بقلم: الدكتور فؤاد هراجة
بعيدا عن السجالات الإيديولوجية والمجادلات السياسية التي أعقبت سقوط دمشق وهروب المجرم بشار الأسد ورموز نظامه، وبعيدا عن التكهنات والتخمينات والتوقعات المستقبلية التي تذهب إليها العديد من التحليلات الموالية أو المناوئة للثورة السورية، يروم هذا المقال تجلية الآليات التي حكمت حركة وتطور واشتغال بنية الثورة السورية، ثم بيان ما أصبح يميزها عن باقي الثورات التي شهدها العالم العربي والإسلامي طيلة القرن الماضي والربع الأول من هذا القرن، وخاصة الثورات الاخيرة التي انطلقت تباعا منذ 2011 والتي امتدت من نواكشوط حتى طهران. على ذلك، فإن الأمر يقتضي منا من جهة، إبراز أهم سمات ومنعطفات هذه الثورة التي ساهمت في بلورة نموذجها الجديد، كما يفرض علينا من جهة أخرى، بيان انعكاس نجاح هذه الثورة على بنية تفكير الشعوب التي طبعها باراديغمان في التغيير، إما التغيير عبر الانقلاب العسكري، أو التغيير عبر العصيان المدني في الشارع. لنصل إلى الاسئلة الهادية التي من شأنها أن تقودنا صوب استجلاء سمات ثورة سوريا الجديدة ومنها على سبيل الحصر:
– ما هي السمات الفارقة بين الثورة السورية وباقي الثورات العربية والإسلامية التي سبقتها؟
– لماذا نجحت الثورة السورية في إسقاط النظام وليس تغيير رأسه رغم كل التعقيدات الدولية والإقليمية التي كانت تحيط بها وتكبلها؟
– كيف تمكنت هذه الثورة من إسقاط النظام في مناخ سياسي داخلي بعيد عن الاستقطابات والتجاذبات السياسية حول طبيعة الدولة، وطبيعة النظام، وطبيعة الدستور، وغيرها من الاسئلة التي عادة ما تضع العربة أمام الحصان وتعرقل مسيرة ومسار التغيير؟
قد يكون من السهل جدا أن نجيب عن كل هذه الأسئلة بقولنا: هذه أصلا ليست بثورة، إنما هي مجرد تنفيذ لاتفاقيات جرت بين قوى دولية وإقليمية قررت إزالة نظام الأسد، فتم بمقتضاها السماح لبشار الأسد وأسرته ورموز نظامه بالخروج الآمن، كما تم بمقتضاها حفظ مصالح كل الأطراف المعنية بالتغيير، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وتركيا، ناهيك عن ضمان أمن “إسرائيل”. هذا التمشي يذهب إليه معظم المدافعين عن جبهة الممانعة الذين كانوا ولازالوا يرون في نظام الأسد جزءا من هذا المحور. فمذهب هذا الفريق أن المساس بنظام بشار الأسد على علاته هو سعي حثيث لإحداث شرخ وزلزال في هذا المحور، وتخطيط لقطع أوصال ووريد المقاومة الذي كان يمر عبر دمشق من طهران. بالتالي، فإن أصحاب هذا المذهب معيارهم جاهز مسبقا، مفاده أن كل من يعمل على إسقاط النظام في سوريا هو مجرد أداة في يد القوى الإمبريالية الصهيوأمريكية، وهو مجرد كومبارس في فيلم درامي كَتَبَ سيناريوه البيت الأبيض بمعية “تل أبيب”، وتكفلت بإخراجه أنقرة، ومَوَّلَتْهُ الدوحة. لن أخرج عن تعاقدي مع القارئ في هذا المقال بالابتعاد عن السجالات والمجادلات الأيديولوجية، فأُكَرِّسَ مساحته للرد على أصحاب هذا المذهب الذين لا أتقاسم معهم هذا الموقف الحَدِّي الأحادي المعيار، لكن حسبي هنا أن أذكر بأن نفس الكلام قيل في حق حركة المقاومة الإسلامية “حماس” لما أعلنت عن تأسيسها، ولما نجحت في انتخابات 2006 على أنها صناعة “إسرائيلية” بتمويل أمريكي ورعاية أردنية لضرب منظمة التحرير الفلسطينية. ولعله نفس الكلام الذي قيل في حق الشهيد أبو إبراهيم السُّنْوار، على أنه عميل صهيوني تم تجنيده في السجن وتم إخراجه لتخريب المقاومة. والأخطر والأغرب، أننا أصبحنا نسمع اليوم من محللين ينتمون لمحور المقاومة ما يفيد وجود فرضية افتعال حدث السابع من أكتوبر في مخطط مسبق لتدمير إيران وسوريا ولبنان، من خلال إعطاء “إسرائيل” ذريعة مباشرة للتدخل العسكري في المنطقة؛ ودليلهم السخيف على ذلك أن حماس لم تنسق مع حلفائها في محور المقاومة. نحن إذن، أمام ذهنية خاصة في التفكير، وأمام نمط مقولب في التحليل، يبحث دائما عن إجابات جاهزة لأحداث مفاجئة لم يقوَ مؤقتا على استيعابها وفهمها؛ تماما كما كان يحاول الإغريق فَهْمَ تنوع الظواهر الطبيعية بتنوع الآلهة وصراعهم الدائم في السماء، إننا بمثل هذه التحليلات سنصبح ضحايا لميثولوجيا سياسية لا تنتهي أساطيرها. بناء عليه، سوف نتبرم من هذه السجالات على أهميتها وسنركز على فهم الثورة السورية من خلال مجريات أحداثها، وباعتبارها واقعة تماثل في نظرنا سقوط جدار برلين الذي أعقبته تغيرات جوهرية في خريطة أوروبا والعالم الجيوسياسية لم تكن متوقعة بتلك السرعة وذلك الحجم، سيما إذا استحضرنا قوة الاتحاد السوفياتي العسكرية آنئذ وشساعة محوره الذي يقف على تخوم الولايات المتحدة هناك في هافانا.
إن أولوية تكريس الجهد في فهم بنية الثورة السورية على الاجتهاد في بناء تفسيرات تبرر قيامها ووقوعها، نابع أولا من كونها قد أصبحت واقعا لا يرتفع، ونابع ثانيا من كونها ستؤثر حتما على اختيار الشعوب لنمط التغيير المستقبلي، الذي سيبدو لهذه الشعوب التواقة إلى الانعتاق أنه أكثر نجاعة وفاعلية، وهو نفس الأمر الذي حدث مع الثورة الفرنسية ومع الثورة البولشيفية حيث نسجت الشعوب على نفس المنوال سعيا وراء نفس النتائج. كل هذا، دفعني باعتباري باحثا وفاعلا سياسيا إلى الاهتمام ببنية هذه الثورة محاولا تجميع صورتها التي تشكلت خلال عِقْدٍ ونيف من الزمن، لعل هذه القراءة تكون جسرا نعبر من خلاله لتفسيرات أقرب إلى الموضوعية بخصوص سقوط نظام بشار وانتصار المعارضة المسلحة وتشكيلها لحكومة انتقالية وعدت والتزمت بسوريا جديدة لكل السوريين.
سمات الثورة السورية
1- الامتداد:
عادة ما تأخذ الثورات الشعبية الجذرية التي تهدف إلى إسقاط نظام ما، حيزا زمانيا قصيرا ومكانا محددا للحسم. وغالبا ما يكون هذا المكان وسط العاصمة بحيث يقطع شرايين العمل الإداري المركزي ويَشُلُّهُ، إما بعصيان مدني سلمي أو عبر العنف والتخريب. على ذلك، تلتحق كل القوى الثورية بمركز الثورة وترهن كل جهودها في معركة صمود تتحمل خلالها كل أشكال القمع والعنف الممارسين في حقها في أفق إنهاك النظام الحاكم ودفعه الاستسلام والتنحية. لم يكن هذا حال الثورة السورية التي بدأت وتطورت بعيدا عن العاصمة وامتدت جغرافيا في عدة مناطق من ذرعا جنوبا إلى دير الزور شمالا، مرورا بحمص وحماية وإدلب وحلب. وعلاوة على هذا الامتداد الجغرافي المكاني، امتدت الثورة على المستوى الزماني دونما انقطاع في معركة فر وكر دامت 13 سنة. هنا قد يعترض علينا معترض بقوله؛ إن الثورة الفرنسية عرفت نفس الامتداد الزماني من 1887 إلى 1897. غير أن الفرق بينهما يكمن في كون الثورة الفرنسية تمت من داخل مؤسسات الدولة وليس من خارجها حيث أنها انطلقت من داخل مؤتمر الجمعية العامة، وتمت من خلال دستور جديد، وبتحالف بين الطبقة العاملة والبورجوازية، انتهى بإسقاط النظام الملكي واستبداله بنظام جمهوري. أما الثورة السورية فقد تمت من خارج مؤسسات الدولة بعدما تبرأ الثوار من الانتساب إلى النظام الحاكم ومؤسساته الفاسدة. لنستخلص أن امتداد ثورة لثلاثة عشرة سنة خارج نظام الدولة ومؤسساتها وفي مناطق متعددة تميزت بحكم ذاتي لَيُعَدُّ سمة زعلانة فارقة في الثورة السورية، يعيد بناء تصورا جديدا بخصوص الوعاء المكاني والزماني، كما يعيد تحديد معايير نجاح أي ثورة وفشلها.
2- المرحلية:
عرفت الثورة السورية مرحلتين كبريين؛ مرحلة الثورة السلمية التي دامت حوالي ثلاث سنوات، ثم مرحلة الثورة المسلحة التي دامت عشر سنوات. في المرحلة السلمية كانت المواجهة سورية سورية، أما خلال المرحلة المسلحة دخلت على خط الثورة أطراف إقليمية ودولية لدعم وترجيح كل طرف على الآخر. فضلا عن هذا المعطى، فإن المرحلية طبعت أيضا نجاحات الثورة، حيث لم تَتَبَنَّ المعارضة المسلحة فكرة معركة العاصمة والحسم، بل فضلت السيطرة المرحلية على المدن الكبرى، واختارت مرحلة اختبار قدرات الحكم وتدبير أمور الدولة في منطقة حلب وإدلب، منتظرة نضج الشروط والفرصة السانحة الزحف على العاصمة وإسقاط النظام. من ثم كانت المرحلية، سمة طبعت وميزت الثورة السورية على باقي الثورات السابقة.
3- الوضوح:
لم تكن الثورة مترددة في إعلان هدفها المتمثل في إسقاط النظام، كما لم تكن مرتبكة حول رفض مشاركة النظام في أي مرحلة انتقالية. فهي كانت تميز بين رفض مشاركة النظام ورموزه في بناء سوريا الجديدة، وإشراك الكفاءات لضمان استمرار مرافق الدولة، خاصة أولئك الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء أو فساد مالي. ومن الوضوح أيضا أن الثورة اختارت ثلاثة خطوط متوازية، تمثلت في عدم الانتقام، والعفو العام، والعدالة الانتقالية التي تضمن معاقبة من أجرموا في حق الشعب وحق الدولة، وهو إجراء كفيل بردع كل دوافع الانتقام، وجدير بقطع دابر التفكير في ارتكاب نفس جرائم النظام السابق. على ذلك يتجلى لنا أن المعارضة المسلحة كانت على بينة من أمرها، واتسم سيرها نحو هدف الحكم بالوضوح التام، ما جنبها حالة الارتباك والتردد بعد سقوط النظام.
4- التطور:
لم تتحرك الثورة السورية في مسار خطي، بل كانت حركتها لولبي”Spirale” ، تتطور حسب الحاجة والضرورة. بذلك لاحظنا تطورا لدى قادتها على مستوى الفكر والإيديولوجيا، حيث تم الانتقال من فكر تنظيم القاعدة مرورا بفكر تنظيم الدولة، إلى فكر هجين من السلفية العلمية والشافعية كخلفية فقهية شرعية والفكر السياسي الإخواني كخلفية سياسية عملية. ناهيك أن هذا التطور طال الذهنية العامة للثورة، والتي تطورت من ذهنية المعارضة الحاملة لشعارات كبرى والحالمة بالتغيير إلى ذهنية الفاعل الحكومي الذي يصطدم بإكراهات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والإثني، وإكراهات العلاقات الإقليمية والدولية، ثم اكراهات انعدام أي عوامل مساعدة للبناء.
5- الاستراتيجية:
يتجلى الحس الاستراتيجي في الثورة السورية كونها تمتلك تخطيطا سابقا يَؤُمُّ حركتها الميدانية، وهو تخطيط يتضمن رؤية واضحة لسوريا الجديدة، كما يتضمن تحديدا للمحاور ذات الأولوية، ويميز في أهدافه بين المَدَيَات القريبة والمتوسطة والبعيدة، ويتبين هذا من خلال الخطوات التي اتبعتها قيادة الثورة منذ الأسبوع الأول ، عندما عينت رئيسا للحكومة الانتقالية، وقام هذا الرئيس بتشكيل حكومته ثم باشرت أعمالها بسلاسة ودونما أي ارتباك. فضلا عن ذلك، وبالموازاة مع هذه الخطوة الجبارة تمت تسوية وضعية الجيش والشرطة في عدة مناطق بتقديم السلاح واعتبار كل من لم يفعل ذلك خارج القانون، وهي خطوة استراتيجية تدل على تفكيك أجهزة النظام السابق ثم إعادة تأسيسها. كل هذا مع مراعاة السير العادي للمرفق العمومي وعودة الحياة إلى طبيعتها من حيث الأمن والاستقرار والخدمات. إن تحديد سقف زمني للحكومة الانتقالية في مطلع مارس 2025، والبدء في تشكيل لجنة لتعديل الدستور، والتأكيد على إشراك كل مكونات المجتمع السوري وضمان حقوق كل التشكيلات الطائفية والسياسية، والحرص على التبرم من الإقصاء لأي مكون؛ كلها معطيات تدل أنها خيارات ليست وليدة اللحظة، بل هي أهداف سُطِّرَت ضمن التصور الاستراتيجي العام. وتبقى الصورة الأكثر جلاء كون قيادة الثورة تسير وَفْقَ مخطط مسطر سلفا، عدم انفعال مجلسيها السياسي والعملياتي مع الاستفزازات “الإسرائيلية” التي حاولت بل عملت على جر قيادة الثورة إلى حرب غير مخطط لها تعبث بكل منجزات الثورة، وتشكك في نضجها السياسي والعسكري. ولعل هذا الموقف المحسوب يؤكد مرة أخرى أننا إزاء ثورة خطط قادتها مسبقا للمسار العام الذي ستسير فيه المرحلة الانتقالية، وتعبر من خلاله إلى بناء دولة قوية ستفرض وجودها في المستقبل المتوسط بإذن الله تعالى. على ذلك، نقول أن الثورة السورية تتميز بخاصية الاستراتيجية التي كانت تفتقدها جل ثورات الربيع العربي التي كنا نعتقد أنها نجحت وأن الثورة السورية قد أخفقت، فتأكد لنا بالوقائع عكس ذلك تماما.
6- التركيب:
وأقصد بهذه الخاصية الجمع بين عدة مواقف قد تبدو في ظاهرها متناقضة ولكنها متكاملة، ومنها الجمع بين المعارضة السلمية والمعارضة المسلحة، والجمع بين العمل المدني من خلال تدبير حكومة محلية في حلب وإدلب مع الاستمرار في العمل العسكري الثوري، ثم الجمع بين العفو الشامل والعدالة الانتقالية، فالجمع بين تفكيك أجهزة النظام السابق وحفظ السير العادي لأجهزة الدولة. لتبقى أوضح صورة لاعتماد وقبول التركيب في المواقف وعدم الوقوع في المواقف الحدية، الجمع بين ضمان نجاح الثورة في إسقاط النظام وضمان مصالح القوى التي يمكن أو يفترض أن تعرقل هذا النجاح؛ وهذا لعمري خاصية تميزت بها الثورة السورية ما أرغم النظام الحاكم على الاستسلام والفرار دون أدنى مقاومة، ما جعل الزحف على كل المدن ودخول دمشق بالسلاح ودون إراقة دماء وهي لحظة جديرة بالتأمل والاعتبار.
7- الانفتاح:
خاصية لا تخطئها العين لحدود لحظة كتابة هذا المقال، حيث أن الثورة انتقل أفراد قيادتها من ذهنية الفصيل المنتصر إلى عقلية الخادم لكل الشعب السوري وبكل أطيافه، وهذا تجلى لنا على الأقل في جمعة النصر حين اعتلى المنصات الدرزي والعلوي والمسيحي والسني…، وأقيمت الجُمَعَ في مساجد الشيعة والسنة دونما أي مظاهر للتضييق أو محاولة تسجيل أن انتصار الثورة ماركة مسجلة باسم فصيل معين. إلى جانب هذا الانفتاح الداخلي كان هناك انفتاح خارجي على معظم القوى الإقليمية والدولية مع عدم استعداء الخارج في مرحلة تستدعي تكثيف الجهود على البناء وليس توزيع المواقف المجانية التي لا طائل منها سوى استغلال التنوع الداخلي وتحويله إلى نقطة ضعف في يد القوى الخارجية لزرع القلاقل والفوضى، وتعطيل دينامية الإقلاع التنموي لسوريا الجديدة. إن الحفاظ على علاقات طبيعية مع دول الجوار العربية على علاتها، والسعي للاندماج بينهم هو خير محصن لأمن واستقرار سوريا مع ضمان تهوية اقتصادية بدل الاختناق الاقتصادي الذي ينجم على كل موقف انعزالي متهور. أما الكيان الصهيوني العدو والمتربص بالأراضي السورية، فيجب إحراجه في المنتظم الدولي والمطالبة مرحليا بسلامة الأراضي السورية في أفق استكمال بناء الدولة وتحديد نظام الحكم واتخاذ موقف وطني شعبي من الكيان الصهيوني تتم دَسْتَرَتُهُ مع تجريم كل أشكال التطبيع معه، وهي خطوات في تقديري تماثل قرار الحرب الذي ينبغي أن تتخذه الدولة بإجماع شعبي مع تحمل تام لتبعاته، وهو ما لا يتأتى في المرحلة الراهنة التي تنطبق عليها مقولة: “قد نسكت على بعض الحق لكن لا نقول باطلا”.
وبناء على ما عرضناه، فإن هذه الخصائص والسمات السبع المتضمنة حتما لسمات فرعية أخرى تحتها، تدل دلالة واضحة على المرونة والقدرة على التكيف اللتين تتميز بهما قيادة الثورة السورية. مرونة مع المحيط الإقليمي والدولي، ومرونة مع التنوع والتعقد الداخلي، ثم مرونة مع خدام النظام السابقين بما يضمن سير دواليب الدولة ومعرفة مفاصلها ومكامن الخلل فيها، فلا أَعْرَفَ بالحلول العلاجية لاختلالات الدولة ممن ساهموا في مرضها وخرابها كما يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله. علاوة على ذلك، ثمة مرونة جامعة تتمثل في الانتقال السَّلِسِ بين ذهنية الدعوة وذهنية الثورة ثم ذهنية الدولة، ولعله ما يفسر تطور المواقف وتغير الشخصيات من مرحلة إلى أخرى، وهو تفاعل طبيعي مع كل وضعية جديدة، وتلك هي المرونة المطلوبة في رجال الدولة.
وزبدة القول بعد كل هذا المخاض التحليلي، يجدر بنا أن نحذر كل أنظمة المنطقة من هذا الجيل الجديد من الثورات بسماته المذكورة، لأن نجاحه سيطوي باراديغم الثورات السابقة ويعتبرها تقليدية وأحادية المخرج، وأنها غير قادرة على تحدي التعقيدات الداخلية والخارجية، ولا تجيب عن بعض الضرورات التي يفرضها الواقع، الأمر الذي سيضع الأنظمة المستبدة أمام خيارين:
– الخيار الأول: التصالح مع الشعوب من خلال تمكينها من السلطة الفعلية، والتخلي عن كل أشكال الاستبداد والفساد وتبديد الثروات، والتوافق مع القوى الوطنية على مشروع سياسي وطني يضمن انتقالا ديمقراطيا حقيقيا، ودولة تخدم الشعب وليس شعبا في خدمة الحاكم الذي يختزل الدولة في شخصه، مع ضمان الحرية والتعددية ودولة المؤسسات.
– الخيار الثاني: الدفع بالشعوب نحو الاقتداء بالجيل الجديد للثورات الذي يبقي كل وسائل التغيير واردة، بعدما تتعلم الشعوب من نجاح الثورة السورية كيف تستثمر كل العناصر التي كانت تقوض ثوراتها السابقة من خلال تحويلها إلى فرص نجاح.
إنه إذن التغيير أو الطوفان، فما عادت الشعوب العربية تتحمل أكثر مما تحملته، ولم يعد عندها ما ستخصره أمام التردي المطرد للأوضاع في بلدانها، وما يشجعها هو اكتشافها لأنظمة كارتونية كانت تعتقدها من فولاذ حتى رأت أَسَدَهَا يفر تاركا فلول نظامه تغرق في أوزار جرائمه ومذابحه. لقد علمنا التاريخ ان الثورة الفرنسية انتقلت في أوروبا كالنار في الهشيم وأسقطت معظم الملكيات ودفعت بالبقية للتنازل على سلطاتها مقتبل بقائها صوريا، كما علمتنا الثورة البولشيفية كيف اكتسحت الشيوعية معظم بلاد العالم. وأخيرا علمنا سقوط جدار برلين كيف تهاوت ديكتاتوريات رومانيا ويوغوسلافيا وغيرها من دول المعسكر الشرقي الذي وكأنه لك يكن، وكذلك ستكون نتائج طوفان الأقصى الذي بدأ بكسر جدار الديكتاتورية في سوريا وسيكون لهذا الانكسار ما بعده فهل من معتبر وهل من مُذَكِّر؟
الرباط في 17 جمادى الآخرة الموافق 18 دجنبر 2024