أنس بن صالح
كاتب مغربي
بينما يستعد الرئيس الأمريكي جو بايدن لمغادرة منصبه وتسليم السلطة لخلفه الجمهوري دونالد ترامب، تقلّب أوروبا في دفاترها القديمة لعلها تجد صيغة مثلى للتأقلم مع هذا الواقع الجديد، والتعامل مع عناوين المرحلة المقبلة، والتقلبات الجيوسياسية التي تعنيها عودة ترامب إلى البيت الأبيض. ومع العودة إلى منطق ترتيب الأولويات على حساب منطق الشراكة، يخشى الاتحاد الأوروبي أن يجد نفسه مرة أخرى في مواجهة مباشرة مع ترامب، وحيال انسحابات أمريكية متتالية من التزاماتها الأطلسية، وعلاقات اقتصادية وتجارية أكثرا تعقيدا في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية على السلع المستوردة، بما في ذلك بضائع الاتحاد الأوروبي.
يفرض ذلك على الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، صياغة سياسة تجارية جديدة، للحد من نسبة العجز التجاري الهائل بينه وبين واشنطن، والحفاظ على تنافسية اقتصادات الدول الأعضاء في الاتحاد، وقد يتطلب الأمر في مرحلة ما تقديم تنازلات لتلافي حرب تجارية مع الشريك الأطلسي، أسوة بالنهج الذي سلكه جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية السابق.
وغير خاف أن الرئيس الأمريكي المنتخب، يسعى إلى إنهاء حرب أوكرانيا لكلفتها الاقتصادية الباهظة، وإلى تنظيف الفوضى غير الخلاقة التي خلفها سلفه، خصوصا في مجال السياسة الخارجية، مع اشتعال بؤر التوتر وتصاعد الخلافات وزيادة قوى دولية لهيمنتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. استراتيجية إطفاء الحرائق التي أعلنها ترامب، تعني ضمن ما تعنيه، ترك الأوروبيين في مواجهة أعباء مالية ضخمة، وضرورة إعادة رسم العلاقات السياسية مع روسيا، وفق الحقائق الجديدة، لاسيما بعد أن جفف الكونغرس منابع تمويل الجهد الحربي في أوكرانيا. ذلك أن ترامب لا يسعى إلى توتير العلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بقدر ما يروم دق إسفين بين موسكو وبيغين، ووقف التقارب الاستراتيجي ـ الظرفي- بينهما على خلفية الحرب في أوكرانيا.
يقر الأوروبيون، همسا، بغياب نقاش استراتيجي فعلي حول أوكرانيا، فإذا كان الموقف الرسمي المعلن هو الدفاع عن أوكرانيا حتى تحرير أراضيها، إلا أن بروكسل لم تقترح عمليا، خارج المساعدات العسكرية، أي سيناريو لإنهاء الحرب. ولا تملك، في حالها هذا، إلا أن تأمل في أن يتوصل ترامب إلى اتفاق مع بوتين، يجعل أوكرانيا في منأى عن الأطماع الروسية، خصوصا بعد تعثر النقاش حول إمكانية ضمها إلى حلف شمال الأطلسي. وقد يضاف إلى ذلك كله التلويح مجددا بورقة مراجعة حصص الدول الأعضاء في حلف الأطلسي، على غرار ما فعله دونالد ترامب في ولايته الأولى، بشكل صاخب وعلى نحو فج، وهو ما يعني ضرورة رفع دول الاتحاد الأوروبي نسب التمويل العسكري في موازنات الدفاع والاعتماد على الذات، لترسيخ الأمن الجماعي، من دون الإفراط في الاتكال على القدرات العسكرية الأمريكية. ولأن الأوروبيين ليسوا على قلب رجل واحد، فإن صياغة استراتيجية متوافق بشأنها للتعاطي مع السياسة الانعزالية للإدارة الأمريكية الجديدة القديمة، ليست بالأمر الهين. فالاتحاد الأوروبي كتلة منقسمة على ذاتها في السياسة كما في الاقتصاد، وإذ تسود قناعة واسعة مفادها أن أهمية دور قادة أوروبيين مثل الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيث والمستشار الألماني أولاف شولتس، ستتضاءل بوجود ترامب على رأس الإدارة الأمريكية، من المنتظر أن تنتعش الأحزاب والقوى اليمينية في أوروبا ويعلو صوت الشعبويين في المرحلة المقبلة، وهو ما من شأنه أن يعزز حالة الاستقطابات السياسية ويشرع واسعا باب المزايدات في عدد من الملفات، ومن بينها ملف الهجرة المثير للجدل. ومن غير المستبعد كذلك أن يغدو مسؤولون أوروبيون آخرون مخاطبين مفضلين للرئيس الأمريكي المنتخب، دون غيرهم.
لم يكن مستغربا والحالة هذه، أن يبدى فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر القريب من موسكو، وأكثر المتحمسين لترامب، استعداده للعب دور الوسيط بين قادة الاتحاد الأوروبي وساكن البيت الأبيض الجديد. ثمة من يرى في تعزيز ترامب لتحالفاته مع بعض القادة الشعبويين، تأثيرا سلبيا على المصالح الاقتصادية والاستقرار الأمني وتقويضا حقيقيا للوحدة الأوروبية على المدى الطويل، لذلك تتعالى الأصوات في أوروبا ضمن رؤية استباقية للمطالبة برص الصفوف والدفاع عن المصالح الأوروبية في مواجهة التحديات التي تفرضها هذه التحولات الاستراتيجية المتعاظمة. في أوروبا يتهامسون: «ما حكَّ جلدك مثل ظفرك»!





