رامي أبو شهاب
كاتب أردني فلسطيني
عبر مشهد ينطوي على قدر من التّكثيف الدلالي يفتتح المخرج الإيراني أصغر فرهادي فيلمه «البائع» الحاصل على جائزة الأوسكار 2017، إذ نرى فيه زوجين (عماد ورنا) يسارعان إلى إخلاء شقتهما في إحدى العمارات المُتداعية، أو التي على وشك الانهيار في دلالة رمزية تتضح قيمتها عند المضي في مشاهدة الفيلم.
المنظور السينمائي
لا ريب أنّ محاولة بناء العلاقات التي أتينا عليها في المقدمة تتطلب شيئاً من الوعي بطبيعة مبدأ السبب والنتيجة، فالخروج من العمارة كان سبباً للانتقال إلى عمارة جديدة، أو شقة كانت تسكنها امرأة يقال إنها سيئة السمعة، وهناك تتعرض «رنا» – زوجة عماد – لاعتداء من قبل رجل مجهول يدخل الشقة، فيفاجأ بوجود امرأة أخرى في الحمام، ومن ثم نرى «رنا» مصابة، وقد نُقلت إلى المستشفى بمساعدة الجيران، ولكننا لا نعلم إن كانت الإصابة نتيجة الضرب، أم السقوط، غير أن الأذى النفسي الناتج عن عملية الاقتحام يفوق الأذى المادي، فقد أصبحت الزوجة متوجسة، وخائفة، ومع ذلك تبقى حيثيات الاعتداء غامضة يسكنها اللايقين، غير أنّ الأثر يظهر في موقف زوجها الغاضب، وسعيه الحثيث لمعرفة الحقيقة، أو الطريقة التي حصل فيها الاعتداء، ومن هو المتعدي؟ بالتوازي مع ضغط المجتمع أو المحيطين نتيجة انتشار خبر أن زوجة عماد تعرضت لاعتداء من قبل رجل اقتحم منزلهما.
هذا التكوين السردي يدفع إلى إدراك حساسية الموقف، من خلال وعي المخرج بأدواته التي تنهض على منظور سينمائي يتوجه مباشرة إلى الذات، وما يمكن أن تختبره من تمزقات داخلية، كما يعكسها تحول الزوج تجاه زوجته في المقام الأول، ومن ثم علاقته بالمحيط الذي يصدر قيماً ضاغطة كانت حافزاً لدفع عجلة الفيلم نحو الأمام.
لنبدأ بتكوين علاقة بين مشهد تداعي المبنى في فيلم فرهادي، ومسرحية آرثر ميلر «موت بائع متجول» ولكن عبر منظور تقابلي من خلال الزوجين: عماد ورنا بوصفهما ممثلين مسرحيين في مسرحية آرثر ميلر، التي تصور بدورها انهيار أو تصدع مفهوم الحلم الأمريكي، مع بيان ما ينطوي عليه من تهافت في سياق الثقافة الغربية، من خلال قصة أسرة أمريكية، وبذلك نلمح البعد الرمزي الذي ظهر في مشهد تداعي المبنى وسط العاصمة الإيرانية في فيلم فرهادي، بوصفه إحالة رمزية للإنذار بتداعي المنظومة برمتها، أو قربها من الانهيار، على الرغم من أن الفيلم يخلو من مشهد انهيار المبنى الفعلي، إلا إن معنى التداعي يبدو علامة تحذير، كما أن المبنى يمارس دوراً وظيفيا آخر، خاصة حين يقوم عماد باستدراج المعتدي، فتجتمع الشخصيات المركزية، كي نشهد تحولاتها، وهشاشتها بالكلية، وهي: عماد وزوجته والمعتدي. لا يمكن إنكار أن الفيلم يعالج ثيمات العدالة والكرامة، والانتقام والضعف، ضمن رؤية سينمائية قد تبدو لنا في ظاهرها بسيطة، غير أنها تتشابك مع رمزية متشعبة تعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والعالم، فتكشف هشاشة الذات، وحيرتها أمام خيارات أخلاقية، وبهذا يمكن أن نقر بوجود نمط سينمائي قد بات أقرب إلى علامة تتميز بها أعمال هذا المخرج، ولاسيما في فيلمه الذي عرضنا له في مقالة سابقة بعنوان «انفصال».
جوهر الهشاشة
تستهدف أفلام فرهادي هشاشة عالمنا، ولا معقوليته، كما تناقضه عبر شخصيات تمثلها على التوالي: رنا التي تستنكر اغتراب زوجها وتحوله بعد الحادثة، مع شيء من التخلي غير المُعلن، أو تأويلات تحميلها مسؤولية الحادثة، كما يتجلى غضب عماد من مجتمعه المحافظ ما يبرر رغبته الشديدة للبحث عن الجاني، ومعاقبته، ورفض اللجوء إلى الشرطة، ومن ثم ننتقل للجاني، وخوفه من الفضيحة. يتوصل عماد إلى الجاني من خلال سيارته التي تركها قرب العمارة، مع بعض الأموال والأوراق التي نسيها في الشقة، وبذلك يتمكن عماد من أن يستدرج الجاني إلى شقته القديمة في العمارة المتداعية بحجة نقل بعض الأغراض، بيد أن المفارقة تنشأ حين يرسل الشاب (المشتبه فيه) والد خطيبته بديلاً عنه، وبطريقة ما يكتشف عماد أن الجاني أو المعتدي ليس سوى والد خطيبته، وهو رجل عجوز مريض بالقلب، كان يتردد على شقة المرأة – سيئة السمعة – بداعي البحث عن نزوة عابرة. يهدد عماد بفضح الرجل أمام عائلته، ومن ثم يستدعي زوجته «رنا» للشقة لمواجهة المعتدي، فتجد رجلاً ضعيفاً مريضاً يعتذر بقوله إنها حادثة، فالرجل عند دخوله الشقة ظناً منه أنها شقة الساكنة السابقة، تفاجأ بوجود رنا في الحمام التي سارعت بالصراخ، فحاول إسكاتها، لتقع وتصاب، في حين فرّ الرجل هارباً غير متقصّد الأذية. يواجه عماد العجوز الذي يقاوم، فيضطر الزوج الغاضب أن يسحب العجوز من ثيابه، ويسجنه في غرفة لحين عودته وزوجته من أداء أدوارهما في المسرحية، وبمجرد عودتهما للشقة يجدان الرجل في حالة صحية حرجة، فيسعى عماد وزوجته لإنقاذ حياته، كما تهرع عائلة المعتدي للحضور بغية الاطمئنان عليه بعد أن اتصل بهم عماد سابقاً بهدف كشف حقيقة فعلته، غير أنّ الوضع الصحي للعجوز يحول دون تحقيق ما يريده عماد، بالتوازي مع ضغط زوجته «رنا» التي تُفاجأ بسلوك زوجها الانتقامي، لاسيما بعد أن رأت ضعف العجوز، وسمعت اعتذاره بحجة أنه لم يكن يعلم بوجود مستأجرين جدد في الشقة، ومن ثم تتدهور الحالة الصحية للرجل، فيتم استدعاء الإسعاف ما يحول دون تحقق الانتقام، بل على العكس من ذلك يُعيد عماد المبلغ الذي نسيه العجوز في شقته للعائلة.
نخلص من مجمل الأحداث أن كل إنسان لديه نقطة ضعف، بما في ذلك العجوز، والمرأة سيئة السمعة، والزوج الغاضب الذي يتوق للانتقام، والزوجة المرتبكة تجاه الحدث.. في مشهد تختزله شقة متداعية متآكلة. هكذا تحضر الدلالات، مع تكثيف بصري، على الرغم من تواضع الأدوات التقنية، ولكن إنسانية الرؤية كانت قادرة على بعث التوتر، وتحفيز التفكير، مع إطلاق فيض من الأسئلة عند محاولة تفهم موقف كل شخصية. ونظراً للمشهدية الشديدة التوتر، والتي يؤطرها مشهد العجوز مع عائلته القلقة والخائفة، مع بيان محبة زوجته له، وخوفها عليه، وقولها إنها لا تملك غيره… تطفو مشاعر إنسانية لإحداث تحولات تطال عماد، ورنا، حينها تنكشف هشاشة العالم، فيتخلى كلاهما عن رغبة الانتقام والعقاب، بل بات شاغل عماد وزوجته إنقاذ حياة الرجل العجوز أو المعتدي.
في مشهد ختامي نرى عماد ورنا يعودان إلى المسرح لتجسيد أدوارهما في المسرحية كي يكملا حقيقة معنى التداعي، أو انهيار ما يحيط بهما ضمن رؤية تقابليه مع مسرحية ميلر، فالإنسان رغم تعدده الثقافي، واختلافه، غير أنّ المشكلات التي يعاني منها تبقى واحدة، فضعفنا، وحيرتنا، ورغبتنا بالانتقام، كما قدرتنا على التسامح.. كل ما سبق يأتي في سياق مجتمعات تعاني من اختلالات داخلية، ربما تؤدي في النهاية لانهيار تام.
تقاطع
يمكن القول إن التقاطع بين المسرح والفيلم، لا يحمل فقط تشابها سرديا على مستوى الثيمة، إنما يتقصدان طرح سؤال جوهري فلسفي، ويتحدد: بكيف يتداعى الإنسان عندما يصبح محاصرا بين ذاته وأوهامه أو توقعاته؟ إن كلا العملين يناقشان هشاشة الإنسان في مواجهة نظام اجتماعي يعاني من زيف القيم، ولنكن أكثر دقة إشكالية مفهومنا للقيم، كما العدالة، وأين تكمن الحقيقة؟ وفي أي زاوية نراها؟ فالشخصيات برمتها ضحية للمنظومة، أو ثقافة مشوّهة جاءت نتيجة توقعات لا يملك الفرد الخلاص منها، إنما هي تحكم خياراته، وأفعاله. تمثل شخصية عماد نموذجا للذات التي ترتبك تحت وطأة التقاليد المجتمعية، فيصبح الانتقام وسيلة للتأكيد على الرجولة، ولاسيما ضمن مقولات أعباء الكرامة، والاعتبارات الأخلاقية، وهي معضلة تكاد تكون أكثر وضوحاً في المجتمعات الشرقية. في حين أن هذا النمط الثقافي يشمل الرجل العجوز الذي يخشى تهشّم صورته أمام عائلته، والمجتمع، وهي معضلة أيضاً عانت منها رنا، التي أثقلها محيطها بدءاً من زوجها، والجيران، كما زملاء المسرح، على الرغم من أنها ضحية، ولكن محيطها يبدو مشوشاً تجاهها، وفي بعض الأحيان كان ينظر إليها على أنها مذنبة.
يأتي توظيف فرهادي لمسرحية ميلر، بوصفها مرآة تعكس هزال المجتمعات، وتشوهها، فعماد يؤدي دور شخصية «ويلي لومان» في مسرحية ميلر، وبذلك تمسي الشخصيتان شاهدتين على منظومتين لا تختلفان إلا بالمظهر، والشكل، ذلك أن جوهر الإنسان في كليهما واحد، خاصة في مواجهة الطبقية والفساد والانتقام والنزوة.. كما توتر العلاقة مع المجتمع، وضغط الأخير على الفرد الذي يثقل كاهله البحث عن قدر من الانسجام مع واقع مربك.
لا ريب أنّ السينما الإيرانية الحديثة تشكلت ملامحها العالمية على يد المخرج عباس كيارستمي، الذي تمكن من وضعها في إطار إنساني كوني يحتفي بالبساطة الظاهرية على مستوى التكوين، غير أنها تعتمد عمقاً من حيث البحث في دواخل الذات، كما في محيطها الثقافي والاجتماعي. ولعل هذا النهج يتطلب ذكاء على مستوى الأدوات، ولكن الأهم تطبيق رؤية أصبحت تميز السينما الإيرانية بغية تخطي أو تجاوز القيود السياسية والاجتماعية، ما يبرر اللجوء إلى استخدام الرمزية، بالتوازي مع الإيقاع البطيء، كما الحوارات العميقة ضمن أطر مكانية وزمانية شديد الواقعية والبساطة، غير أنها عميقة الرسالة، ويمكن استجلاء هذه الرؤية في مشهد العمارة التي تتداعى في فيلم فرهادي، فعلى الرغم من إحالته الثقافية، إلا أنها كانت -أيضاً- مسرحاً للانتقام، وفي الآن نفسه التجاوز والمغفرة. كل ما سبق من أجل رسم ملامح الذات الإنسانية في تكوينها الإشكالي، مع بيان حدود فهمها للوقائع والواقع كونهما نسبيين.
يبرع فرهادي في توظيف الكاميرا، عبر تتبع مظاهر الحياة في التفاصيل البسيطة للشوارع الباهتة، كما البيوت، بما في ذلك الملابس، والإكسسوارات، فتصبح الفرجة إيحائية معنية بتصوير الإرهاق الداخلي، والأهم زوايا اللامرئي في العلاقات والتوترات الاجتماعية المسكوت عنها، أو تلك التي لا ترغب في إظهارها، حيث لا يمكن إنكار أن أصغر فرهادي يعدّ من مخرجي معادلة يعجز عنها الكثيرون، ونعني محلية الحكاية، وكونية الموضوع، فهو يتبنى منظور تشريح العلاقات الإنسانية تحت ضغط الأزمات الأخلاقية، عبر شخصيات تعيش تناقضات، وبذلك يتخلى عن تقديم إجابات مباشرة، ليتركنا مندهشين أو مضطربين في تساؤلاتنا، ولاسيما تجاه الحكم على الشخصيات، ومثال ذلك تفهم موقف الزوج للانتقام، وتسامح الزوجة، وضعف العجوز… بوصف ما سبق يمثل جوهر الإنسان القلق الضعيف، ولا يقينه.
إن عظمة أي مخرج تكمن في قدرته على التعامل مع سياقات ثقافته، وخصوصيتها، وتقديم سينما لا تضطلع بمواجهة القيود بصورة مباشرة، إنما تنجح في تحليل الواقع بذكاء أو دهاء، ولاسيما حين يتقصد الفنان الوحدات الصغرى في الثقافة، غير أنه في الحقيقة يتقصد تفكيك المؤسسة والنظم التي تكوّن الواقع أو الوجود المضطرب.