذه الطبيعة دائما حاضرة مشهديّا ونفسيّا في الرواية. يبدو أن هيرمان هسه من أشد أنصارها، الطبيعة عنصر فاعل يتدخل في سير الأحداث. يؤمن هسه بضرورة البحث عن قيمة الإنسان في فطرته وفي كل بِكر من مظاهر الوجود الذي يحيطه. بالمقابل، يبدو أن الدمار الذي يصيب الروح التي خرجت من نقائها لا يمكن إصلاحه البتة، قد نرمم أنفسنا أمام ما ينالها من عطب، بيد أن هذه الحالة «لن تكون سوى محاكاة للحياة، ولن تصير أبدا شجرة مكتملة الصحة».
فأي الإرادتين يمكن لها أن تثبت قوتها؟
نهاية الرواية رمزية إلى حد كبير، إذا قرأنا العمل من هذه الزاوية. يذهب هانز مع أصدقائه في يوم عطلة إلى مدينة مجاورة. يمرحون ويلهون ويرتادون الحانات. يشرب هانز كثيرا من الجعّة ويعود إلى مدينته ماشيا على قدميه. ثم في مكان ما، وقد فقد تركيزه وسيطرته على نفسه، يدخل الغابة، يذهب إلى البحيرة، يبتلعه الماء، ويموت غريقا.
«ولكنه لم يكد ينتهي من غنائه حتى شعر بالغثيان وانسال عليه طوفان عظيم حزين من الصور المشوشة وذكريات العار، واستبد به لوم النفس، فتأوه بصوت مرتفع، واستغرق في النحيب فوق العشب».
يقول سارتر: «إنما يُحدَّد الإنسان بأهدافه»، ويبدو أن الجذوة الغامضة التي تتنزل من الأعالي لم ترضَ لنفسها في هذه الرواية بأن تنزلق إلى مكان عبثي، أو تكون من دون أهداف تخرجها إلى الوجود. الطبيعة والروح شيء واحد، توأمان لا يفترقان.. في «الطفل الموهوب» استردت الطبيعة أمانتها، ولُفظت تلك الروح العبقرية من عالم رتيب.


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...