ذ.عبد الرحيم بودلال
باحث في علم الاجتماع
لا يمكن أن نلقن الشعب السوري الذي عاش التنكيل والقتل، وقضى سنوات الرصاص وعاش الجوع والتعذيب؛ سياسات التعددية الثقافية وشروط تحقيق العدالة الانتقالية. لكن يمكن للنخب أن تفهم ذلك وأن تستوعبه. فمن أجل تجاوز النظام الطائفي القائم على المحاصصة الذي يمثل نموذجه الواقعي لبنان والعراق، ومن أجل تجاوز مرحلة الاحتقان والاقتتال الطائفي وانصاف المظلومين وتحقيق العدالة، لابد من القيام بالعدالة الانتقالية.
جاءت مجموعة من الدراسات العلمية رداً على سياسات الدولة القومية التي سعت لبناء الهوية القومية والثقافية لمجموعة الأغلبية المهيمنة والتي احتكرت الدولة باسم الطائفة والأولغارشية المهيمنة بإقصاء ثقافة الأقلية وتهميشها سياسياً واقتصادياً. قد كتب في الموضوع كثيرون؛ كتبت نانسي فريزر حول العدالة الاجتماعية في علاقتها مع الاعتراف بالهوية، وكتب ويل كيمليكا حول علاقة الاعتراف بالتعددية الثقافية، وكتب تشارلز تايلور حول سياسات الاعتراف، وكتب هابرماس حول التواصل الاجتماعي، وكتب أكسيل هونيث حول الصراع من أجل نزع الاعتراف.
تعمل العدالة الانتقالية على مستويين، المستوى المادي والثقافي؛ على المستوى المادي يتم تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة كآلية من بين آليات أخرى كثيرة تعتمدها الحكومة الانتقالية من أجل تحقيق عدالة انتقالية، وذلك بالتصالح مع الماضي الأليم وانتهاك حقوق الإنسان، لأن انهيار الأنظمة القانونية في بعض البلدان أو عـدم صلاحيتها وأهليتها لأسباب ترتبط بالحروب والنزاعات والـثـورات والصراعات المسلحة أو بالاحتلال، يدفع إلـى إيجاد شكل انتقالي جديد للعدالة وصولاً إلى دولة الحق والقانون، عبر البحث عن قواسم مشتركة مبنية على كشف الحقيقة وتعويض الضحايا وجبر الضرر والتأسيس لمستقبل مختلف عن الماضي، ولا سيما بوضع أسـس جديدة للنظام القانوني أو بإصلاحه.
أيضاً على المستوى الثقافي لابد من تحقيق مصالحة مع الماضي الأليم، حيث الانتهاكات التي تعرض لها المواطنون والمناطق المهمشة تشكل المحرك الأساسي للذاكرة الجمعية. لهذا يتطلب الموضوع التأسيس لذاكرة جماعية مختلفة عن الماضي وذلك بمصالحة الماضي بالحاضر وفق شروط ذاتية وموضوعية، شروط ذاتية تتبناها الجماعة المتذكرة، وشروط موضوعية يتطلبها الواقع وسياسات الدولة، إلا أن هذه المصالحة لا يمكن أن تتم دون وجود عدالة انتقالية وبناء للمشترك واعتراف بكل الثقافات المختلفة. في هذا الإطار يوضح ويل كيمليكا أن السياسات التي نهجتها الدول القومية والتي كانت سبباً في إقصاء فئات مجتمعية واسعة تمثلت في السردية التاريخية والقومية للمجموعة المسيطرة، باعتماد رموز الدولة والاحتفال بتاريخ الجماعة المسيطرة والاستلاء على المجال العمومي. لهذا فشلت الدول الوطنية العربية في تحقيق الديمقراطية.
إن للعدالة الانتقالية قدرة كبيرة في تركيب وإعادة تركيب الفرد والجماعة ومختلف العلاقات بينهما تاريخياً، فالأحداث التي تبني المشترك الوطني وتساعد على بناء القومية الوطنية، يجب تذكرها وتعزيزها والاهتمام بها وأرشفتها وتدرسيها للناشئة وإدماجها في التاريخ الرسمي، أما الأحداث التي تساهم في الشلخ وتقوي الفوارق وتحيي الأحقاد، فيجب نسيانها وطيها وإخراجها من الذاكرات الجمعية.
في المغرب وإثر صعود الملك محمد السادس العرش قام بتأسيس لجنة للإنصاف والمصالحة من أجل تجاوز انتهاكات حقوق الاسنان في المغرب وطي صفحات الماضي وانتهاكات سنوات الرصاص، إلا أن المصالحة اقتصرت على جبر الضرر والتعويض المادي لبعض الأفراد والجماعات وتسوية بعض الأوضاع الوظيفية لبعض الأفراد وتسوية بعض الملفات الإدارية وإحالة بعض الحالات النفسية على الطبيب، كما تمت المطالبة بإعادة تأهيل وادماج مجموعة من الأفراد. لكن البحث عن الحقيقة والتحقيق مع مرتكبي تلك الانتهاكات وجبر الذاكرة الجمعية فيما تعرضت له بعض الرموز المناطق مثل الشمال من انتهاك وتهميش، فإن الهيئة لم تقم به، ولازال أبناء المنطقة الذين خرجوا في حراك الريف يطالبون بالإنصاف خلف القضبان، وأيضاً خروج سجناء الرأي بعفو ملكي، لكن دون أن يتحقق لهم الإنصاف والمصالحة وجبر للضرر. كل هذا يسائلنا عن الجدية من تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة التي تشكلت في بداية العهد الجديد ولم تكمل دورها من أجل تحقيق لعدالة انتقالية إلى دولة الحق والقانون.





