وضاح عبد الباري طاهر
فسدت الدولة وفسد الدين تبعًا لها. هذا ما حصل في العصور المبكرة للإسلام واستمر حتى يوم الناس هذا. ذكر ابن خلدون في «مقدمته» أن صاحب الدولة إذا استبد على قومه؛ انفرد عنهم بالجبايات أو بمعظمها، فيحتجنها للنفقات في مهمات الأمور؛ فتكثر ثروته، وتمتلئ خزائنه، وتعظم حاشيته وذويه من وزير، وكاتب، وحاجب، ومولى، وشرطي؛ وبذلك يتسع جاههم، وتتعاظم ثروتهم أيضًا.
لكن لن يحرم المتملقون حظهم أيضًا من هذه الثروة المتكدسة التي حرمها فئات الشعب، وقام بخضمها هؤلاء الطغاة الجشعون، والانتهازيون المنافقون المتملقون.
يذكر الزمخشري في ربيع الأبرار» أن رجلاً قال لمعاوية حين عقد ليزيد: “اعلم أنَّكَ لو لم تولِّ أمور المسلمين هذا؛ لأضعتها، والأحنف جالس، فقال له معاوية: يا أبا بحر، ما لك لا تقول؟!
فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت. فقال: جزاك الله عن الطاعة خيرًا، فما تقول في بيعة يزيد؟!
قال: أنت أعلم بليله ونهاره، فلا تلقمه الدنيا وأنت منتقل إلى الآخرة…
فلما خرجا، قال له الرجل: إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا وابنه، ولكنه قد استوثق من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت. فقال: امسك يا هذا، فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون عند الله وجيهًا”.
وليس معاوية في هذا الطريق بأوحد؛ فقد توالى على تولي رقاب المسلمين حكام كثر من عباسيين وسلاجقة وبويهيين وأيوبيين وعثمانيين وعلويين، لم يشم فيها الناس رائحة العدل إلا كمقدار ظِمء الحمار، ولقد حكمنا أناس أساؤوا إلى الدين، وإلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم، والصالحين من عباده، مالم يتأتَّ لأكثر الملوك والرؤساء خبثًا وتحللاً وانفلاتًا من الدين.
وتكثر الأمثلة عن عوام وعلماء عاشوا في شظف العيش، وضنك الحال، ومنهم أبو حيان التوحيدي الذي يقول عنه ياقوت في كتابه «معجم الأدباء» أنه “فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفطنة وفصاحة ومكنة”.
وأنه “كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية. وكان -مع ذلك- محدودًا مُحارِفًا؛ يتشكى صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه. ولم أر أحدًا من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في خطاب؛ وهذا من العجب العجاب”.
ويذكر الحموي عن أبي حيان عن القومسي الفيلسوف الذي يصفه بأنه “كان بحرًا عجاجًا وسراجًا وهاجًا، وكان من الضر والفاقة ومقاساة الشدة والإضاقة بمنزلة عظيمة.
وأنه كان “عظيم القدر عند ذوي الأخطار، منحوس الحظ منهم. متهمًا في دينه عند العوام، مقصودًا من جهتهم. قال لي يومًا: ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغ مني. إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلدًا أملس…”.
“فقلت له: ما أعرف لك شريكًا فيما أنت عليه، وتتقلب فيه وتقاسيه سواي؛ ولقد استولي علي الحرف، وتمكن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي، وتقييد خطي، وتزويق نسخي، وسلامته من التصحيف والتحريف بمثل ما يسترزق البليد الذي يمسخ النسخ، ويفسخ الأصل والفرع”.
ويتحدث أبو حيان عن نفسه، فيقول: “وقصدت ابن عباد بأمل فسيح، وصدر رحيب، فقدم إلي رسائله في ثلاثين مجلدة على أن أنسخها له. فقلت: نسخ مثله يأتي على العمر والبصر. والوراقة كانت موجودة ببغداد؛ فأخذ في نفسه علي من ذلك، وما فزت بطائل من جهته.
ولما أحرق أبو حيان كتبه في آخر عمره، كتب إليه القاضي أبو سهل علي بن محمد يلومه ويقبح عليه فعله، فكتب إليه رسالة قال فيها: ” ومما شحذ العزم على ذلك، ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدًا نجيبًا، وصديقًا حبيبًا وصاحبًا قريبًا وتابعًا أديبًا ورئيسًا مثيبًا؛ فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قلت: فلم تسمهم بسوء الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟!
فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات. وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة، فما صح لي من أحدهم وداد؟ ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضروات في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالنفاق والسمعة، وإلى ما لا يستحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.
وذكر ياقوت عن أبي حيان في كتابه «أخلاق الوزيرين»، قال: “طلع ابن عباد عليَّ يومًا في داره، وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئًا قد كان كأدني به، فلما أبصرته قمت قائمًا، فصاح بحلق مشقوق: اقعد؛ فالوراقون أخسُّ من أن يقوموا لنا! فهممت بكلام، فقال لي الزعفراني الشاعر: اسكت؛ فالرجل رفيع، فغلب عليَّ الضحك، واستحال الغيظ تعجبًا من خفته وسخفه…؛ فهذا كله من شمائل الرؤساء وكلام الكبراء وسيرة أهل العقل والرزانة!”.
وذكر ياقوت عن أبي حيان قصصًا تدل على أن سعة علم أبي حيان واطلاعه ما أثار مكامن أحقاد الصاحب وأحساده؛ فاضطر إلى الرجوع إلى مدينة السلام، كما يقول: بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطه في مدة عمله معه لثلاث سنين درهمًا واحدًا ولا ما قيمته درهم واحد
ويقول: “ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به، وأحفظني عليه، وجعلني من جميع غاشيته فردًا، أخذت أتلافى ذلك بصدق القول عنه، وسوء الثناء عليه؛ والبادئ أظلم؛ وللأمور أسباب، وللأسباب أسرار، والغيب لا مطلع عليه ولا قارع لبابه”.
وذكر ياقوت عن أبي حيان أنه قصد هو والنصيبي رجلاً من أهل اليسار المنعوتين بالكرم لا يرد من قصده، وله مبرات كثيرة على أهل العلم، وبعد زيارات متكررة قوبلوا فيها بأعذار مختلفة، وأخيرًا، وفي الزيارة الخامس عشرة، أذن لهم، ودخلوا في غمار الناس، كما يقول أبو حيان، وإذا الناس على طبقاتهم جلوس، وجماعة يرتبون الناس ويخدمونهم، وكان معه عزاء، فشُغِل عنهم بغيرهم، وبقوا في صورة من احتقان البول والجوع والعطش، وما أُقمنا في جملة من يقام.
فقال له النصيبي: هذا اليوم الذي قد ظفرنا به، وتمكنا من دخول داره؛ صار عظيم المصيبة علينا! ليس لنا إلا مهاجرة بابه، والإعراض عنه، وقمع النفس الدنية بالطمع في غيره.
فقلت له: قد تعبنا وتبذلنا على بابه، والأسباب التي اتفقت فمنعت من رؤيته كان عذراً واضحًا، ويتفق مثل هذا، فإذا انقضت أيام التعزية قصدناه، وربما نلنا من جهته ما نأمله، فقصدناه بعد ذلك أكثر من عشرين مرة، وقلما اتفق فيها رؤيته وخطابه، حتى مل النصيبي، فقال: لو علمت أن داره الفردوس، والحصول عنده الخلود فيها، وكلامه رضى الله تعالى وفوز الأبد؛ لما قصدته بعد ذلك، وأنشد:
طلب الكريم ندى يدِ المنكودِ* كالغيث يستسقي من الجلمودِ
فافزع إلى عز الفراغ ولذ بهِ* إن السؤال يريد وجهَ حديدِ
فأجبته وأنا وعيناي بالدموع تترقرق لما بان من حُرفتي، ونبو دهري، وضياع سعيي، وخيبة أملي في كل من أرتجيه لملم أو مهم أو حادثة أو نائبة:
دنيا دنتْ من عاجزِ وتباعدتْ * على كل ذي لبٍّ له حِجْرُ
سلحتْ على أربابها حتى إذا * وصلتْ إليَّ أصابها الحصْرُ





