ذ.عبد القادر الفرساوي
في عالم يسوده التغير المستمر وتسيطر عليه المصلحة، لم تعد المبادئ الأخلاقية والدينية خطوطا حمراء لا تُمس. في خطوة أثارت الكثير من الجدل، أعلنت الكنيسة الكاثوليكية موافقتها على توجيهات صادرة عن مؤتمر الأساقفة الإيطاليين تسمح للأشخاص المثليين بالالتحاق بالحوزات الدينية، شريطة الالتزام بالعفة والبتولية. قرار كهذا لم يكن متوقعا من مؤسسة عُرفت تاريخيا بمواقفها الصارمة تجاه قضايا الهوية الجنسية، ما يفتح باب التساؤل حول التحولات التي تشهدها القيم والمبادئ في مواجهة تيار التغير العالمي.
هذا القرار لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق العام الذي تمر به الكنيسة الكاثوليكية. فمع تراجع مكانة المؤسسة في العديد من المجتمعات الغربية وتزايد الانتقادات الموجهة لها، تبدو هذه الخطوة محاولة لتخفيف الضغط المجتمعي واحتواء التغيرات الثقافية التي أصبحت واقعا لا يمكن إنكاره. الكنيسة التي كانت لعقود طويلة تُعتبر حصنا منيعا للقيم التقليدية، أصبحت اليوم في موقف دفاعي، تحاول فيه التوفيق بين تعاليمها الراسخة ومتطلبات الزمن الحديث.
ولكن، هل هذه الخطوة تعبر عن انفتاح حقيقي أم أنها تنازل تكتيكي تحت ضغط المصلحة؟ الإجابة ليست سهلة. فمن ناحية، يمكن اعتبار القرار تطورا في الفكر الكنسي يعكس رغبة حقيقية في تجاوز الأحكام المسبقة والتعامل مع الإنسان كفرد، بغض النظر عن ميوله أو هويته. ومن ناحية أخرى، هناك من يراه تناقضا مع القيم التقليدية التي قامت عليها الكنيسة، مما يضعها في موضع يُشكك في قدرتها على الحفاظ على هويتها في مواجهة التغيرات.
لقد أشار البابا فرانسيس مرارا إلى أهمية التعامل مع قضايا الهوية الجنسية برحمة وانفتاح، حيث صرح في بداية حبريته: “من أنا لأحكم؟” هذه العبارة التي أحدثت صدمة داخل وخارج الكنيسة، كانت بداية لتحول ملحوظ في طريقة تعامل المؤسسة مع هذه القضايا. ومع ذلك، فإن الانفتاح الذي يظهر في مثل هذه القرارات لا يخلو من التحديات. فما زالت الكنيسة متمسكة بشرط العفة والبتولية كأساس للحياة الكهنوتية، وهو ما يعكس توازنا دقيقا بين القبول والالتزام بالقيم التقليدية.
لكن في المقابل، يجب ألا نغفل عن التداعيات الأعمق لهذا القرار. ففي مجتمع يزداد انقساما حول قضايا الهوية والجنس، قد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لركوب موجة التغير الثقافي بدلاً من قيادتها. ومن جانب آخر، يثير هذا القرار تساؤلات حول قدرة المؤسسة على الحفاظ على وحدة صفها الداخلي في ظل الخلافات المتزايدة بين المحافظين والإصلاحيين داخل الكنيسة.
لا يمكن تجاهل تأثير هذا القرار على صورة الكنيسة عالميا. ففي حين أنه يعكس محاولة للتكيف مع متطلبات العصر، إلا أنه قد يعزز الانقسام بين المؤمنين المسيحيين. البعض يرى فيه إشارة إيجابية نحو شمولية أكبر، بينما يعتبره آخرون خيانة للقيم التي تمثل أساس الإيمان الكاثوليكي.
هذا القرار يعكس التحولات الكبرى التي يمر بها العالم اليوم. فالقيم والمبادئ التي كانت تُعتبر يوما ما ثابتة وغير قابلة للنقاش، أصبحت اليوم عرضة لإعادة التفسير والتكيف. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نحن أمام تطور طبيعي يعكس وعيا أعمق بقيمة الإنسان، أم أن المصالح أصبحت هي الحَكم النهائي في تحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض؟
في كل الأحوال، يظل هذا القرار نقطة تحول في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، ويُظهر أن حتى أقدم المؤسسات وأكثرها رسوخا ليست بمنأى عن تيار التغير الذي يجتاح العالم. ولكن، يبقى التساؤل الأكبر: هل ستتمكن الكنيسة من الحفاظ على هويتها وسط هذه العواصف، أم أنها ستضيع بين تناقضات المبادئ وضغوط المصالح؟.