ذ.إبراهيم نوار
كاتب مصري
وجد بنيامين نتنياهو نفسه في واشنطن يتحرك في ميدان مفتوح وجمهور يصفق له، وكأنه هو الرئيس القادم للولايات المتحدة! وبينما تأخذ إسرائيل من أمريكا كل ما تريد ولا تعطيها شيئا، فإنه وصف همجيتها ووحشيتها ضد الفلسطينيين على أنها حرب من أجل انتصار الحضارة على البربرية، وأنها حرب لمصلحة أمريكا ودفاعا عنها. وقال إن إسرائيل كانت الهدف الأول، بينما الولايات المتحدة هي الهدف التالي. وأن مهمة الحرب الإسرائيلية في الشرق الأوسط مستمرة، حتى يتم القضاء على أعدائها جميعا مرة واحدة وإلى الأبد. وأن تدفق السلاح الأمريكي، وضمان استمرار الحماية الدبلوماسية الأمريكية، والمساعدات المالية إلى إسرائيل، واجب تجاه أقوى حلفاء الولايات المتحدة في العالم. وأن الدعم الأمريكي لإسرائيل ليس قضية حزبية يختلف بشأنها الديمقراطيون والجمهوريون، وإنما هو قضية قومية أمريكية.
هكذا كان منطق نتنياهو في واشنطن، وهكذا حصل على تأييد كامل غير منقوص وغير مشروط من الجمهوريين، غير أن لقاءه مع الرئيس الأمريكي- الصهيوني بايدن لم يكن ناجحا، لأنه اصطدم بعقبتين: الأولى هي المساعدات الإنسانية التي أصبحت تتحكم فيها إسرائيل، والثانية هي ربط الإفراج عن المحتجزين بجدول زمني لوقف القتال وإعادة الأوضاع إلى طبيعتها في غزة. وزاد الطين بلة أن نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس قاطعت لقاءه مع أعضاء الكونغرس. وحين التقته قالت بوضوح إنها لن تسكت على ما يحدث في غزة، وأن الانتهاكات الإنسانية ضد الفلسطينيين لا يمكن تبريرها باعتبارات تحقيق الأمن القومي لإسرائيل. وعلى الفور، بدأت جماعات اللوبي الإسرائيلي هجوما سياسيا قاسيا على هاريس، التي من المرجح أن تكون مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة المقبلة.
بينما عبّر لقاء نتنياهو مع المرشح الجمهوري دونالد ترامب عن تفاهم عميق يجمعهما، وأنهما، في حال نجاح ترامب، سوف يسعيان للبناء على ما تحقق خلال فترة رئاسة ترامب السابقة، خصوصا توسيع نطاق اتفاقيات “أبراهام”، وإقامة تحالف عسكري عربي – إسرائيلي – أمريكي في الشرق الأوسط.
استهتار بالقانون الدولي
في واشنطن حاول نتنياهو أن يصنع نصرا دبلوماسيا، يعوض به عجزه عن تحقيق أهداف حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. في واشنطن أعلن من جديد لاءاته أو خطوطه الحمر، لأي تسوية في الحرب ضد المقاومة الفلسطينية الصامدة: لا لدولة فلسطينية. لا لوقف الحرب في غزة قبل القضاء تماما على تهديد المقاومة. لا لعودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة. لا للانسحاب من معبر رفح ومحور فيلادلفيا. لا لحرية عودة سكان شمال قطاع غزة النازحين إلا بعد خضوعهم للتحقيق والتفتيش لمنع عودة غزاويين مؤيدين للمقاومة أو متعاطفين معها. لا لمنظمات الأمم المتحدة في غزة، خصوصا وكالة غوث اللاجئين. لا لبقاء قوات حزب الله جنوب نهر الليطاني. لا لوجود تهديد لإسرائيل في سوريا أو العراق أو اليمن. لا لامتلاك إيران للقدرات النووية. ومع التأييد الذي حصل عليه في الكونغرس، شعر نتنياهو بأنه فوق القانون الدولي، وأن إسرائيل تستطيع أن تفعل ما تريد في جيرانها، طالما إنها تضمن التأييد الأمريكي؛ فكل ما عدا ذلك، من وجهة نظره، هو مجرد قنابل صوتية لا قيمة لها. قرار محكمة العدل الدولية بأن وجود القوات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة بعد 4 يونيو/ حزيران 1967 غير قانوني، هو مجرد قنبلة صوتية، لأنه يفتقر إلى آلية تنفيذية، طالما أن الولايات المتحدة ستعترض عليه في مجلس الأمن الدولي. واعتراف دول أوروبية وآسيوية بالدولة الفلسطينية لا قيمة له، طالما أن هذه الدول لن تقدم دعما للمقاومة. وقرارات المحكمة الجنائية الدولية لا قيمة لها، لأنها هي الأخرى محكمة بلا أسنان، رغم ما يقال عن سلطتها في طلب القبض والإحضار للمتهمين بارتكاب جرائم ضد الشعوب. وفوق ذلك فإن نتنياهو يؤمن بأن العالم كله لا قيمة له طالما أن الدول العربية المؤثرة تمارس دبلوماسية التواطؤ على نطاق واسع وبلا استحياء، وأنها ليست معنية بحل حقيقي للمعضلة الفلسطينية، من خلال توظيف كل إمكاناتها النفطية والمالية والاستراتيجية، لتعزيز حل الدولتين، الذي دعت إليه مبادرة السلام العربية منذ أكثر من 22 عاما، وأن خلافات بعض الدول العربية مع حركة المقاومة الإسلامية، ستظل مبررا سياسيا للتواطؤ ضد المقاومة كلها وضد الشعب الفلسطيني. وقد وصل الأمر إلى أن بعض الأجهزة الأمنية العربية تعمل صراحة مع جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) لتنظيم تمرد ضد المقاومة في غزة، وتشكيل عصابات تخريبية تضع المقاومة أمام عدو من الداخل يسعى لنشر الفوضى.
لقد حصلت المقاومة الفلسطينية خلال الأسابيع الأخيرة على تأييد عالمي كبير على المستويين الشعبي والرسمي، من الصين شرقا إلى كندا غربا. وكانت المظاهرات الصاخبة ضد نتنياهو أمام مبنى الكونغرس عنوانا لهذا التأييد الشعبي العالمي. لكن قيمة المظاهرات تتحقق عندما تتحول هتافاتها السياسة إلى سياسات رسمية وإلى قوانين، وبغير ذلك فإنها تظل مجرد عنصر من عناصر الضغط على السياسيين، الذين ترتبط غالبيتهم بمصالح جماعات الصناعيين والممولين وتجار النفط والسلاح. ورغم الأزمة الراهنة التي يمر بها النظام السياسي العالمي، فإن هتافات المتظاهرين وجدت صداها في بلدان مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وبريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا والدنمارك. وهي دول تطالب صراحة بضرورة وقف المذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في وطنه، وتعلن أن التسوية النهائية للقضية الفلسطينية يجب أن تبدأ من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. في هذا السياق صدر بيان دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) منذ أيام. كما صدر أيضا بيان مشترك لحكومات أستراليا ونيوزيلندا وكندا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، ويطلب من إسرائيل الاستجابة لقرار محكمة العدل الدولية، التي قضت بأن مستوطنات الضفة الغربية والحكم العسكري الإسرائيلي هناك غير قانونيين. وجاء في البيان المشترك: “على إسرائيل الاستماع إلى مخاوف المجتمع الدولي، وإن حماية المدنيين أمر بالغ الأهمية ومطلب بموجب القانون الإنساني الدولي. ولا يمكن تحميل المدنيين الفلسطينيين ثمن إلحاق هزيمة بحماس”.
تغيير الحقائق على الأرض
لا تطلق إسرائيل التصريحات إلا بعد أن تكون قد خلقت واقعا جديدا على الأرض. وفي هذا السياق فإن تصريحات نتنياهو بشأن معبر رفح تم إطلاقها بعد أن فرضت القوات الإسرائيلية سيطرتها عليه، وعلى محور فيلادلفيا الذي يمثل منطقة عازلة بين حدود مصر وقطاع غزة بامتداد 14.5 كم من شاطئ البحر المتوسط إلى معبر كرم أبو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية. ويمثل احتلال المعبر والمحور انتهاكا لأحد ملاحق معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل. ولتأكيد الوضع الجديد تولت الجرافات الإسرائيلية، على مسمع ومرأى من العالم، إزالة البوابة الفلسطينية للمعبر، وهو ما يجرد البوابة المصرية من أي قيمة قانونية أو عملية. وتستطيع مصر إذا أرادت أن تمارس حقها السيادي في السيطرة على المحور والمعبر، ورفض وجود الدبابات والأسلحة الثقيلة والقوات الإسرائيلية الموجودة حاليا على بعد أمتار من الحدود المصرية، لأن وجود هذه القوات مخالف لاتفاقية 2005 المترتبة على فك الارتباط بين إسرائيل وقطاع غزة، وهي جزء لا يتجزأ من معاهدة السلام..
كذلك فإن إسرائيل عززت تقسيم قطاع غزة إلى شمال وجنوب، باحتلال وتعزيز تحصينات “محور نتساريم” الممتد من صحراء النقب إلى البحر المتوسط، وأقامت حواجز عسكرية تمنع عودة النازحين الغزاويين إلى الشمال، حيث تتجه إلى جعل شمال القطاع بداية لمشروع لإعادة الإعمار في غزة، على غرار مشروع مارشال، بعد تفريغه تماما من المؤيدين للمقاومة. هذا يعني أن وجود القوات الإسرائيلية في غزة من المرجح أن يكون طويل الأمد، إلى جانب قوة أمنية عربية يجري الإعداد لها. كما تقوم إسرائيل أيضا بإعداد قوة عسكرية خاصة في معسكر قريب من غزة (داخل منطقة الغلاف) لتكون قوة للتدخل السريع وفرض الأمن بالقوة في حالات الاضطرابات. القرار الثالث الذي صدر قبل ساعات من زيارة نتنياهو للولايات المتحدة تمثل في السماح للقوات الجوية الإسرائيلية، ومنها الطائرات المسيرة بالتدخل في العمليات العسكرية الجارية حاليا في الضفة الغربية في مواجهة المقاومة المناهضة للاستيطان، على التوازي مع تكثيف تنفيذ خطة تهويد الضفة، بزيادة عدد المستوطنات اليهودية وتوسيعها، وتحويل الفلسطينيين إلى أقلية مضطهدة داخل أرضهم، التي قالت محكمة العدل الدولية إنها أرض محتلة لا شرعية لوجود إسرائيل فيها. وتدير الوكالة اليهودية في الوقت الحاضر حملة تعبئة واسعة النطاق لاستقدام موجة كبيرة من المهاجرين اليهود من أوروبا وروسيا وأوكرانيا، للعيش في المستوطنات الجديدة.