تونس تختنق فعلا…

إيطاليا تلغراف

 

 

 

محمد كريشان
كاتب وإعلامي تونسي

 

أحداث عديدة وخطيرة عرفتها تونس في الأيام الماضية، تضاف جميعها إلى ما شهدته مدينة قابس في الجنوب الشرقي من مظاهرات ضخمة ضد التلوث، لتشكّل كلّها لوحة قاتمة تعكس الاختناق السياسي والاجتماعي في البلاد.
الحدث الأول هو وصول المعتقل السياسي جوهر بن مبارك، الأستاذ الجامعي في القانون الدستوري، حد شن «إضراب جوع وحشي عن الطعام والماء والدواء» ابتداء من الأربعاء الماضي، مبرّرا ذلك بأنه سبق له أن دخل في ستّة إضرابات عن الطعام، كان يضع حدا لها بعد أسابيع «إيمانًا منّي بأنّ الرسالة قد وصلت، وأنّ المظلمة ستنتهي… لكنّ كلماتي لم تُسمَع، ومن كان به صممٌ ما زال على صممه»، محمّلا «رأس السلطة الانقلابية قيس سعيد المسؤولية الكاملة» عمّا سيؤول إليه وضعه الصحّي، قائلا له «سأعيش حرًّا… أو أموت حرًّا».
الحدث الثاني هو ما وصف بـ «الحكم الفضيحة» الصادر ضد المحامي والقاضي السابق أحمد صواب بسجنه مدّة خمس سنوات مع إخضاعه للمراقبة الإداريّة لمدّة ثلاث سنوات. حكم أدانته هيئة الدفاع عنه قائلة إنها « تُشهِد الرأي العام الوطني على مدى العبث الذي بلغه التعاطي القضائي مع الحقوق والحرّيات، بما أدّى إلى محاكمة برقيّة لم تتجاوز سبع دقائق، جرت دون مرافعات وفي غياب المتهم وهيئة دفاعه»، فيما بلغ الغضب العارم بالمحامي سامي بن غازي أن كتب صارخا «أوقفوا الدراسة في كليات الحقوق، وأحرقوا مجلات الإجراءات، وامحوا دروس القانون الجزائي!! فما يُدرَّس في القاعات لا يمتّ بصلة لما يجري في ردهات المحاكم».
الحدث الأخير، أبان مرة أخرى، على استهتار غير مسبوق بكل الإجراءات القانونية التي عرفتها تونس حتى في أحلك فترات الاستبداد زمن الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بحيث بدا العهد الحالي ليس فقط منتهكا بالكامل لمنظومة القوانين والإجراءات في المحاكمات السياسية، بل ومستخفا بالكامل بكل الغضب الناتج عن ذلك، والذي امتد الآن حتى إلى قضايا الحق العام إذ يكشف المحامون يوميا عن أحكام ظالمة وغريبة يروح ضحيتها العشرات.

يضاف إلى الحدثين ما رواه الشاب إلياس الشواشي عما لحق بوالده القيادي المعارض المعتقل غازي الشواشي صحبة عدد من رفاقه، المسجونين في ما يّعرف بـ«قضية التآمر» بعد أن رفض هؤلاء نقلهم من سجن إلى آخر، دون إعلام عائلاتهم أو محاميهم ودون موجب، فما كان من القائمين من السجن سوى الاعتداء عليهم بالضرب والإهانة وتكبيل أيديهم وأرجلهم بالسلاسل، بل وسحلهم لنقلهم بالقوة، وهم من هم شخصيات اعتبارية ووزراء سابقون.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد توجهت سلطة الأمر الواقع مؤخرا إلى التضييق على منظمات المجتمع المدني بتعليق نشاط العديد منها لفترات محددة بذرائع شتى مثل «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» و«جمعية النساء الديمقراطيات»، وكذلك نشاط «جمعية صحافيي نواة» التي تدير موقع «نواة» أحد أبرز وسائل الإعلام الاستقصائية المستقلة. توجه خطير قالت عنه نقابة الصحافيين التونسيين إنه «استعمال أدوات الإدارة والقضاء والأمن لتصفية الحسابات مع الإعلام والمجتمع المدني»، فيما طالبت مجموعة من الشخصيات الوطنية في عريضة إلى «التراجع الفوري عن هذه القرارات الجائرة ووقف سياسة الترهيب الإداري والقانوني تجاه المنظمات الوطنية المستقلة».
ولا يستبعد كثيرون أن تكون هذه الحملة تمهيدا لاستهداف أكبر يمس هذه المرة المنظمة النقابية الأكبر وهي «الاتحاد العام التونسي للشغل»، كما أوحت بذلك بعض أبواق السلطة في الإعلام، الأمر الذي سيعقّد أكثر الأزمة الراهنة التي لا تتعامل معها السلطة إلا بمزيد من الإنكار والهروب المجنون إلى الأمام واعتماد سياسة «أذن من طين وأذن من عجين».
ورغم أن هذه التجاوزات والتضييقات ذات الطابع السياسي لم تثر من الغضب الشعبي ما أثاره التلوث البيئي في مدينة قابس الذي خرجت للتنديد به أكبر مظاهرة شعبية في السنوات الماضية ضمت أكثر من مائة ألف مواطن، فإن المشترك الوحيد بين كل ما سبق هو وقوف السلطة عاجزة عن إيجاد الحلول المناسبة لأي شيء، سواء تعلق ذلك بالحياة السياسية أو الوضع البيئي أو تدهور مختلف الخدمات العامة من نقل وصحة وتعليم وحالة مجتمعية عامة من الإحباط.
لقد وصلت تونس بفعل كل هذه الأجواء إلى حالة من الانسداد والاختناق لم تعرفها أبدا في تاريخها، خاصة وهي تأتي مصحوبة بضائقة معيشية حادة تعاني منها كل الطبقات، مع ندرة في المواد الاستهلاكية الأساسية بسبب أزمة المالية العمومية، وتورط متواصل في المزيد من القروض الخارجية لدفع قروض سابقة، واعتقالات شملت رجال أعمال مختلفين دون تهم مقنعة ولا مثول أمام قضاء عادل، فضلا عن تساؤلات مزعجة تتعلق بسيادة القرار الوطني والأمني بعد توقيع اتفاقات دفاعية وأمنية خارجية لا يٌعرف مضمونها على وجه الدقة.
الطامة الكبرى أن السلطة هي الوحيدة التي لا ترى شيئا من هذا كله، فهي لا تجيد سوى الاعتقالات والمحاكمات والمنع ولا شيء آخر، مع مزاج شعبي عام من البهتة والاستسلام، مع أن البلد برمته هو من سيدفع ثمن كل ذلك غاليا جدا، لأن أجهزته وناسه سلّموا أمرهم كاملا إلى رجل واحد يحدثهم عن جرير والفرزدق!!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...