الدكتور بلال التليدي
كاتب وباحث مغربي
خلال هذا الأسبوع استمعت لتحليلين فرنسيين مختلفين لتأثيرات وصول دونالد ترامب للإدارة الأمريكية، الأول، من رجل دبلوماسي، وسياسي (دومينيك دوفيلبان)، رأس الحكومة الفرنسية ما بين 2005 و2007، وشغل منصب وزارة الداخلية قبل ذلك بعامين، والثاني (إيمانويل تود) لعالم برع في حقول معرفية مختلفة، التاريخ، والأنثروبولوجيا، والديمغرافيا، وعلم الاجتماع وعلم السياسة، لا يشك أحد في قدراته الاستشرافية في مجال السياسية الخارجية.
ملخص الرأيين، أن السيد دومينيك دوفيلبان، يرى أن عودة الترامبية ستمثل زلزالا سياسيا عنيفا على أوربا لا ينبغي الاستهانة به، وأن على أوروبا أن تأخذ له حسابه وتجري تعديلات سريعة على بنياتها ورؤيتها قبل أن تفاجأ بقرارات تضر بمصالحها الحيوية. أما السيد إيمانويل تود، فيقول العكس، ويرى أن هناك موجة إعلامية كبيرة رافقت صعود ترامب، تحاول أن تضخم ما يمكن أن يفعله، وتقرأ تحالفه مع أيلون ماسك، بشكل أسطوري مرعب، يدفع الدول إلى الخوف على مستقبلها، والمسارعة إلى بذل الامتيازات للولايات المتحدة الأمريكية خوفا من التهديد، وأن ترامب لن يستطيع تحقيق أي تغيير محوري في خارطة العالم بحكم التحديات والصعوبات التي يوجد عليها المحيط الدولي، وبالأخص توزع خارطة النفوذ في العالم، ويستدل على ذلك بأن الولايات المتحدة الأمريكية فشلت في مواجهة روسيا على أرض أوكرانيا، وفشلت في أفغانستان والعراق، وأن هذا الفشل لا يمكن في لحظة أن يتحول إلى نصر أسطوري يبشر به دونالد ترامب.
ربما تبدو وجهتا نظر هذين الرمزين الفرنسيين مختلفتين، لكنهما ليستا كذلك في الجوهر، فدوفيلبان لا يتحدث عن العالم، وإنما يتحدث فقط عن أوروبا، ويستحضر بشكل دقيق تجربة دونالد ترامب السابقة مع القارة العجوز، بينما يتحدث «تود» على حدود قدرة السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب على تغيير موازين القوة بشكل كلي لفائدة أمريكا. وهذا ما يعني أن نظرتهما صحيحة، بالقياس إلى المنطقة الجغرافية التي تستهدفها السياسة الأمريكية، فمن المؤكد أن أوروبا التي تعرف تحديات على مستوى أمنها القومي (التحدي الروسي)، وتحديات اقتصادية كبيرة (أزمة الطاقة، انكماش الاقتصاد) وتحديات على مستوى بنيتها الكتلوية (ظهور تباينات عميقة بخصوص قضية أوكرانيا، وقضايا الطاقة، والنظرة إلى الحدود) فضلا عن تحديات أخرى تتعلق بالهجرة، والإرهاب، ستكون ضعيفة في مواجهة ترامب ما لم تعد النزر في رؤيتها لهذا التحول.
ولذلك، أقصى نقطة خلاف بين الرجلين، أن السياسي والدبلوماسي يتحدث بلغة دق ناقوس الخطر ليستحث بلده لبذل جهد في بناء الرؤية وعدم الركون للفراغ أو النمط السابق في مواجهة رئيس أمريكي جديد، يؤمن بمصالح بلده أولا، ويعلن بشكل صريح أنه سيفرض رسوما جمركية على الواردات الأجنبية، وهو يعلم أن أوروبا أو كندا، لا تستطيع أن تقوم بالمثل، لأنها بذلك ستعاقب نفسها بالحرمان من موارد الطاقة التي تحتاجها، ولا يمكن أن تضع يدها في يد روسيا، حتى تؤمن حاجتها من الطاقة لأنها بذلك تضحي بأمنها القومي.
في العالم العربي، تبدو الرؤية غائبة تماما، أو في الحد الأدنى، تبرز رؤية ضيقة براغماتية، تحاول كل دولة بمفردها أن تبني نموذجا خاصا بها تتكيف به مع الترامبية العائدة، وهي قبل ذلك، تستقبل الصورة الأسطورية للحالة الأمريكية بطريقة كاريكاتورية، وترى أن الذي استطاع في أقل من شهر وقبل أن ينصب أن يوقف الحرب على غزة، قادر على أن يفي بتهديداته. ولذلك بادرت السعودية، إلى التجاوب مع توعدات ترامب، بالإعلان عن نيتها استثمار 600 مليار دولار في ظرف أربع سنوات، وتحدثت عن تعزيز التعاون بين البلدين وعن جهود إحلال السلام في المنطقة ومكافحة الإرهاب، وهناك تخوف كبير من التصريح الذي توعد به في حال لم يتم إقرار صفقة وقف إطلاق النار بغزة، بأنه سيحول الشرق الأوسط إلى جحيم، لكن ليس ثمة تحليل عميق لحدود السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة بالغة الحساسية والتعقيد، وللفارق العميق بين المثال والواقع، والتصريح المعلن والرسالة الثاوية فيه.
في الصورة، ثمة اتجاهان للتحليل، الأول، ما سبق لإسرائيل الإعلان عنه، أي تغيير لصورة الشرق الأوسط، بحيث يزول بالكلية النفوذ الإيراني في المنطقة وما يرتبط به من أذرع، ونهاية قوى المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس، لفائدة، اندماج إسرائيلي في محيطها الإقليمي، وتوسع مسار التطبيع ليشمل المنطقة برمتها برعاية وضغط أمريكي. وفي الاتجاه الثاني، ثمة صورة لشرق أوسط يحتفظ بسمات التعقيد، ومؤشرات التوتر، وبعدم القدرة على حسم المعركة ضد قوى المقاومة الفلسطينية، وتنامي أدوار تركيا، وفشل إسرائيل في توسيع اتفاقات أبراهام مع المتبقي من الدول العربية.
الواقع الحالي، يشير إلى هزة كبيرة داخل الكيان الإسرائيلي، وانهيار القدرات الاقتصادية التي تؤهلها للعب الأدوار التي بشر بها بنيامين نتنياهو، وهو يقدم كلمته بالجمعية العامة للأمم المتحدة، وتشير بالمقابل إلى تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، في لبنان، وسوريا، وربما حتى في العراق في القادم من الأيام، ورهان أمريكي على نفس سلاح العقوبات القاتلة التي اعتمدها ترامب ضد إيران في عهدته السابقة، ومحاولة لاستغلال حاجة الدولة السورية الجديدة إلى النهوض، من أجل استدراك الأمر، وعدم ترك تركيا وحدها تأخذ بزمام المبادرة في المنطقة.
في الصورة بالملخص، ثمة رهان على تحقيق رؤية ترامب في إنهاء عزلة إسرائيل وتصحيح صورتها، وإطلاق يدها في المنطقة عبر التطبيع، وإضعاف إيران وخنقها اقتصاديا، وتحريك بؤر التوتر الاجتماعي داخلها، من أجل القضاء على النظام السياسي، وربما الاضطرار إلى ضربات عسكرية تستهدف برنامجها النووي، لكن في المقابل، ثمة واقع عنيد، يبرره من جهة صمود المقاومة الفلسطينية على أرضها، وبروز الدولة السنية الراعية (تركيا)، وعدم القدرة على التنبؤ بخصوص مستقبل سوريا، وفي أي اتجاه تسير، ومن جهة أخرى، تداعيات السياسات التي تقدم عليها إسرائيل المدعومة أمريكيا في فلسطين المحتلة، أي سياسة الاستيطان، وتهويد القدس، وتهجير الضفة الغربية، مما يصير معه التطبيع أمرا بالغ التعقيد.
هناك في الواقع، من يرى أن نتنياهو يمثل عائقا كبيرا في وجه سياسة ترامب في منطقة الشرق الأوسط، وأن نجاح ضغط ترامب على نتنياهو لإنهاء الحرب في غزة، كان البديل عنه، إعطاء ثمن لإسرائيل، بتحويل وجهتها للضفة الغربية، والضغط على السلطة الفلسطينية للقيام بدورها في إنهاء قدرات حماس بهذه المنطقة، وتهجير الفلسطينيين منها في أفق تحقيق الحلم التاريخي المتعلق بالسيطرة الكاملة على القدس وبناء الهيكل وهو تحليل صحيح، برزت كثير من مؤشراته هذا الأسبوع، لكن المؤكد أن الثمن الذي أخذه نتنياهو ومن معه من أحزاب اليمين المتطرف، هو ثمن مؤقت، وأنه سيتبدد في اللحظة التي يستشعر فيها ترامب أن قطار التطبيع، لا يمكن له أن يمضي، لأن ما تقوم به إسرائيل يعني في الجوهر العودة إلى النقطة التي بررت حدث طوفان الأقصى. ولذلك، سيكون أقرب طريق لإنهاء هذا السيناريو هو التضحية بنتنياهو.
تقديري أنه لن يكون هناك جديد في سياسة ترامب، فبوصلته واضحة، تسوية مع روسيا وكوريا الشمالية، وضغط على الصين بأفق التسوية التي تخدم الولايات المتحدة الأمريكية، وتفعيل مبدأ الأفضلية لأمريكا في التعاملات التجارية لاسيما مع كندا وأوروبا ودول الخليج، وضغط متزايد لخنق إيران وأذرعها في المنطقة، واشتغال حذر في منطقة الشرق الأوسط لتحقيق نوع من الاختراق في مجال التطبيع، ومراوحة المكان في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع السعي إلى إحداث سقف من التهدئة، لكن من دون أي مشروع سياسي.