الحسام محيي الدين
ربما لم تمنح بيروت ظروفاً أفضل لممثلة المسرح اللبنانية ” سوزان بو علي ” كي تتابع اللعب على خشباتها مما تطمح إليه من أدوار تعترف لنا بأنها تستسيغ أصعبها في الأداء ، وأن ذلك جزء كبير من أحلامها المسرحية التي وجدت في بلاد الغرب الأميركية مجازاً درامياً مفتوحاً لتحقيقها حتى الساعة . ” بو علي ” بالمناسبة ، هي أستاذة ومؤلفة ومُخرجة مسرحية أيضا ، بكالوريوس في الفنون المسرحية من الجامعة اللبنانية ، عضو لجنة تحكيم في العديد من المهرجانات العربية والدولية ومؤطرة لورشات السيكودراما والأهداف التعليمية للمسرح المدرسي ، مثلت في العديد من المسرحيات داخل لبنان منها : مشكاة على الطريق ، العندريس ، جزيرة الماعز ، طرطوف ( تمثيل وإخراج ) ، قبل أن تنتقل إلى مقاطعة كيبك في كندا لمتابعة نشاطها المسرحي حيث لعبت دور البطولة في مونودراما ” صيف حار” ( Eté Chaud ) في مارس آذار المنصرم ، بإخراج دينيس شونارد ( Denis Chouinard ) ، وهي سيرة ذاتية لـ ” بو علي” كتبتها عن تجربتها الحقيقية خلال حرب تموز 2006 في أزمة الهجرة بين البحر والجو على مدى ثلاثة أيام من لبنان إلى كندا مع أولادها الرضّع ، وها هي اليوم في تعاون ثانٍ مع المخرج نفسه في الأول من ديسمبر الحالي لعرض واحد ، في مسرحية نوعية تختزل الزمن بجودتها شكلا ومضمونا هي ” ليزيستراتا ” ( Lisestrata ) التي كتبها المسرحي اليوناني الشهير أرستوفانيس عام 411 ق.م. من دون أن تعرض بعد ذلك وحتى وقت طويل ( عام 1800 للميلاد تقريبا ) ، وتقاسمت فيها دور البطولة كشخصية محورية بدور لامبيتو مع كل من ماري كريستين ريفار بدور ليزيستراتا ، مانون لافلاش بدور ميرين ، باتريسيا غودبيل بشخصية كالونيس ، فرنسوا ميشيل بدور كينياس ، نيونجا رزافندراب ( شخصية ثانوية ) ، موسيقى فيليب لوغو ، وذلك على مسرح ” جاك أوجيه ” بمدينة غاتينو في مقاطعة كيبك . هذه المسرحية إذن ، من الأعمال الشهيرة عالمياً لأرستوفانيس (446 – 386 ق.م ) رائد المسرح الساخر في مهده الأول لدى الاغريق ، وأحد أعمدة المسرح العالمي إلى يوريبيدس ( 480 – 406 ق.م. ) أسخيلوس ( 525 – 452 ق.م. ) سوفوكليس ( 496 – 405 ق.م. ) ، وهي تحكي قصة امرأة أثينية غير عادية ، قوية وجميلة ، منضبطة وشجاعة ، وتُعدّ أول بطلة على الاطلاق في الكوميديا اليونانية القديمة ، تدعى ” ليزيستراتا ” من الطبقة الوسطى ، تؤدي دورا ثوريا في مزيج نادر من الصفات التقليدية والتفكير بالمستقبل ، وتقود مجموعة من النساء من أجل وقف الحرب البيبلوبونيزية الشهيرة بين أثينا واسبارطة ، في خطة تقضي بتنفيذ خطوات عملية لنجاحها ، أهمها إعلان عصيان مدني ضد أزواجهن وعشاقهن من رجال المدينة المقاتلين على مستويين : الأول حرمانهم من المعاشرة ، والثاني منع عودتهم إلى منازلهم ما لم يلقوا أسلحتهم ويمتنعوا عن القتال ، ما سيدفعهم حتماً إلى ” رفع دعوى من أجل السلام ووقف الحرب بسرعة كبيرة ” . من أجل ذلك ، تدعو ” ليزيستراتا ” السيدة ” لامبيتو ” ( سوزان بو علي ) كبيرة نساء اسبارطة وقائدتهم ، الجميلة التي تتمتع بقوة بدنية رياضية عالية ، للتفاوض والاتحاد معاً لوقف الحرب وإحلال السلام ، فتقبل الأخيرة الدعوة بلا تردد حيث تعود إلى اسبارطة لتنظيم إضراب نسوي جنسي عن الرجال إلا من يلقي السلاح منهم ، حرصا منها على انهاء الحرب معتقدة أنّ الجنس يجب أن يتفوق على الحرب ولو بوسائل الاغراء والالهاء الأنثوية المتعددة ، لأن الخسارة ستطال الجميع حتماً ، الأطفال والعجائز ، والرجال المتحاربين أنفسهم . كما تقترح ” لامبيتو ” على ” ليزيستراتا ” احتلال النساء لقلعة المدينة ، أو الأكروبوليس ، للاستيلاء على خزينة الدولة وقطع إمدادات المال عن المقاتلين ، وهو ما حدث فعلا على الرغم من مقاومة شيوخ المدينة وشرطتها ، ومن رفض الكثير من النسوة للخطة إرضاء لأزواجهن كما فعلت ” كالونيس ( باتريسيا غودبيل ) التي تنتظر زوجها خمسة أشهر: ” افعل أي شيء ، أي شيء ، ما عدا مقاطعة زوجي ” ! فضلا عن انضمام بعض موظفي الدولة للتمرد ، لتنتهي الحرب بنجاح النساء في مشروعهن ، وعقد مجلس سلام وتحقيق المصالحة في أجواء مبهجة من الاحتفالات المشتركة بين المدينتين . انطلق المُخرِج من النص الأصلي لأريستوفانيس ومن نسخة ثانية مقتبسة عن مسرحية الأخير بالفرنسية للكاتب الكيبكي المعروف ميشال ترامبليه عام 1968 ، برؤية غربية إيجابية خاصة تتعامل مع النص كجسد متنام أكثر تماسكا ووحدة باتجاه الوصول إلى جوهر الأشياء والنظم الانسانية ، التي أحد وجوهها إيصال النساء إلى الواجهة السياسية في المجتمع والدولة مما أثبت أن للكوميديا الحقيقية وجهاً إصلاحياً رفدته جرأة الموضوع والأدوار حتى غطّت على مسائل الديكور والسينوغرافيا البسيطة التي صممت مع الموسيقى للجو الاغريقي ، عطفاً على توحد المسرح بالنهضة الثقافية المجتمعية يترجمه الاقبال الشديد في تلك البلاد على المسارح على ما علمنا . من المثير للدهشة أن ” ليزيستراتا ” لا تزال محور إعجاب وتفاعل صانعي الفنون الفرجوية على أنواعها كما يبدو ، نصّاً مثيراً للجدل بقوة أصالته وعمقه ، يتمتع بالجِدّة والحضور برغم حساسيته المُكثّفة بالنكات والقفشات والنقد الساخر ، حيث أمكننا رصد غير عمل عربي ، استوحى فكرة هذه المسرحية مُهمِلا ، عفواً أو قصدا ، الاشارة إلى مصدره الأرستوفاني ، ومستثمراً ربّما في انعدام ترجمتها إلى العربية ، كفيلم ” هلأ لوين ؟ ” مثلاً ، الذي استفادت منه نادين لبكي في إعادة إسقاط واضحة لما فعلته نسوة أريستوفانيس اليونانيات مع رجالهن ، على ما فعلته النساء ، مسلمات ومسيحيات ، ضد الرجال ولجوئهن إلى أساليب مغرية لإلهائهم عن الاقتتال الطائفي كما يقول الفيلم ، وهو ما يؤكد ، على أية حال ، أن الابداع الحقيقي لا يموت برغم كل المعوقات الثقافية بين شرق وغرب . لقد أظهرت المسرحية عراقة التحرر الفكري للمرأة وقوتها الثقافية في المجتمع اليوناني ، في وقت مبكر من تاريخ الانسانية لا نظير لمنجزاته الحضارية ، وتحدثت الشخصيات كثيرا عن الارض وتغيراتها المرتبطة رمزيا بجسد المرأة ، كما قدمت نموذجاً رائعاً من التمسك بالديمقراطية ، مع ما اجتمع فيها من الطرافة والحكمة والصراحة والتفصيل في حرمان الرجال من التمتع بالنساء ، مما اخترعته عقول النسوة في مواجهة العقلية الذكورية التي تم اختصارها في العرض بشخصية مسرحية واحدة فقط هو ” كينياس ” زوج ” ميرين ” ، حتى لقد اعتبر أريستوفانيس نفسه أن النص هو رسالة قوية ضد الحرب العبثية وضرورة إيقافها قبل أن تنهار دولة أثينا تحديدا، مما يمكن القول بصلاحيته اليوم في مواجهة الحروب التي يفتعلها بني البشر بسبب وبلا سبب .





