أغنياء في المبادئ فقراء في المؤسسات.

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

د.محمد عمر أحمد

 

 

 

المجتمعات الغربية أنزلت ( النص) الديني عن عرش الحكم، وأزالت سلطته، فتساوى الناس، وبقيت آراء لا ميزة لأحد منها على غيره فاحتكموا إلى ( الأغلبية) والصندوق في مجال السياسيي، وفي المجال الاجتماعي أقروا بمبدأ الحرية، وفي حالة النزاع على (الحريات) ومدى تقييدها، والحجر على أصحابها منحوا (القضاء) سلطة فض النزاعات والتوفيق بين المصالح المتعارضة بين الفرد والمجتمع.

عندنا- المسلمين- الآن ( النص) الديني يتمتع بسلطة طاغية، وحضور قوي، ومع اتفاقنا على قيمة (النص) وصحته نختلف على (تأويله)، ونكتفي بالقول برد الأمر إلى الله ورسوله حسب قوله تعالى” وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ” وكأن هذا حلٌ، وليس حلا للمسائل، لأنه لا يوجد جهة محايدة تفصل بيننا في النزاع على ” تأويل النص”، فنبقى بدون حل، ويتمسك كل طرف ب”النص” مع تأويله،

والعجيب أن الآية وردت في سياق الاختلاف في الحكم، لأنها عقب قوله تعالى ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل…إلى قوله ياءيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر… ” ( النساء: 58-59)

فكأن الآية تقول لنا إذا تنازع الحاكم والرعية أو الرعية فيما بينهم ( إعمالا لعموم اللفظ) في شيء من المسائل الدينية والدنيوية والمصالح فالحل هو الرد إلى الله ورسوله.

ومعلوم أن كتاب الله وسنة رسوله لا ينطقان،، فلزم أن الأمر بالرد إلى الله ورسوله يقتضي أمرا بإقامة (هيئة) تتولى الفصل في نزاعات ( السلطة) أي النزاعات الدستورية بلغة العصر، وتكون كلمتها هي ” الفيصل”

وهذا ما ينقص المسلمين منذ بدء خلافتهم، فالمسلمون منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أقاموا جهاز (القضاء) الذي يتولى مهمة الفصل في مسائل المعاملات والنكاح والجنايات، ( وكان الجهاز في تطور حيث أقيم فيما بعد في العهد العباسي ديوان المظالم للنظر في تجاوزات كبار رجال الدولة) ولكن لم يقيموا مؤسسة تحكم في النزاعات الناشئة عن تعارض وجهات النظر في مسائل ممارسة ” السلطة” والحكم، وكذلك النزاعات الناشئة حول مسائل ممارسة ” الحريات العامة” والحقوق، كالمحاكم الدستورية، أو تخويل هذه المهام للقضاء العادي، ونحو ذلك.

فالذين نادوا – وما زالوا ينادون- بأن المسلمين يعيشون في أزمة دستورية صادقون لأنه بغياب (الآليات) الدستورية لحل النزاعات حول المسائل الجوهرية التي أشرت إلى بعضها سوف يتصارع المسلمون في معارك ” التأويل”.

علما بأنه في تاريخ المسلمين قامت مذاهب ومدارس في تأويل النص، والجميع يتخندق ويتكتل في هذه المذاهب والمدارس الكلامية والفقهية والسلوكية.

والقرآن الكريم والسنة النبوية وضعتا اللبنات القوية لتقرير الطرق الوسائل الصالحة لحل النزاعات، ومن ذلك مبدأ ( الشورى)، ” وأمرهم شورى بينهم ” [ الشورى:38] عن طريقها تتحدد طرق الحل ووسائل التنفيذ، وكذلك التحكيم في النزاعات الأسرية، في قوله تعالى ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) ( النساء :35) فإذا كان الله عز وجل وضع الأحكام لحل مشاكل الأسرة الواحدة، بين الزوج وزوجته فلأن يحل النزاعات الناشبة بين القبائل وبين الحاكم والرعية وبين الدول والتي تؤدي إلى الدمار والهلاك، هذا لاشك أولى وأهم.

وكذلك أحال القرآن إلى الحكمين مهمة تقدير الفدية في قوله تعالى ( ياءيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرمٌ ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة.. الآية) المائدة: 95)

وعلى هذا فتشكيل اللجان المتخصصة المؤقتة أو الدائمة أو إقامة الأجهزة المتخصصة لدراسة أسباب النزاع، وإصدار الأحكام والقرارات بعد النظر والدراسة طريقة قرآنية نبوية، وقد أغفلها المسلمون سواء الحكام والمحكومون، فترى النزاعات تستفحل وتعمل على تفتيت نسيج المجتمع، ومع أن الحلول سهلة إذا صلحت النيات، ووجدت الرغبة في الإصلاح.

إيطاليا تلغراف

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...