ذ.عبداللطيف الوراري
كاتب من المغرب
وحدة أُمّة
زلزال المغرب. زلزال الحوز. زلزال مراكش ومآثرها القديمة. زلزال تارودانت وقراها الطينية العالقة في أعالي جبال الاطلس والمنحدرة مع الأنساب والشعاب. زلزال قويّ مباغت بلغت مساحة هزّاته الارتدادية إلى نحو خمسمائة كيلومتر، فوصل إلى مدن كثرة؛ مثل: أكادير، والمحمدية، والدار البيضاء، والرباط، وفاس ومكناس، بل شعر به الناس في بعض مدن الشمال. لا يمكن وصف ما حدث ليلة الجمعة: كانت هناك رهزّة خفيفة قبل أن تعقبها بثوانٍ قليلة هزّة أقوى وأعنف، أثارت الذعر والهلع في نفوس الناس الذين خرجوا إلى الشوارع وانتبذوا العراء على خوف من أن يعود الزلزال ليضرب مرة أخرى، كأنما هو وقت «قياميّ». كانت أنفاس الساعة تلهث ببطء شديد، وما إن انبلج صباح السبت حتى وقف العالم على هول الكارثة، وبدأ عدّاد الموت وتحركت صافرات سيارات الإسعاف التي أخذت تحمل جثامين الموتى والمصابين والواقعين تحت الصدمة، من أحياء مراكش القديمة ومن البلدات المجاورة لها، فيما كانت ثمّة قرى متضررة ومنكوبة تمتدّ على الصراط الشاقّ والملتوي بين مراكش وتارودانت، يصعب الوصول إليها.
اشتعلت القنوات بأخبار الزلزال القويّ، ونقل مراسلوها مشاهد مدمرة من عين المكان، وخاض علماء الجيولوجيا في معجمه «الارتدادي» العابر للقارات وفي خطورة ما حصل، وكسا السواد مواقع التواصل الاجتماعي، وتقاسم مرتادوها مقاطع فيديو مؤثرة لتدافع الناس وهلعهم وقت الهزّة وهم يهرعون إلى الخارج، ومشاهد مؤثرة لمآثر وأبواب تاريخية تصدّعتْ، أو لقرى مدمّرة أو سُوِّيت بالأرض، لم يبق منها إلا مئذنة كأنها ثبتت على الحقّ لترفع أكفّها بالرحمة والدعاء وتُشيّع من رفع بنيانها في السماء آجرة آجرة إلى مجمع الخالدين. مثلما التقطوا قصصاً وحكايات لنساء وأطفال وشيوخ فقدوا جميع أفراد أسرهم وأقربائهم وأعزّ ما يملكون، بمن فيهم سيدة مفجوعة تسند خراب بيتها. وتحت أصوات التكبير، انتشلت إحدى فرق الإنقاذ رضيعةً حيّةً من حضن أمها الهامدة تحت الأنقاض، وأخرى جنينا تعلن صرخته الأولى وقد انقطع حبل سُرّتها للتوّ؛ فيا لبلاغة الحياة!
لقد كان الزلزال فاجعة بكلّ المقاييس؛ فاجعة وطنية وإنسانية وحضارية. ضرب الأرض وذاكرة التاريخ والجغرافيا، لكن هيهات أن يكون الزلزال قد ضرب الروح أو وجدان المغاربة الذين أعلنوا الحداد لثلاثة أيام، ونكّسوا الأعلام من أعلى مبانيهم الرسمية، وهبّوا عن بكرة أبيهم في قوافل تضامن شعبي منقطع النظير: التبرع بالدم، جمع المعونات العينية والمادية، ومواساة الجرحى والمكلومين، والمساهمة في رفع الأنقاض وانتشال الجثامين قبل أن تلحق بهم فرق الإنقاذ المتخصصة من بعض الدول الصديقة (إسبانيا، قطر، الإمارات، المملكة المتحدة..)، وليس أبلغ من شيخ الدرّاجة الهوائية الذي حمل كيس دقيق إلى جمع المتطوّعين وانصرف بصمت الأولياء، ولعلّ خطوات أبي العباس السبتي؛ أحد رجالات مراكش السبع، كانت معه: «الوجود ينفعل بالجود».
قصص الزلزال
ومثل غيرهم ممن عاشوا الفاجعة، في مراكش وغيرها، ينقل بعض الشعراء والكُتّاب انطباعاتهم المؤثرة مما حدث من لحظات الرعب في تلك الليلة المشهودة من يوم الجمعة، وكانوا بين حياة وموت. وصفت الشاعرة صباح الدبي بأنها كانت «ليلة عصيبة في مراكش، ليلة اختزلت الثواني المُدوّية زمنَها، وأصبح المكان في لمح البصر هاويةً محتملة، لم يكن لي موعدٌ سابق مع الزلزال، ليصبح صوتُ ارتطام الأرض في مراكش هادرا في ذاكرتي. الرعد يُدوِّي من الأعماق، وصوته تلبَّس بالجدران والأسقف والممرات. لم يسعفنا استيعاب اللحظة من الشعور بتمايل الأرض، دفعنا الصوت المرعب إلى الخارج، وسابقنا أقدامنا ورؤوسُنا مُنحنية كأننا نصدُّ ما سيرتطم بها من الأعلى، كنت متوجهةً إلى غرفتي في الفندق، ودون أن أدري غيَّرتُ وِجهتي ودخلت المطعم، حين عدت إلى الغرفة بعد ساعتين من الهزة لأحمل حقيبتي، كان جدارُها مُنشقًّا والممرات مُكتظة بالمزهريات المتكسِّرة والأتربة التي تناثرت من الأسقف، لا أدري لو حاصرتنِي الهزة هناك هل كانت ستحملني قدماي إلى الخارج أم كنت سأفقد وِجهتي في الممرات الطويلة والسلالم.. وجدتُ نفسِي مع الهاربين في ساحة المسبح التي ما زالت ترتجُّ وتتمايل تحت أقدام المفزوعين، أي سرعة أوصلتهم جميعا إلى هناك كأنهم أسراب طيرٍ فزعت مُجتمعة لكن على أرض مُرتجَّة، أما أفق المسبح فتحول إلى غيمةٍ سوداء نسجتها الطيور الحقيقية النائمة على الشجر. توجَّه الجميع بعد مرور الهزة المُرعِبة إلى خارج الفندق، حمدنا الله على سلامتنا وسلامة موظف الاستقبال، الذي تساقط أغلب زليج الجدار خلفه، وأصبح العراء ملاذاً لنا، نتقاسم الهلع، ويُهدئ بعضنا بعضا، ونتواصى بعدم الاقتراب من الفندق خوفا من هزة ارتدادية، كأننا أفراد عائلة كبيرة. لم يكن هذا ليخطر ببال أحد منا حين حجز إقاماته.. هكذا تُعيدُ الكارثة الإنسان إلى ضآلة حجمه، وإلى علاقته المُرتبكة بالزمان والمكان، وتكشف هول المسؤولية تجاه من يُقيمون في مناطق الصَّمت والنسيان».
وقال الكاتب والإعلامي ياسين عدنان: «حين داهمَنا الزلزالُ أوَّلَ مرةٍ، لم تكن مجرّدَ رجَّةٍ، بل إنَّ الأرض كادت تنسحِبُ من تحت أقدامنا. ومثلما ترْنَح الطائرة وهي تواجهُ مطبًّا هوائيا في الجو، رنَحَ البيتُ بنا. لكنَّ بيتنا ليس طائرا ذا أجنحةٍ، فماذا يحدث بالضبط؟ ترنّح البيت بنا لمُدّة دقيقتين. ونحن، في الطابق العلوي، مذهولون لا نعرف كيف نُدَوْزِنُ خطواتنا، ولا كيف نقودها باتجاه سرير صَبيَّتِنا النائمة. وما كدنا نستفيق من الصّدمة ونتبيّن هولَ الحادث حتى انقطع التّيار الكهربائي. كانت أطول دقيقةٍ عشتُها في حياتي. وما إن وجدنا أنفسنا حافيَيْن في ظُلمة الشارع وبيان بين ذراعَيْ محاسن حتى تنفّسْنا الصُّعداء. كانت رجّةً عظيمة عرْبدَتْ فيها الأرض تحت أقدامنا: هزّةً بقوة 6.8. منذ تلك الهزّة حتى هذه اللحظة، ونحن عاجزون عن استعادة إحساسنا الاعتياديِّ بالأمان».
وكتبت الشاعرة إلهام زويريق: «لحظة لم تتعد ثواني معدودات. زلزال كشف عن وجه آخر للطبيعة، بعنوان اسمه كارثة طبيعية، اهتزت معها مشاعر كل واحد، خليط من الأحاسيس المتناقضة: فرح وحزن، أمل ويأس، ابتسامات ودموع، تشتت الأحلام كما تشتت المباني. كل شيء يرتعش من حولك وأرض تهتز تحتك، صوت يشبه الهدير أو أقوى، مبان تتراقص، أصوات وصراخ وصلاة، انطفأت الأنوار، ليسيطر فزع على القلوب والأرواح، أناس يجرون هنا وهناك، فوضى في الطرقات، مبان تساقطت كأوراق الخريف. وسط كل هذه الفوضى تظهر قوة الإنسانية في تضامن الناس، كل يسأل عن الآخر، خوف عميق سيطر على قلبي، ودموع انحبست، هو ليل سيبقى خالدا في ذاكرتي ما حييت، ولحظة تجعلنا نتساءل وبشكل متكرر عن معنى الحياة!».
وعبّر آخرون عن مشاعر مهيبة لكنها تتخفف من هول اللحظة لتتحوّل إلى ما يشبه موقفا أو درسا أو خاطرا تأمّليا مما جرى، مثل الذي عبر عنه القاص والروائي أبو يوسف طه؛ حين رأى أن «ما حدث إثر الزلزال من فواجع ومن كشف عن المستوى المتدني للساكنة، ومن نبل الشعب المغربي وأريحيته في التضامن والمؤازرة، سلط الضوء على المجالين القروي السهلي والجبلي.
هذا المجال الذي كان جاذبا بما هو عليه للفرجة السياحية الوطنية والأجنبية، مع وجود منتخبين وسلطة، مع الأسف لم يشغل بالها وجوب تحريك تنمية مطالبة ترفع مستوى السكان وتغير نمط حياتهم نحو الأفضل. إن ذلك الرضى والاستسلام لتلك الظروف يجب أن يزولا بـ(تمدين المجالين)». مثلما انتقد ما سماه «عين الأدب العمشاء»، لأن «ما كشفه الزلزال مهم للغاية. حينما انفتحت الكاميرات على العالم المخفي، الموجود خارج وعي الكتابة، يُطرح سؤال فاصل بين الكاتب المعزول عن واقعه، كاتب المقهى، والكاتب المأمول المتسلل إلى عمق الواقع. الكاتب المؤرخ الرائي غير الغائص في وحل حداثة وهمية، المستلب بأحاسيس وتخيلات وأفكار ليست من قارته، الكاتب المودرن، المتعيش على المزاعم». فقد كشف الزلزال ـ في نظره- أمرين لا فضل بينها: «جرح الهوية» حيث خسر الذين لا يتحدثون الأمازيغية شطرا أساسيا من هويتهم ومن مواطنيهم، و»الجهل الاجتماعي» الذي يتبدى ذلك في غياب المجتمع المخفي، مجتمع الهامش الذي انكشف بشكل واضح، مجتمع البادية. ومن ثمة، هناك خطاب آخر لا يسمعه الكتاب لأن بلاغة المدينة والصالونات السياسية تخفيه، ويتوضح من هذا التجاوز أن الخطاب الأدبي تغيب عنه النظرة الكلية ويتسم بالتحيز والبرود إزاء ما هو واقعي وحقيقي».
وفي مدن أخرى وصل إليها ارتداد الزلزال؛ مثل المحمدية، قال الشاعر صلاح بوسريف: «ما عشته ليلة السبت، كان مفزعاً، في لحظته الارتدادية، التي صار فيها البيت كأنَّه خيمة تحتها ريح، أو بيت سكران، وكنت في كل لحظة، وأنا لا أستطيع الحركة بشكل طبيعي، أتوقَّع سقوط الجدران التي بدت كأنَّها انفصلت عن بعضها، لما شابها من ارتعاش وتقهقر. لا مُبالغة في الأمر، فرغم ما أتَّسِم به، في العادة، من هدوء وثبات في حالات الاضطراب والخطر، ارتبكتُ، لما كنت داخله من وضع، ولعلَّ الشقوق في جدران السطح، كما تفحصتها بعد انتهاء الزلزال لأرى ما يمكن أن يكون حدث في البيت، رغم صلابته ومتانة بنائه، تكشف عن عنف الزلزال، رغم أننا لم نكن ضمن بؤرته التي كانت فيها الخسارات كبيرة وجسيمة، في البناء وفي الأرواح». ورأى أن ما يجري في الطبيعة من انقلاب، أو ما صار يحدث من أوبئة، وفيضانات وزلازل، ودرجات حرارة غير مسبوقة، وبشكل شبه يومي، في مناطق متفرقة من الكون، «لا يمكن تبريره»، لأن «هناك من يعبثون بالطبيعة، ويعبثون بالكون وبالإنسان، من يظنون أن العلم والثروة والسلطة سمحت لهم أن يفعلوا في الكون ما يشاؤون، بما يظنونه تقدما، وهو، في نهاية الأمر ليس سوى توحُّش وهمجية، ورغبة في تدمير توازنات الوجود والكون، وما كانت عليه الطبيعة من عقل به تُدِير شؤونها».
ما ندين به للمغرب
تضامن الناس من كل جهات المعمورة مع البلد المنكوب بوسائل التعبير الممكنة، مثلما تضامن كثيرٌ من الكتاب والمثقفين العرب وربط بعضهم ذلك بذكرياته الشخصية مع هذا البلد، أو ما يدينونه به تجاهه من أفضال وأيادٍ بيضاء عليهم وعلى الثقافة العربية؛ كأن يربط الشاعر الفلسطيني غسان زقطان طفولته بالمغرب الذي «كان كل شيء يأتي منه»، قائلًا: «لعل هذا يعود لوجود فرع من العائلة ترجع أصوله القريبة لمنطقة في جنوب مراكش، ربما لهذا النسيج المتشابك من الذكريات والوقائع والشهود والمبالغات التي يفرضها البعد والحنين، ولوجود حكّاء مدهش ومحارب نبيل مثل المرحوم عبد الحميد المغربي. أفكر بكل هذا بحلم الذهاب الى المغرب وبالسارد الأول الذي حظيت بحضوره في حياتي وأنا أتفقد بيوت المغاربة وقراهم البعيدة في الجبال بين جبال الأطلس، وأنا أحدق في الغبار والخدوش التي تدفقت من الفضائيات وغطت يدي ووجهي». وكتبت الشاعرة الإماراتية ظبية خميس: «أنا مدينة للمغرب بكثير من المحبة فقد عشت كرمها وتقديرها الأدبي لي لأكثر من أربعين عاما منذ بداياتي الأولى، وهي أكثر دولة دعتني للقاءاتها الإبداعية من أصيلة إلى فاس وغيرها. المغاربة كرماء في كل شيء، وخصوصا في ودهم ولطفهم وحسن استقبالهم وجمال وجدية ملتقياتهم. أحب المغرب». وأضافت: «لم أر سوى الجمال المبهج في المغرب وروعة الطعام والملابس والطبيعة والثقافة والموسيقى والفن والغناء، وأنا أجوبها من طنجة وأصيلة إلى الرباط وكازابلانكا وفاس ومكناس والمحمدية ومراكش وأغادير. شعب من أرقى وألطف الشعوب يتنفس أصالة وثقافة ومحبة».
وتعاطف الكاتب السوري صبحي حديدي مع المغرب في نكبته، وقال: «للنكبة هذه مضاعفات أشدّ وطأة ربما، وتداعيات أعمق حفراً في الوجدان الذاتي، وأبعد أثراً من حسّ التضامن التلقائي الغريزي مع أحبائنا المغاربة؛ إذا كانت للمرء هذه أو تلك من الصفحات الفارقة والنوعية، التي حفرها المغاربة والمغرب في الذاكرة الشخصية، كما هي حال هذه السطور بصدد صداقة مع البلد وأهله تقترب من ربع قرن»، واسترجع قصيدة بدر شاكر السياب «في المغرب العربي» (1956)؛ حيث «آجرّة المغرب اليوم حمراء قانية، وشارة حزن وبلاء ونكبة، ومدعاة عزاء وعناق وتضامن». وهي القصيدة نفسها، التي وجد الكاتب اللبناني إلياس خوري أنها تجسد «هذه العلاقة بين الأرض والنبض، بين الأرض، وإيقاعات الحياة في أجسادنا، هي التي صنعت هذا الحب وأدخلت المغرب العربي من جديد في تاريخ مشرقنا من دون قرع أي باب»، وأضاف: «أشعر وأنا أنظر إلى المشاهد في المغرب، بأن قلبي ينخلع، لأن قلبي هناك مثلما هو هنا، ولأن روحي هناك مثلما هي هنا، المغرب الذي استقبلنا جميعاً بعينَين مفتوحتين، وجعلنا نشعر بأن لوطننا لكنة أُخرى ولهجة أُخرى هي اللهجة المغربية، وأن لهجة المغرب هي جزء من لغتنا، وأننا شعب إحدى ميزاته تعدد لهجاته التي تستوعبنا جميعاً. لهذا المغرب أنحني اليوم للموتى، وللأحياء، للذين ينتشلون المصابين من تحت الأنقاض، للأنقاض التي يجب أن نعيد بناءها، وأقول أنتم في قلوبنا». وعلق الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد: «من لا يحب المغرب وأهلها ومثقفيها وفنانيها الذين وسعوا لنا الدنيا بزيارات مدنهم ورؤية تاريخهم، وبما قرأناه لهم من شعر وقصة ورواية ونقد وفكر وغناء وموسيقى. من لا يحب المغرب التي لها في بلادنا شوارع بأسمائهم وتاريخ من الحياة المشتركة. من لا يحب المغرب التي منها وفد كل أولياء الله إلى بلادنا فأعطوها الأمل ورفعوا من روحها إلى السماء»، في ما لم يجد الشاعر الفلسطيني عمر شبانة أبلغ من جلال اللحظة: «لا كلام يكفي للتعبير عن عواطفنا.. سلامات دائمة لمراكش التي احتضنتي مُطولا». وكتب مارسيل خليفة مبدع الألحان العظيمة في زمن العذابات:
«أهلي في المغرب
شمعة على كل درب
أهلي في المغرب
للدمعة طعم ماء البحر».