الحرب الروسية الأوكرانية استعراض مفتوح لقوى الرأسمالية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

ذ.أحمد صفي الدين
كاتب ومحلل اقتصادي

 

 

 

تُعَد الحرب الروسية الأوكرانية واحدة من أهم الأزمات السياسية والعسكرية التي يشهدها العالم، فقد خلقت أزمات سياسية واقتصادية وأمنية، بدءا من أوروبا التي تقدم الدعم بشكل متواصل لأوكرانيا ضد روسيا منذ البداية وحتى الآن، مرورا بالقارة الإفريقية التي وجدت اقتصاداتها في مواجهة آثار هذه الحرب، وصولا إلى أمريكا التي تخوض حربا نظامية ضد روسيا بتقديمها الدعم المباشر لأوكرانيا، والدخول إلى منطقة الشرق الأوسط التي أصبحت ساحة صراع مفتوحة على مصراعيها لجميع القوى المتصارعة.

وكما يبدو من المعطيات والمجريات الحالية، ليس ثمة نهاية قريبة لتلك الأزمة في الوقت الراهن، فالحرب الأوكرانية الروسية معقدة وذات أسباب متعددة، ومع ذلك كان لها الفضل جزئيا حتى الآن في استعادة توازن العالم.

وكما هو معلوم، وراء هذه الحرب العديد من الأسباب أحدها الصراع الجيوسياسي، فقد تعارضت مصالح روسيا وأوكرانيا في المنطقة، حيث تسعى موسكو إلى الحفاظ على نفوذها في منطقة البحر الأسود ومضيق كيرتش، بينما تحاول كييف تحقيق الاستقلال والتوجه نحو الغرب، حيث تُعَد المناطق الشرقية لأوكرانيا موطنا للأوكرانيين الناطقين بالروسية، ويشعر كثير منهم بالانتماء إلى روسيا وليس لأوكرانيا، مما أدى إلى صعود الحركات الانفصالية التي تدعمها روسيا.

والأهم من ذلك، الأسباب الاقتصادية، وهي التي سنستفيض بالشرح فيها من خلال هذه السطور، فقد تعرضت أوكرانيا لأزمة مالية واقتصادية منذ عام 2014، وأدى ذلك إلى تراجع قيمة العملة الأوكرانية وزيادة معدلات البطالة والفقر، لتكون نقطة ضعف تنطلق من خلالها روسيا للدخول إلى جارتها المنهكة اقتصاديا.

ومع دخول العام الثالث على الحرب، يتضح جليا أنها حرب الهيمنة على العالم، بين قوتين عالميتين، كل منهما تحاول التفرد بعرش الهيمنة، وتوريط دول أخرى في تلك الحرب، فقد بات واضحا أن أمريكا استطاعت زج الدول الأوروبية في الحرب وكسبها إلى جانبها، بل دفعتها إلى إرسال آلاف الأطنان من الأسلحة ومضادات الطيران والمئات من المستشارين والخبراء العسكريين والأمنيين إلى أوكرانيا.

الصراع بات واضحا حاليا أنه بين قوى الرأسمالية العالمية، ويمكن عدها بأنها حرب إمبريالية، وصراع بين قوى من يمتلكون الهيمنة العالمية، والهدف البعيد الذي بات واضحا تماما هو هدف الولايات المتحدة لإضعاف قوة الصين الشعبية الصاعدة.

فمنذ بدايات الصعود المتسارع للقوة الاقتصادية والعسكرية للصين في بدايات القرن العشرين، أصبحت العلاقات مع آسيا ككل ملفا ساخنا باستمرار على مائدة البحث في دوائر صناعة القرار والبحث الأمريكية، بعد أن وجد الأمريكيون أن نفوذ بلادهم المطلقة في هذه المنطقة عرضة للتآكل أمام تنامي النفوذ الصيني.

وخلال العقد الثاني من القرن الحالي، وفي ظل القيادة الحالية للرئيس شي جين بينغ، تعمل الصين بنجاح على تغيير ميزان القوة في آسيا وغيرها، بشكل جذري وعلى حساب الولايات المتحدة.

فالتنين الصيني نجح في زيادة قوته العسكرية، ويمارس القهر الاقتصادي على الدول التي تتحدى أهداف بيجين، ويسعى إلى تدمير المصالح القومية الأمريكية الحيوية، وتستخدم الصين الآن قوتها وإرادتها لقلب النظام الإقليمي في آسيا والنظام العالمي ككل.

وفي ظل هذه الظروف تحتاج الولايات المتحدة إلى تكريس المزيد من الجهد والوقت والموارد لصالح آسيا حتى تتمكن من علاج التدهور في التوازن الإقليمي بالمنطقة، ففي حين ما زالت الولايات المتحدة منخرطة في المناطق الأخرى وتحمي مصالحها في الولايات المتحدة والشرق الأوسط، عليها تبنّي توجه جديد نحو آسيا.

وتسخّر واشنطن قوتها حاليا كي لا تنتصر روسيا في الحرب، من أجل ألا تخسر هيبتها في العالم، ومن ثَم مناطق نفوذها في دول عدة بالمنطقة، فواشنطن تستهدف حكم العالم وفق نظام جديد لا مكان فيه لروسيا أو الصين، وكل طرف منهما يستخدم نفوذه وأدواته السياسية وأسلحته العسكرية لتحقيق مبتغاه.

وإذا كان استمرار دعم أوكرانيا أمرا حيويا، فالمطلوب أيضا تقوية الحلفاء في أوروبا حتى تتمكن واشنطن من نشر جزء أكبر من قواتها الجوية والبحرية في آسيا، ويمكن أن تفعل الولايات المتحدة الشيء نفسه في الشرق الأوسط.

ولا يخفى علينا أن أمريكا ورطت أوكرانيا في الصراع، وحثت الحلفاء من أوروبا وغيرها على وضع كل الطاقات الممكنة لخدمة أوكرانيا، من الطاقة والنفط والسلاح إلى المواد الغذائية.

أوكرانيا تضررت كثيرا من هذه الحرب، وتدمرت مناطق من أراضيها ومدنها بشكل كامل، كما أن روسيا خسرت الكثير من طاقاتها، وتلقت خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وفرضت العديد من الدول الغربية عقوبات اقتصادية وسياسية عدة عليها بسبب حربها على أوكرانيا، هذه العقوبات أثرت بشكل مباشر في الاقتصاد الروسي، وزادت الضغوط على الحكومة الروسية.

هذه الحرب التي أنتجت تغييرات كثيرة على المستويين الإقليمي والدولي، وفتحت المجال أمام ظهور تكتلات جديدة في المنطقة والعالم، لا بد من رؤيتها وأخذها بعين الاعتبار من الآن فصاعدا.

وفي النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية أعطت دفعة كبيرة للحديث عن العالم المتعدد القطبية الذي بدأت ملامحه تتشكل قبلها بسنوات، بظهور قوى دولية جديدة تسعى لتحدى هيمنة القطب الأوحد، ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية، التي سبق أن انفردت بإدارة العالم بعد خروجها منتصرة من الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي.

وقد أعطت هذه الحرب فرصة لإيجاد عالم متعدد الأقطاب بمقومات وأسس ومرتكزات جديدة، بما سيسمح للدول الكبرى والصغرى لأخذ مساحة كبيرة في ظل صيغة متعددة القطبية أو نظام عالمي قائم على التعددية تؤدي فيه قوى إقليمية دورا مؤثرا في محيطها، وهو -كما نعتقد- صيغة أفضل لإدارة العالم من صيغة القطب الأوحد التي كانت كارثة على العالم، وانتهكت حقوق دوله وشعوبه.

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...