في الاحتفاء بفوز زهران ممداني

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

المهدي مبروك
وزير الثقافة التونسي سابقا.أستاذ جامعي.

 

 

ثمة احتفاء عربي بهيج بفوز زهران ممداني، صادرٌ تحديداً عن فئتَيْن واسعتَيْن: أنصار القضية الفلسطينية، الذين اكتووا (خصوصاً بعد “طوفان الأقصى”) بسياسة المكيالين التي توخّاها الغرب في التفاعل مع قضايانا العربية عموماً، في انتهازية الضمير الغربي وصمته، الذي سكت عن الإبادة أو تواطأ معها، وشباب واسع يرى في زهران شابّاً يافعاً استطاع أن يهزم “المؤسّسة” التي رانت على قلوب الأميركيين دهراً طويلاً. لذا، يستند هذا الاحتفاء إلى مصدرَيْن: الأول، ثقافي سياسي، يمتح من قيم عالمثالثية مناهضة للهيمنة الغربية، ويمكن أن ندفع هذه المشاعر إلى أقصاها حتى نعتنق قيم مناهضة الإمبريالية، وهذا الحنين كلّه إلى ما بعد الكولونيالية التي أيقظتنا على تراثها العريق الحربُ الصهيونيةُ على غزّة، فنكتشف أن زهران قد اهتم في دراسته الجامعية بالمفكر فرانز فانون. وكانت كتابات أبيه (محمود ممداني) مُحفِّزةً له ومُؤطِّرة. الثاني، المشاعر والعواطف والأفكار الجيلية التي تنتشي لشابّ في مطالع ثلاثينياته، استحقّ هذا المجد كلّه، وهو الذي لم يتربّع على “عرش عمادة” الولايات المتحدة في العالم بأكمله… إنها مدينة نيويورك.

يدلُّنا ممداني على نيويورك أخرى لا تقلّ فتنةً ومتعةً، هي نيويورك المهاجرين، هُويَّةً وتراثاً ومصيراً مشتركاً

هذا الجيل، كما ذكر زهران نفسه، تربّى على ارتدادات أحداث نيويورك التي شكّلت منعطفاً مهماً في تاريخ البشرية، لا الولايات المتحدة فقط. من كان يعتقد أن “هيروشيما الولايات المتحدة”، التي ضربتها في صميم كبريائها هجمات 11 سبتمبر (2001)، ستنجب لنا الفتى زهران بعد عقدَيْن ونصف العقد تقريباً؟ هذا الجيل الأميركي الذي يُبتزّ من أجل التنازل عن هُويَّته تحت قصف الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب، يتخلّص تماماً من هذه السردية الماحقة. يكرّر زهران في خطاباته العديدة أنه مسلم، ولن يعتذر عن مواقفه السابقة، بل يُعرّج دوماً على ما عانته عائلته (عمّته وجدّته وكثيرون من أقاربه وجواره) من خوف وهلع كانا يلاحقانها كاللعنة أينما تنقّل أفرادها، إلى حدّ أن بعضهم اختار الانزواء. يصوغ سرديةً مغايرةً مستنداً إلى الثقافة الأميركية نفسها، وتحديداً ثقافة نيويورك، التي يعيد تجذيرها في زمنها الخاص بالمعنى الذي قصده بول ريكور، أي الهُويَّة السردية: تحتضن نيويورك المهاجرين، بل هي مدينة من صنع أياديهم ونتاج عذاباتهم. لم تكن نيويورك مدينة الأحلام والثورة والأضواء، بل كانت في أصلها مدينةَ التعب والإنهاك والغربة، وهذا هو رأسمالها الخالد والمجيد. أفلح الفتى ممداني في إعادة تملّك تاريخ آخر لنيويورك، ونحت هُويَّة أخرى غير هُويَّتها التجارية المُفرغة من كلّ حسّ إنساني، واختزلتها في “كنيسة الرأسمالية” الباذخة. يدلُّنا زهران على نيويورك أخرى لا تقلّ ألقاً وفتنةً ومتعةً، هي نيويورك المهاجرين، هُويَّةً وتراثاً ومصيراً مشتركاً.
وما كان لأحلام زهران أن تجد هذا القبول كلّه لولا “طوفان الأقصى” الذي مهّد لجرأته لتذهب بعيداً، فغرّد خارج السرب، ولكن سرعان ما استفاد من المدّ العاطفي والفكري الذي غمر لاحقاً الرأي العام الأميركي والعالمي. تشكّل تيارٌ كاملٌ هو بالأحرى أقرب إلى الثقافة الجيلية التي بدت تظهر تدريجيّاً منذ سنوات، وعبّرت عن نفسها في حركات اجتماعية على غرار “احتلوا وول ستريت” و”حياة السود مهمة”… إلخ، وهي التي أشعلت جبالاً من الغضب، فضلاً عن احتجاجات واسعة مساندة للمهاجرين وغيرهم. هي تحرّكات خاضت صراعاتها مع يمين ثقافي سياسي متكلّس، لكنّه ظلّ يتحكّم في إنتاج العواطف والمواقف والقناعات من خلال تلك الآلة الجهنّمية الرهيبة، التي قُدَّت من تحالف وثيق بين المال والإعلام، ويركع لها الجبابرة.

علينا ألا نُفرط في القراءات السعيدة لفوزه ممداني بعمادة نيويورك، فالتاريخ ماكر. وقد يُخبِّئ لنا ما يُحبط فألنا

هذه الجرأة، وكسر حاجز الخوف حدّ المغامرة (والمقامرة) بالمستقبل السياسي، جلبا له هذا التعاطف كلّه، ثمّ ما يشبه المداواة بالكيّ فيما يقوم به الفتى زهران منذ بداية حملته الانتخابية، أو حتى قبل ذلك: يتكلّم العربية، ويصلّي في المساجد، ويعلن أنه اشتراكي ديمقراطي، ويهاجم ترامب في ما يشبه التحدّي. هناك ربّما شعرية كبرياء مُنافِحة في سلوك الفتى، تجعله طيفاً وحلماً ورغبة، أكثر منه أثراً وفعلاً ورهاناً واقعياً ملموساً. نحن أمام حالة شعرية حالمة، متدفّقة، قد تفوق الواقع وحجمها الحقيقي، إذا ما استحضرنا قوة “المؤسّسة”، ومحدودية منصب العمدة هناك، رغم ما يتمتّع به من نفوذ وموارد وقدرات، يراهن عليها من أجل تكريس حقوق الفئات العاملة وتعزيز خدمات العدالة الاجتماعية… في ذلك كلّه يبرز جلياً ما هو أميركي محض، وثمّة ما هو كوني عالمثالثي في زهران ممداني.
نشأ ممداني في بيت كان أشبه بالمخبر “الديكولونيالي” (تحليل الممارسات الاستعمارية، والاستعمارية الثقافية والسياسية والاجتماعية). كان والده أحد مريدي المفكّر الديكولونيالي فرانز فانون، فضلاً عن تماسّه مع ما كُتِب، على غرار مدرسة التبعية، وأبرز رموزها خلال الربع الأخير من القرن الماضي، سمير أمين، ودو سانتوس… إلخ.
وأخيراً، اهتمام الفتى زهران بـ”الربيع العربي”، وأساساً انكساراته الحزينة من خلال ما عاين مباشرةً في مصر في أثناء الانقلاب، كان له ملهماً للتعاطف مع حركات الشباب أينما اندلعت. علينا ألا نُفرط في القراءات السعيدة لفوزه بعمادة نيويورك، فالتاريخ ماكر. وقد يُخبِّئ لنا ما يُحبط فألنا. وذلك ما لا نتمنّاه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...